
على مدى الجولات الخمسة من المفاوضات النووية التي تجري بين إيران والولايات المتحدة الأميركية بداية من 12 أبريل 2025، كانت الجولة الخامسة التي عقدت بالسفارة العمانية بروما في 23 مايو الجاري، هى الأقل على مستوى تحقيق تقدم في القضايا الخلافية العالقة بين الطرفين، لدرجة زادت من الغموض الذي تتسم به المسارات المحتملة التي يمكن أن تتجه إليها تلك المفاوضات في النهاية.
تباعد المواقف بين طهران وواشنطن
وفي الواقع، فإن ذلك يمكن تفسيره في ضوء عوامل ثلاثة عديدة: أولها، تباعد المواقف بين طهران وواشنطن فيما يتعلق بعمليات تخصيب اليورانيوم. فقد بدا واضحاً أن الأخيرة ما زالت مصرة على ضرورة توقف الأولى تماماً عن التخصيب، حتى لو بمستوى متدنٍ، وانعكس ذلك في تصريحات المبعوث الأميركي إلى الشرق الأوسط رئيس وفد التفاوض ستيف ويتكوف، والتي قال فيها أن الولايات المتحدة لن تسمح لإيران بتخصيب اليورانيوم حتى لو بمستوى 1%. (سي إن إن، 19 مايو/أيار 2025)
وقد قوبل هذا الشرط الأميركي برفض واضح من جانب إيران، سواء قبل انعقاد الجولة الخامسة أو بعدها. إذ أكد وزير الخارجية عباس عراقجي أن إيران لن توقع على اتفاق مع الولايات المتحدة يتضمن وقفاً للتخصيب. بل إنه شكك في مدى إمكانية مواصلة المفاوضات في حالة استمرار واشنطن في تبني هذا الشرط. (سكاى نيوز عربية، 23 مايو/أيار 2025)
جدوى المفاوضات مع واشنطن
وثانيها، انخراط المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي في الجدل المتصاعد على المستوى الداخلي الإيراني حول جدوى المفاوضات مع واشنطن. إذ كان لافتاً أنه شكك في النتائج التي يمكن أن تسفر عنها تلك المفاوضات، في إشارة واضحة إلى عدم ثقته في مدى التزام واشنطن بما يمكن أن تنتهي إليه تلك المفاوضات من اتفاق نووي محتمل بين الطرفين.
وقد أعطى ذلك ضوءاً أخضر لتيار المحافظين الأصوليين ووسائل الإعلام التابعة له من أجل شن حملة قوية ضد المفاوضات بل والمطالبة بإيقافها، باعتبار أنها تتضمن شروطاً تنتهك حقوق إيران السيادية في إشارة إلى عمليات تخصيب اليورانيوم. ففي افتتاحية صحيفة "كيهان" – وهى الصحيفة الأقرب إلى المرشد خامنئي – في 25 مايو/أيار الجاري، قال رئيس تحريرها حسين شريعتمداري أن الولايات المتحدة تسعى من خلال المفاوضات إلى نشر الفوضى والفتنة داخل إيران عبر تأجيج الانقسام بين من داعمي المفاوضات – الذين وصفهم بـ"المافيا الاقتصادية" - ورافضيها. (روزنامه كيهان، 4 خرداد 1404 هـ.ش)
ورغم أن تكهنات عديدة طرحت لتفسير هذا الانخراط المُفاجِئ للمرشد خامنئي في الجدل الداخلي حول جدوى المفاوضات، واعتبرت أنها تفرض ضغوطاً على المفاوض الإيراني لأنها لا توفر له هامشاً واسعاً من الخيارات أمام المفاوض الأمريكي، إلا أن ذلك قد لا يتسامح مع المعطيات الموجودة على الأرض.
إذ يمكن القول إن تدخل خامنئي في هذا الجدل يعبر عن سياسة مستقرة لدى طهران، تقوم على "تقسيم الأدوار" أو "التحدث بأكثر من لسان"، حيث دائماً ما تستخدم إيران هذا الأسلوب من أجل تعزيز موقعها في المفاوضات، وممارسة ضغوط أقوى على الطرف المقابل من أجل الحصول على مكاسب أو امتيازات أكبر وتقديم تنازلات أقل.
وهنا، فإن الامتياز الأهم الذي تسعى إيران إلى الحصول عليه يتمثل في الاحتفاظ بالحق في تخصيب اليورانيوم، حتى لو بمستوى لا يزيد عن 3.67%، وهو المستوى الذي حدده الاتفاق النووي الذي تم التوصل إليه بين إيران ومجموعة "5+1" في 14 يوليو 2015.
المقاربة الإسرائيلية إزاء المفاوضات
وثالثها، حرص إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب على العودة إلى التماهي مع بعض ما تضمنته المقاربة الإسرائيلية إزاء المفاوضات، خاصة فيما يتعلق بضرورة "تصفير" عمليات التخصيب. وقد بدا هذا الحرص جلياً في اللقاء الذي جمع ويتكوف مع كل من وزير الشؤون الاستراتيجية رون ديرمر ورئيس جهاز الموساد ديفيد برنياع في روما، وقبيل انعقاد الجولة الخامسة. (الشرق الأوسط، 23 مايو/أيار 2025)
وربما يكون ذلك محاولة من جانب الإدارة الأميركية لضبط ردود فعل تل أبيب تجاه المفاوضات وما يمكن أن تؤول إليه من نتائج في النهاية. إذ كان لافتاً أن واشنطن أعلنت قبل انعقاد الجولة الخامسة أن لديها معلومات تشير إلى استعداد إسرائيل لتوجيه ضربة عسكرية ضد المنشآت النووية الإيرانية.
تعمد إدارة ترامب تسريب هذه المعلومات في هذا التوقيت قد يكون الهدف منه هو ممارسة ضغوط أقوى على طهران من أجل الاستجابة لبعض مطالبها، ولا سيما التوقف عن تخصيب اليورانيوم. لكن بغض النظر عن ذلك، فإن هذا التسريب يشير بوضوح إلى أن ثمة قلقاً ينتاب واشنطن من إمكانية إقدام تل أبيب على عرقلة الصفقة المحتملة مع طهران، عبر تنفيذ عمليات أمنية أو عسكرية داخل المنشآت النووية، بشكل سوف يدفع الأخيرة إلى وقف المفاوضات، وربما الرد عسكرياً على تلك العمليات عبر استهداف إسرائيل والقواعد الأميركية في المنطقة.
وقد بدا ذلك جلياً في الرسالة التي وجهها الحرس الثوري، في 24 مايو الحالي، إلى كل من واشنطن وتل أبيب، والتي أفادت بأن الرد لن يتأخر على أي عملية عسكرية قد تتعرض لها المنشآت النووية، وجاء في البيان الذي صدر عن الحرس أن "اليد على الزناد"، (العربية، 24 مايو/أيار 2025)، في إشارة إلى وضع القوات على أهبة الاستعداد للتعامل مع أي تطور محتمل في هذا الصدد.
مآلات محتملة
أشار المسؤولون الذين شاركوا في مفاوضات روما إلى تحقيق "تقدم طفيف ولكنه ليس حاسماً" في الجولة الخامسة، وإلى إمكانية عقد جولة سادسة خلال الأيام القادمة لم يتحدد بعد مكانها وتوقيتها. وفي الواقع، يمكن طرح سيناريوهات ثلاثة لهذا "التقدم الطفيف وغير الحاسم" الذي تم الحديث عنه: الأول، أن يكون الوفد الإيراني قد تمكن من تأكيد عدم إمكانية الوصول إلى اتفاق نووي يتضمن توقف طهران عن تخصيب اليورانيوم، على نحو يمكن أن يكون قد ساهم – بشكل أوَّلي - في تغير الموقف الأميركي بشكل نسبي. وسوف يتضح مدى إمكانية حدوث ذلك من خلال التصريحات الأميركية قبيل الجولة السادسة.
والثاني، أن يكون الطرفان قد اتفقا على ترحيل الملفات الخلافية، وفي مقدمتها تخصيب اليورانيوم، إلى مرحلة لاحقة، على أساس أن الوصول إلى توافق أو حلول وسط حول القضايا الأقل إثارة للخلافات يمكن أن يساعد في بناء الثقة بين الطرفين ويمهد المجال أمام الوصول إلى تسوية للمعضلة الأهم والخاصة بالتخصيب.
والثالث، أن تكون قد طرحت أفكار جديد فيما يتعلق بعمليات التخصيب تطلبت من وفدى التفاوض ضرورة العودة إلى طهران وواشنطن من أجل عرضها على القيادة السياسية والحصول على ضوء أخضر بشأنها إما بقبولها أو التفاوض حولها أو رفضها. وقد بدأت بالفعل تقارير عديدة تشير إلى طرح خيار إبرام اتفاق إطاري يمكن أن يتضمن وقفاً مؤقتاً للتخصيب مقابل رفع جزئي للعقوبات الأميركية، على أساس أن هذا الاتفاق يمكن أن يساعد في الوصول إلى الهدف الأهم وهو إبرام تسوية شاملة تتضمن توافقات على كل القضايا الخلافية.
وربما يساعد هذا الاتفاق الإطاري في احتواء عقبة "آلية الزناد" التي ما زالت تلوح بها الدول الأوروبية التي تبدي استياءً واضحاً بسبب إبعادها عن هذه المفاوضات رغم خلافاتها المتعددة مع إيران والتي تريد الوصول إلى تسوية لها قبل إبرام أي اتفاق نووي محتمل.
على ضوء ذلك، يمكن القول في النهاية إن الجولة السادسة من هذه المفاوضات – إن عقدت – سوف تكون هي الأكثر أهمية مقارنة بالجولات السابقة، باعتبار أنها سوف تحدد بدرجة كبيرة السيناريو الأكثر ترجيحاً لما سوف تؤول إليه هذه المفاوضات في النهاية.