
تقع العديد من المناطق السورية على خط صدع طائفي وسط انفلات أمني كان من المفترض أن ينتهي فور سقوط النظام، حتى بدأت تتنامى مخاوف حقيقية من أن يكون ذلك مؤشر خطر على تجربة الانتقال السياسي في سوريا، وجر البلاد إلى مستنقع حرب أهلية أخرى، تمهيدا لفرض خيار تقسيم البلاد إلى مناطق ذات سمات طائفية. فمع سقوط الرئيس بشار الأسد، دخلت سوريا مرحلة من التغيرات الأمنية التي أثرت بشكل واضح على حياة المدنيين، حيث تصاعدت وتيرة أحداث العنف في العديد من المناطق، ما أدى إلى انتشار حالة من القلق والخوف بين السكان تنذر بخطر التقسيم.
وقد برزت
محافظتا حماة وحمص كأكثر المناطق تأثرا بالتطورات، حيث أصبحتا ساحتين لمواجهات
متكررة بين عناصر الإدارة الجديدة ذات الانتماء السني المتشدد من ناحية، والعلويين
من ناحية أخرى، ما زاد من معاناة السكان المحليين. في الوقت نفسه، شهدت مناطق
الساحل مثل اللاذقية وطرطوس ارتفاعا ملحوظا في التوترات الأمنية وجرائم القتل
والإعدامات، الأمر الذي أثر على نمط الحياة فيها، إضافة إلى استهداف الأحياء
المسيحية في دمشق، والاشتباكات المسلحة في مناطق متفرقة من سوريا، خاصة في مناطق
سيطرة قسد. في ظل هذا المشهد، وجد المدنيون أنفسهم عالقين في دوامة من الصراعات
المستمرة، ذات الصبغة الطائفية.
ووفقا لتوثيقات
المرصد السوري لحقوق الإنسان، فقد تم تسجيل 95 جريمة قتل منذ انهيار النظام في هذه
المحافظات، شملت إعدامات ميدانية، وأودت بحياة 197 شخصا، بينهم نساء وأطفال. فضلا
عن عمليات الاعتقال التي لا تستند إلى أدلة واضحة أو أوامر قضائية رسمية تضمن
احترام حقوق الأفراد وحمايتهم من التعسف والانتهاكات غير القانونية (المرصد السوري لحقوق الإنسان: 15 يناير
2025).
الأمر الذي زاد المشهد تعقيدا، كان في تسريح الإدارة الجديدة لآلاف من
العسكريين في الجيش العربي السوري، ومنعهم من الحصول على معاشات تقاعدية، وإنهاء
تعاقدات الآلاف من موظفي الإدارات المدنية ووقف رواتبهم بحجة توفير النفقات
الحكومية من خلال القضاء على ما أسموه البطالة المقنعة، وذلك في الوقت الذي تعاني
فيه كافة الأسر السورية من ضيق سبل العيش خلال أزمة اقتصادية طاحنة تعصف بالبلاد. وقد نظم العديد
من أهالي دمشق ومدينتي اللاذقية وجبلة وقفات احتجاجية للمطالبة بعودتهم إلى العمل
حتى يستطيعون الإنفاق على أسرهم. كما طالب آخرون بالإفراج عن العسكريين الذين
اعتقلتهم السلطات، لفتح صفحة جديدة يستطيعون بعدها المشاركة في بناء وتنمية البلاد
(المرصد السوري لحقوق الإنسان: 18 يناير
2025).
قبل عملية
"ردع العدوان" كانت سوريا مُقسمة بين ثلاث سلطات، بشار وحكومته في دمشق،
وحكومة الإنقاذ في مواقع سيطرة هيئة تحرير الشام في إدلب، والإدارة الذاتية بقيادة
مجلس سوريا الديمقراطي في الشمال الشرقي من البلاد. وبعد سقوط بشار أصبح رئيس
حكومة الإنقاذ محمد البشير رئيسا لحكومة انتقالية حتى مطلع مارس، ما يعني أن
البلاد أصبحت تضم سلطتين، تسيطر الانتقالية على أغلب سوريا، والثانية وتتمثل مناطق
الإدارة الذاتية في الحسكة والرقة ومحيط دير الزور.
من جهة أخرى،
فإن مركزية السلطة السياسية ليست هيكلية في عموم البلاد، إذ تتبع العديد من مناطق
الأقليات سلطات محلية يقودها الشيوخ ووجهاء القبائل، كالدروز في محافظة السويداء،
وربما يحدث ذلك في مناطق الساحل السوري التي تضم حضورا علويا كبيرا في المستقبل،
فبالرغم من أن مشايخ الطائفة تبرأوا من الأسد، إلا أن مؤشرات عدم الاستقرار لا
تزال ماثلة، خاصة وأن معظم قادة المؤسسة العسكرية القديمة والمليشيات التابعة لها
اتجهوا إلى الساحل بعد تغيير النظام. وهكذا فإن مستقبل سوريا منوط الآن بمدى قدرة
السلطة الانتقالية على توحيد البلاد تحت قيادة مركزية واحدة.
في مقال لأسعد
أبو خليل أستاذ أستاذ العلوم السياسية بجامعة ولاية كاليفورنيا في ستانيسلاوس، كتب
أنه في ظل عدم وضوح أثر الصراعات المحلية على استقرار الحكم الحالي في دمشق، فمن
الممكن النظر في سيناريو التقسيم، وقد تحذو سوريا خلاله حذو ليبيا، وتستمر
الصراعات الإقليمية بين أولئك الذين يدعمون الإسلاميين والذين يكرهونهم لسنوات
عديدة قادمة، فعلى الرغم من أن الميليشيات الإسلامية لديها تاريخ طويل من إراقة
الدماء، لكن حجمها ليس كبيرا، وقد تواجه تحديات عسكرية من جبهات مختلفة، وتفقد البلاد
سلامتها الإقليمية لتصبح رقعة من الجيوب الطائفية شبه المستقلة، حيث يحكم الدروز
إقليمهم الخاص، وسيفعل العلويون والأكراد الشيء نفسه، خاصة وأن الكرد يسيطرون
بالفعل على قسم كبير من البلاد ويملكون ميليشيا مسلحة تسليحا أميركيا متطورا. وبالطبع
سيكون تقسيم البلاد بهذه الصورة مثيرا للقلق بالنسبة لتركيا، التي ترغب في استخدام
القوة العسكرية لسحق دويلة كردية مستقلة محتملة داخل سوريا.
ويضيف أبو خليل
أنه في حالة احتكار هيئة تحرير الشام السلطة السياسية والحكم بمفردها متجاهلة
مطالب التمثيل الأوسع، فهذا من شأنه أن يثير قلق الأقليات الدينية والنساء، نظرا
للأصول الإيديولوجية للحكام الجدد. وقد تفضل الولايات المتحدة وإسرائيل هذا
السيناريو إذا كان البديل هو الديمقراطية غير القابلة للسيطرة بالقرب من فلسطين (Transcend Media: 6 January 2025).
وهكذا تفرض سيناريوهات التقسيم على أسس
جغرافية أمنية وطائفية وإثنية نفسها بقوة، فلا تزال هناك حالة من عدم اليقين لدى العلويين والدروز
والأكراد بنوايا القوى الإسلامية التي وضعت يدها على مقاليد الحكم، لا سيما أن كل
من تلك الأقليات تمتلك فصائل مسلحة خاصة بها ودعم خاص من جهة خارجية، فالأكراد
تدعمهم واشنطن بقوة، وروسيا وإيران وحزب الله والعراق يدعمون العلويين، وتسعى
إسرائيل لفتح قنوات مع الدروز، الذين يمثلون رابع أقلية إثنية دينية بين المواطنين
العرب في إسرائيل. والذين طلب زعمائهم في قرية الخضر جنوبي سوريا، بضم قراهم إلى
أراضي هضبة الجولان، وأن يعيشوا تحت الحماية الإسرائيلية بعد سقوط الأسد، وفق ما أعلنته قناة i24 الإسرائيلية في 13 ديسمبر الماضي.
وأكد الخبير في شؤون الشرق الأوسط الدكتور حسن مرهج
أن احتمالات تقسيم البلاد سترغم تركيا على مواصلة استعداداتها لتوسيع نفوذها في
شمال سوريا، في حين يبقى الوجود الأميركي متمركزا في الشرق، وهو ما يخلق حالة من
التأهب في سوريا. وأوضح أن إسرائيل تتابع عن كثب هذه التطورات، وقد تحتاج إلى
التوسع أكثر لتعزيز أمنها القومي وإزالة أي خطر مستقبلي على حدودها (روسيا اليوم: 19 ديسمبر 2024).
إن المرحلة
المقبلة تتطلب تحقيق اندماج يعزز الوحدة الوطنية ويعيد ترميم النسيج الاجتماعي
الذي تعرض للتفكك خلال سنوات الأزمة السورية، لضمان استقرار البلاد في ظل تنوع
الطوائف الدينية والعرقية المختلفة. والأكيد أن احتمالات التفكك مرتفعة، لأن سوريا
أقل تجانسا عرقيا ودينيا. وما يثير القلق تلك الحملات القمعية التي شنتها الحكومة
الجديدة ضد العلويين، والتي أثارت غضب الطائفة، وتسببت في الترويج لدعوات للدفاع
عن النفس في مناطقها، مما ينذر بسيناريوهات صعبة مثل التقسيم أو الحرب الأهلية.
على أية حال،
فإن التنبؤ بالمستقبل السياسي لسوريا بالنسبة للخبراء والمحللين هو الأصعب حاليا، والإيديولوجية
التي يحملها الحكام الجدد لسوريا غريبة للغاية على مجتمع متنوع وله تاريخ من
الميول العلمانية، كما أن هناك العديد من المطالبين بالسلطة داخل البلاد، ما ينبئ
بأن المستقبل القريب لسوريا لن يكون سلميا.