مقالات تحليلية

سلطة الأمر الواقع في السودان وسؤال الشرعية

26-Jun-2025

 يشهد السودان، الذي مزقته الحرب والانقسامات المجتمعية الحادة، تحديات معقدة فيما يتعلق بشرعية السلطة الحاكمة. في ظل هذا الواقع المعقد، جاء تعيين الدكتور كامل إدريس رئيسًا للوزراء ، لمحاولة إضفاء طابع مدني على سلطة عسكرية قائمة على الأمر الواقع. لكن هل يمنح هذا التعيين حكومة إدريس الشرعية اللازمة في بلد تنهار فيه الأطر الدستورية؟

يقول ياسر عرمان في مقال نشره موقع سودان تربيون، أن تعيين إدريس على أساس الوثيقة الدستورية الجديدة يجعل منه موظفاً عند العسكر ولا سلطة له ومبنى بلا معنى، وبئر معطلة وقصر مشيد. ، وأنه هو ليس برئيس وزراء مدني، بل هو رئيس وزراء حرب. فهل يستطيع الدعوة للتفاوض؟ وهل سيدعو لوقف الحرب وهل سيعمل على حل الكارثة الانسانية وحماية المدنيين؟ وهل تشكل هذه القضايا أولوياته؟ وان لم تكن تلك أولوياته وان الحرب هي أولياته هل سيجد اي اهتمام داخلي وخصوصاً خارجي؟

وفي 25 يونيو 2025 أكد قيادي في التحالف المدني الديمقراطي لقوى الثورة (صمود) الذي يتزعمه رئيس الوزراء السابق الدكتور عبدالله حمدوك  لسودان تربيون، عدم وجود نية لتسليم رؤيتهم السياسية لوقف الحرب لرئيس الوزراء السوداني المُعيَّن كامل ادريس. مؤكدًا أن التحالف لا يعترف بأي حكومة يتم تشكيلها في بورتسودان أو في أي مكان آخر داخل البلاد.

 

مناورة عسكرية أم استجابة مدنية؟

لقد ترك إنقلاب الفريق عبد الفتاح  البرهان السودان يتخبط في فراغ دستوري وتنفيذي لأكثر من ثلاث سنوات، تمكن خلالها الجيش من إحكام قبضته على جميع مقاليد السلطة السياسية والعسكرية، ثم تفاقمت نيران الحرب الأهلية وانهارت بنية مؤسسات الدولة انهيارًا شبه كامل. في ظل هذه الظروف المعقدة، جاءت خطوة تعيين "إدريس" في أبريل 2025 كمحاولة لحلحلة المشهد السياسي المتجمد دوليًا أكثر بكثير مما هي استجابة حقيقية لضغط شعبي داخلي متصاعد أو مطالب جماهيرية ملحة.

فدوافع المؤسسة العسكرية لم تكن نابعة من قناعة بتقاسم السلطة مع مدنيين، بل هي مدفوعة بضرورات منها:

  1. تجنب العقوبات المتصاعدة.
  2. تقديم خطاب مدني للمجتمع الدولي بعد الانتصارات الأخيرة التي حققها الجيش في الخرطوم.
  3. كسب وقت إضافي لترتيب بيت السلطة دون تقديم تنازلات جوهرية.

خلال هذه الحرب، شكلت العقوبات الدولية حاجزًا كبيرًا أمام مؤسسة الجيش بشكل متزايد، خاصة مع فرض وزارة الخزانة الأمريكية عقوبات مباشرة على البرهان في يناير 2025، شملت تجميد أصوله المالية ومنع المؤسسات الأمريكية من التعامل معه. وفي مايو 2025، أعلنت واشنطن أيضًا فرض عقوبات اقتصادية على الحكومة السودانية بقيادة البرهان، رئيس مجلس السيادة، بعد اتهامها باستخدام أسلحة كيميائية خلال العمليات العسكرية في 2024.

انهيار الشرعية الدستورية وتناقض الخطاب مع الواقع:

  منذ الانقلاب على حكومة الثورة برئاسة الدكتور  حمدوك في 25 أكتوبر 2021، انتهت الشرعية الدستورية في السودان. ومع اندلاع الحرب العبثية في أبريل 2023، انهار الدستور بالكامل، خاصة بعد التعديلات التي أجراها البرهان ومنحته صلاحيات واسعة ، ولتعزيز السيطرة وتأكيد شرعية سلطة الأمر الواقع، تم تعيين الدكتور إدريس بهدف كسب المزيد من القبول الدولي والإقليمي وفرض واقع سياسي لا يمكن تجاوزه من قبل جنرالات الجيش السوداني.

حاول الدكتور كامل إدريس، في خطابه الأول بعد تعيينه، أن يرسم صورة مقربة من الشارع السوداني عبر عبارات مثل "سوف أقف على مسافة واحدة من جميع القوى السياسية، ولكنني سألغي هذه المسافة مع الشعب السوداني"، و"معًا نستطيع الوصول إلى مشروع وطني"، و"لا أريد أن أكون حاكمًا للشعب، بل خادمًا له". حمل الخطاب وعودًا طموحة حول التنمية المستدامة، ومحاربة الفقر والفساد، وتحقيق الأمن القومي، وخدمة المواطن السوداني.

 لكن الواقع المشحون بالصراع العسكري يجعل هذه النبرة التفاؤلية تتصادم مع حقيقة أن البلاد تُدار بفوهات البنادق لا بقواعد السياسة المدنية. فالسلطة في السودان ليست محكومة بالدساتير أو المؤسسات المنتخبة، بل هي نتاج صراع أدى إلى انهيار شامل للدولة. في هذا السياق، تصبح الوعود بمثابة شعارات جوفاء ما لم يتبعها عمل حقيقي على الأرض يستند إلى قاعدة شرعية قوية.  ويرى مراقبون أن تحقيق أهداف مثل التنمية المستدامة والأمن القومي يتطلب وقف الحرب أولاً، وبناء الثقة، وترسيخ الشرعية الدستورية، وبسط السيطرة على الأرض.

شرعية على المحك:

  جاءت أول إشادة إقليمية لتعيين إدريس من رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي، محمود علي يوسف، الذي وصف القرار بأنه "تطور مهم نحو دعم الحوكمة الشاملة وترسيخ دعائم الاستقرار في السودان". وأكد يوسف التزام الاتحاد الأفريقي الراسخ بوحدة السودان وسيادته واستقراره الإقليمي، مشددًا على أن تعيين شخصية ذات خبرات دولية كبيرة مثل الدكتور إدريس يعكس إرادة سياسية حقيقية نحو الإصلاح وبناء مؤسسات الدولة على أسس مدنية.

على الرغم من ترحيب الاتحاد الأوروبي بالخطوة، إلا أن تصريحات رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي قوبلت بالرفض من تحالف قوى الثورة (صمود). أدان تحالف "صمود" التصريحات التي أدلى بها مفوض الاتحاد الأفريقي، والتي قيل فيها إنه "يستبشر خيرًا بتقدم القوات المسلحة". واعتبر التحالف أن هذه التصريحات "مخالفة صريحة لأنظمة الاتحاد الأفريقي التي لا تعترف بشرعية أي حكومة في السودان منذ انقلاب 25 أكتوبر 2021".

 يُبرز هذا الجدل مدى تعقيد المشهد السياسي السوداني، حيث يتنازع مفهوم الشرعية بين محاولات إضفاء الطابع المدني على سلطة الأمر الواقع من جهة، والتمسك بمبادئ الشرعية الدستورية من جهة أخرى.

 

استحقاقات السلام وواقع الأزمة:

 تجد حكومة الدكتور كامل إدريس نفسها أمام معضلة حقيقية في تشكيلها الوزاري، حيث تتصاعد الخلافات حول توزيع الحقائب، لا سيما مع أطراف اتفاق جوبا للسلام. ففي الوقت الذي يسعى فيه رئيس الوزراء لترسيخ مبدأ "الشخص المناسب في المكان المناسب"، تتمسك بعض الحركات الموقعة على الاتفاق باستحقاقات تراها ثابتة، مما يهدد بتعطيل مسيرة الإصلاح.

أصدر الدكتور محمد زكريا، أمين الإعلام والناطق الرسمي باسم حركة العدل والمساواة، بيانًا يؤكد فيه "التمسك الكامل باتفاق جوبا للسلام، بما يشمل مبادئه واستحقاقاته، بما في ذلك المواقع التنفيذية التي أُقرت بموجبه". يشير رئيس تحرير صحيفة التيار، عثمان ميرغني، إلى أن الخلاف لا يكمن في النسب المئوية المخصصة لأطراف اتفاق جوبا (ثلاثة مقاعد في مجلس السيادة، و25% من مقاعد البرلمان ومجلس الوزراء)، بل في تفسير "الاستحقاقات".

فبينما يرى البعض أن هذه النسبة تعني المرونة في اختيار الوزارات والأشخاص بما يخدم المصلحة الوطنية، يبدو أن حركتي جبريل ومناوي تفسران هذه الاستحقاقات بأنها المقاعد الوزارية التي خُصصت لهما في التشكيل الوزاري الأول في يناير 2021، والتي لم يطلها التغيير طوال السنوات الخمس الماضية. هذا التفسير يعني التمسك بوزارات معينة وأشخاص بعينهم، وهو ما يتعارض مع مبدأ "الشخص المناسب في المكان المناسب" الذي يطرحه رئيس الوزراء.

تكتسب هذه الخلافات حساسية خاصة نظرًا لتأثيرها المباشر على المسار العسكري. فالقوة المشتركة، التي تضم هذه الحركات، تشارك الجيش السوداني بفاعلية في جبهات القتال. ويُحمد للحركات أنها لم تساوم على مشاركتها في الميدان رغم إيحاءات المشهد العام، لكن موقفها يظل عرضة لضغوط من قواعدها التي قد لا تزال متأثرة بخطاب تقليدي يتظلم من عدم حصولها على نصيبها من السلطة.

 

تحديات هيكلية تهدد الدولة:

الخلافات حول التشكيل الوزاري ليست التحدي الوحيد الذي يواجه الدكتور كامل إدريس. فالسياق السوداني المعقد والمشحون بالحرب يفرض تحديات هائلة:

  • قبضة الجيش وتآكل الدولة: تُعد سيطرة الجيش على مفاصل الدولة، بدءًا من صنع القرار السياسي وحتى الجانب المالي، التحدي الأكبر. فالموارد تُوجه بالكامل لخدمة المجهود الحربي، مما يحد بشدة من قدرة الحكومة على تحقيق أي تنمية أو تقديم خدمات أساسية للمواطنين. في هذا المناخ، يصبح دور رئيس الوزراء المدني رمزيًا إلى حد كبير ما لم يتمكن من فرض رؤيته وخططه على المؤسسة العسكرية.
  • شبح الانفصال يلوح في الأفق: تتسارع الجهود في المناطق الخاضعة لسيطرة قوات الدعم السريع لتشكيل حكومة مناوئة، تسعى لتكون غطاءً سياسيًا لتوسع هذه القوات ومشروعها العسكري، بدعم مباشر من حلفائها الإقليميين. إذا استمرت هذه الجهود المتوازية دون تدخل حاسم أو إطلاق عملية تفاوض شاملة، فإن احتمالات الانفصال والتجزئة الجغرافية والسياسية ستكون أقرب إلى تهديد ملموس لوجود الدولة السودانية ووحدة أراضيها. هذا السيناريو الكارثي يهدد بتقسيم السودان إلى كيانات متناحرة، مما يزيد من معاناة الشعب ويجعل الحل السياسي أكثر تعقيدًا.
  •   غياب القاعدة الشعبية والحزبية: يفتقر الدكتور إدريس إلى قاعدة حزبية منظمة أو قاعدة شعبية مؤثرة داخل السودان. هذا يعني أنه لا يملك آلة سياسية قادرة على الحشد والتأثير بشكل مستقل. بناءً عليه، فإن الدعم الداخلي لإدريس يرتبط ارتباطًا مباشرًا بالمؤسسة العسكرية، مما يحد من استقلالية قراره وقدرته على فرض أجندة مدنية حقيقية.
  • دور المجتمع الدولي:  يجب على المجتمع الدولي ألا يكتفي بالواجهات الشكلية وأن يركز توقعاته على التغييرات الملموسة في السودان. هذا يتطلب تسهيل إيصال المساعدات الإنسانية، وحماية المدنيين، وبدء عملية تفاوض شاملة يقودها رئيس الوزراء المدني. بدون هذه الخطوات، سيبقى تعيين إدريس مجرد أداة تجميلية تفتقر للشرعية والمصداقية. ومع الضغط الخارجي المستمر، قد يتمكن إدريس من امتلاك فرصة نادرة تُمنح فقط في اللحظات المحورية إذا كان يملك المهارات القيادية اللازمة لاغتنامها.

وتظل الأسئلة مفتوحة، هل سيتمكن الدكتور كامل إدريس من تحقيق التوازن بين مطالب أطراف اتفاق جوبا ومبدأ "الشخص المناسب في المكان المناسب" لخدمة المصلحة الوطنية العليا في السودان؟ وهل يستطيع الضغط الدولي أن يمنحه النفوذ الكافي لتجاوز هيمنة الجيش وبدء عملية تحول حقيقية في ظل كل هذه التحديات؟ حتى الآن، مر لأكثر من شهر على تعيين إدريس رئيسًا للوزراء ولم يقم الرجل بخطوة حاسمة غير اعتماده تعيين وزيري الدفاع والداخلية، فيما تتمدد الحرب ويعاني السودانيون ويلاتها، فمن لم يمت منهم بنيران المواجهات قتلته (الكوليرا).

22