وضع الفصائل الكردية في سوريا في ظل التغيرات الجارية

تقديرات

وضع الفصائل الكردية في سوريا في ظل التغيرات الجارية

27-Jan-2025

تواجه الفصائل الكردية في شمال وشرق سوريا بقيادة قوات سوريا الديمقراطية، تحديات كبيرة تزايدت وتيرتها منذ سقوط نظام الرئيس السابق بشار الأسد، حيث ارتفعت حدة المعارك والهجمات التي تشنها فصائل معارِضة مدعومة تركياً على هذه القوات، وسط ضبابية وعدم وضوح بشأن سياسة واشنطن المقبلة تجاه وجود القوات الأمريكية في كل من العراق وسوريا.

لقد مكّن عدمُ الاستقرار الناجم عن الحرب في سوريا الجهاتِ العسكريةَ والسياسية الكردية من السيطرة على أجزاء من المناطق الشمالية والشمالية الشرقية من سوريا، ومن خلال هذه السيطرة والقيام بدور رئيس في محاربة تنظيم داعش، طغت القضية الكردية فترةً طويلةً على منطقة الشرق الأوسط. وتنبع الأهمية الإستراتيجية لهذه المنطقة من دورها كنقطة التقاء بين ثلاث دول هي تركيا وسوريا والعراق، وقد فتحت نقطة التقاطع هذه المجال أمامها للتواصل مع الأكراد المقيمين في هذه الدول.

من جهة أخرى، توجد عدة معابر حدودية في هذه المناطق، بعضها مغلق بسبب الحرب، وبشكل عام تقع معابر "القامشلي، عين ديوار، رأس العين، تل أبيض، كوباني، جرابلس، باب السلامة، باب الهوى وكسب" على الحدود المشتركة مع تركيا، كما تقع معابر "التنف، البوكمال، اليعربية" على الحدود المشتركة بين سوريا والعراق، وتخضع معابر "اليعربية، عين ديوار، سيمالكا، رأس العين، القامشلي، كوباني" في شمال شرق وشمال سوريا لسيطرة القوات الكردية.

تتمتع المناطق الخاضعة لسيطرة القوات الكردية بأهمية اقتصادية كبيرة بالنسبة لسوريا، وتكتسب هذه القضية أهمية كبيرة للحفاظ على موارد النفط والغاز الجوفية، فضلاً عن موارد المياه. كما تشكل الزراعة والأراضي الصالحة لها أهمية كبيرة بالنسبة للحكومة السورية، وما زالت محافظة الحسكة في الشمال الشرقي تعد الخزان الرئيس لإنتاج القمح في البلاد.

ساند التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية القوات الكردية خلال سنوات عديدة في قتال ومحاربة داعش، وكانت العمليات العسكرية التي يقوم بها الأكراد تحظى باهتمام معظم القوى الإقليمية والدولية، ما منحهم قوة سياسية واجتماعية واقتصادية كبيرة، واستُقبِل المسؤولون الأكراد من قبل كل من الرؤساء الأمريكيين والفرنسيين ومسؤولين أوروبيين آخرين، وأُشيد بهم على المستوى العالمي.

لكن حالة القوة هذه تحولت إلى موقف دفاعي، حيث تشن فصائل "الجيش الوطني السوري" بدعم تركي هجمات مستمرة على القوات الكردية، كما يهدد المسؤولون الأتراك بإطلاق عملية عسكرية ضدهم، ونظراً إلى تحليل التحركات الميدانية للفصائل المدعومة من أنقرة يتبين أنها بعد أن تمكنت من السيطرة على مدينة منبج تحاول التقدم والسيطرة على سد تشرين، وهي تهدف بالدرجة الأولى لعزل ومحاصرة مدينة كوباني/عين العرب، والتقدم باتجاه السيطرة على مدينتي الطبقة والرقة ومن ثم دير الزور.

تشير التطورات في سوريا إلى أن ميزان القوى لم يعد مناسباً للفصائل الكردية، نتيجة لوصول جهات مدعومة من تركيا إلى الحكم في سوريا، وبالتالي فإن أي عملية توافق بين الأكراد والسلطات السوريا الجديدة لن تتم دون ترتيبات من القوى الداعمة لها، وبالأحرى فإنه لن يحدث أي اتفاق دون أن يكون هناك تفاوض بشكل مباشر مع أنقرة التي تهمها المسألة الكردية في سوريا والعراق بشكل مباشر، وبالتالي فإن تركيا يمكن أن تدفع الإدارة الجديدة في دمشق لإعلان تأييد العمليات العسكرية ضد الأكراد.

عودة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وهو الذي أطلق مسار الانسحاب من سوريا خلال ولايته الماضية، يمكن أن تؤثر في قوة الأكراد وتتركهم وحيدين في مواجهة القوى التي تحاربهم، خاصة أن إدارة ترامب ستكون مهتمة أكثر بإنهاء الأزمة الأوكرانية ومواجهة الصين وقضايا داخلية ومؤثرة بشكل مباشر في الوضع الأمريكي.

فمع احتمال تقليص الالتزام الأمريكي بعد تسلم ترامب الحكم، يلعب الأكراد لعبة خطِرة من خلال الرهان فقط على الدعم الأمريكي طويل الأمد، في حين يقف جيرانهم المباشرون ضدهم وفي خضم التحديات العالمية الأوسع نطاقاً، لا تتمتع الولايات المتحدة وشركاؤها الغربيون باليد القوية أو المصلحة الإستراتيجية طويلة الأجل في البقاء في سوريا، لكنهم لا يستطيعون الانسحاب دون إستراتيجية للحفاظ على دعم استقرار وأمن سوريا (specialeurasia – 6 مايو 2024).

إن إطلاق التصريحات الأمريكية والفرنسية والإسرائيلية المساندة للأكراد في سوريا من الواضح أنه يزيد إصرار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على محاربة الفصائل الكردية وذلك لسببين: الأول يتعلق بالرغبة في إظهار التحدي والقوة والإصرار على أنه الطرف الأقوى في سوريا، والسبب الثاني يتعلق بقلق تركي من أن القوى الدولية يمكن أن تساعد الأكراد في المستقبل وللعمل ضد تركيا ومصالحها بما في ذلك العمل على إضعاف تركيا من الداخل، والدفع باتجاه تقسيمها، لذلك فإن الموقف الغربي المؤيد علنياً للأكراد، ورغم فائدته المعنوية لم يقدم دعماً عسكرياً وسياسياً كافياً لهم.

لعل أبزر أوراق القوى التي يمتلكها الأكراد، ملف محاربة داعش وحماية مخيمات وسجون يوجد فيها الآلاف من مقاتلي التنظيم وعوائلهم، وهذا ما يثير قلق القوى الإقليمية والدولية. ورغم أهمية الدور الذي تقوم به القوات الكردية في ذلك، فإنه لم يتم التجاوب مع المبادرات التي طرحتها الفصائل الكردية حول إمكانية إنشاء محكمة دولية في شمال وشرق سوريا للتحقيق مع عناصر داعش ومحاكمتهم، وكان إنشاء هذه المحكمة من الممكن أن يسهم في تقديم نوع من الدعم الدولي للقوى الكردية التي تسيطر على شمال وشرق سوريا.

في ظل فشل هذه المبادرات فإن الأكراد مهددون بخسارة هذه الورقة المهمة، حيث ظلت تركيا تضغط بشكل مكثف خلال الأسابيع الماضية بشأن تسليم مهمة حماية عناصر داعش وعوائلهم المحتجزين في شمال وشرق سوريا إلى الحكومة المؤقتة في سوريا، ومن الممكن أن تطور تركيا مقترحاتها بشأن ذلك، ومنها نقلهم إلى الأرضي التركية، وحمايتهم بإشراف دولي أو إنشاء مقارَّ في مناطقَ سوريةٍ أخرى تحت إشراف دولي. أيضاً، ستحاول أنقرة تقديم المغريات كافة بهدف عدم إبقاء ملف عناصر داعش وعوائلهم بيد الفصائل الكردية.

ولعل أحد أهم من الملفات الضاغطة على الفصائل الكردية، الملف الاجتماعي حيث لم تنجح جميع الوساطات الأمريكية والفرنسية بالتوصل إلى اتفاق كردي – كردي بين حزب الاتحاد الديمقراطي -الذراع السياسية لقوات سوريا الديمقراطية التي يقودها الأكراد- والمجلس الوطني الكردي المدعوم من إقليم كردستان العراق. من جهة أخرى لم تنجح جميع المحاولات الأمريكية حتى الآن بتعزيز دور المكونات الأخرى ضمن قوات سوريا الديمقراطية والإدارة الذاتية التابعة لها حيث سعت واشنطن، خاصة في محافظتي الرقة ودير الزور لإشراك المكون العربي بشكل حقيقي، إلا أن ذلك لم يتحقق؛ لعدم موافقة القيادات الكردية على التخلي عن أي نفوذ أو صلاحية.

إن سقوط نظام الأسد ووصول الفصائل المعارضة إلى الحكم وخروج إيران ومليشياتها من سوريا وإضعاف النفوذ الروسي إلى حد شبه كامل، يمكن أن يؤثر في سياسات القوى الدولية. فلم تعد هناك حاجة لدعم الفصائل الكردية والبقاء في المنطقة للضغط على النفوذ الإيراني أو فرض ضغط على نظام الأسد كما كان يحدث في السابق. كما أن التعامل الدولي مع الحكومة المركزية في دمشق سيكون مؤثراً في التعاون مع الفصائل الكردية، وبالتالي ستفقد هذه الفصائل قدراً كبيراً من قيمتها السياسية والعسكرية والأمنية.

بلا شك، ستكون سياسة ترامب عاملاً حاسماً ومؤثراً في مصير الفصائل الكردية في سوريا، فإما أن تضغط إدارته المقبلة لترسيخ تهدئة والتوصل إلى اتفاق أو إعلان انحساب للقوات الأمريكية بشكل كامل من سوريا، وهذا ما يسمح لتركيا بالتعاون مع دمشق بإطلاق عمليات عسكرية واسعة ضد هذه الفصائل.

لكن رغم ذلك فإن هناك عدة ملفات عالقة يمكن أن تمنح الفصائل الكردية بعضاً من الوقت لترتيب أوراقها مجدداً، حيث لا ترغب الولايات المتحدة الأمريكية في منح مهمة حماية عناصر داعش وعوائلهم المحتجزين في شمال وشرق سوريا لكل من سلطة دمشق وتركيا، لأنها تخشى إعادة استخدامهم، خاصة أن هيئة تحرير الشام تضم مقاتلين أجانب، كما أنه كانت هناك اتهامات عديدة بأن تركيا سهلت عبور مقاتلي داعش إلى سوريا.

ورغم الضعف التنظيمي والإداري وانتشار الفساد، فإن الفصائل الكردية تمكنت من إنشاء مؤسسات أمنية وخدمية تعمل على تثبيت الاستقرار والأمن في المناطق التي تسيطر عليها، وهي تقدم الحد الأدنى من الخدمات للمواطنين، وهذا ما يمنحهم الخبرة الكافية للمشاركة في العملية السياسية والحكومية والإدارية المقبلة في سوريا في حال لم تعارض تركيا.

إن مصير الفصائل الكردية أيضاً متوقف على الوضع في دمشق، وفي حال تم الاعتراف بشكل كامل بالحكومة السوريا المقبلة بعد انطلاق المرحلة الانتقالية كما هو مقرر، ونجاح السلطات بتبديد مخاوف القوى الإقليمية والدولية، فإن هذه القوى ستزيد تعاونها مع دمشق على حساب التعاون مع الفصائل الكردية. وفي حال حدثت انتكاسة سياسية وأمنية متوقعة في سوريا فإن ذلك يعيد الاهتمام والأهمية لدور هذه الفصائل. 

176