
شهد الملف الأوكراني خلال الأيام الماضية الكثير من التطورات التي أعادته إلى سُلّم الأولويات الدولية، بعد أن غيرت مكالمة أجراها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين مسار التعامل الأمريكي مع هذه الحرب، وهذا ما رات فيه وسائل الإعلام حدثا بالغ الأهمية.
وفي مكالمة واحدة، نجح ترامب في تغيير
موقف بوتين ومسار الحرب في أوكرانيا، فعلى مدى ثلاث سنوات، كان بوتين يُعامَل من
قِبَل الولايات المتحدة كعدو، ويبدو أن هذا الوضع تغير فقد أشار ترامب إلى أنه
سيرحب به مرة أخرى، بل يأمُل إقامة علاقات ودية. وقال مصدر في مؤسسة السياسة
الخارجية الروسية: "إن المكالمة المباشرة مع ترامب كانت على وجه التحديد ما
كان بوتن ينتظره. إنها مجرد بداية للمفاوضات، لكن بوتين فاز بالجولة الأولى".
الإرادة الأمريكية في فرض حل لإنهاء
الحرب
تعتمد مبادرة إدارة ترامب لإنهاء
الحرب في أوكرانيا، على رغبة واشنطن في إظهار قدرتها على تنفيذ ما وعدت به خلال
الحملة الانتخابية التي أسهمت في فوزه مجدداً بالانتخابات الرئاسية الأمريكية خاصة
أن أوكرانيا تعاني أزماتٍ عسكريةً واقتصاديةً. في المقابل فإن روسيا باتت أكثر
إرهاقاً وتعباً، وهذا ما أثر في جانب من نفوذها الخارجي.
ورغم أن الهدف الأول لإدارة ترامب
يمكن أن يكون إطلاق مسار المفاوضات بين الطرفين، دون التأكد من أنها ستنتهي بحلول
قوية، فإن الخبير في الشؤون الأوروبية، توفيق أكليمندوس، يرى أن انتهاء الأزمة في
أوكرانيا يحتاج إلى تقديم ضمانات أمنية قوية لكييف، وبالتالي فإن أمريكا هي وحدها
القادرة على تقديم مثل تلك الضمانات (الحرة – 23 فبراير 2025).
لكن في المقابل، ورغم النفوذ الذي
يمكن أن تتمتع به الولايات المتحدة الأمريكية للضغط على أوكرانيا، فإنها لا تتمتع
بنفوذ مثله يمكن أن يدفع الرئيس بوتين للرضوخ وإنهاء الحرب دون تحقيق أهدافه بشكل
كامل، خاصة أن الظروف المحيطة به باتت أفضل بنظر بعض الأوساط الروسية، حيث يرفض
الرئيس الأمريكي الجديد الدخول في أي حرب أو تقديم الدعم العسكري للقوات
الأوكرانية، وهذا ما يمنح بوتين أريحية أكبر بالإضافة إلى أن السياسية الأمريكية
يمكن أن تضعف الموقف الأوروبي الداعم للقوات الأوكرانية.
في السياق كتبت تاتيانا ستانوفايا،
مؤسسة شركة آر بوليتيك للتحليل السياسي، "لا تُخطئوا، بوتين مستعد تماماً
لفشل هذه المحادثات.. سوف يستمر بوتين في مجاملة ترامب واسترضائه، وتقديم تنازلات
سيصورها ترامب على أنها نجاح كبير واتفاقية رائعة لكن هذه التنازلات -مثل وقف
إطلاق النار- لن تردع روسيا عن هدفها النهائي"، وأوضحت أن الهدف لا يزال
يتمثل في إنتاج أوكرانيا منزوعة السلاح وخاضعة لموسكو (منصة إكس – 14 فبراير).
تحديات تواجه مساعي إنهاء الحرب
يقول خبراء إن أوكرانيا من المرجح أن
ترفض الاعتراف بأن أيّاً من الأراضي المحتلةِ روسيةٌ بحكم القانون، أو تقليص
جيشها، أو إضفاء الشرعية على أي مشروع سياسي موالٍ لروسيا علناً، أو التخلي رسمياً
عن تطلعاتها للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، وقد تكون هناك بنود أخرى أكثر قبولاً
بالنسبة لكييف كتأخير عضوية حلف شمال الأطلسي، وتجميد خط المواجهة الحالي، وإجراء
انتخابات، أو تبادل موطئ قدم أوكرانيا في منطقة كورسك بجزء من أوكرانيا المحتلة من
قبل روسيا.
قد يكون هناك أيضاً بعض التنازلات
بشأن "الأحزاب المؤيدة للسلام" التي لا تدعم روسيا علناً، ووضع اللغة
الروسية، والكنيسة الأرثوذكسية المدعومة من روسيا في حالة قطع العلاقات مع روسيا،
ولكن بالنسبة لأوكرانيا، فإن الأمر يتلخص في ضمان عدم تجديد روسيا غزوها بمجرد أن
ترى الفرصة لذلك.
يقول ستيفان وولف، أستاذ الأمن الدولي
بجامعة برمنجهام، "أعتقد أنه سيكون هناك وقف لإطلاق النار على طول خط التماس
في ذلك الوقت. قد تكون هناك بعض التعديلات وربما منطقة عازلة. لكنني لا أستطيع أن
أرى أي تغييرات إقليمية كبيرة أو أي اعتراف رسمي بالوضع الراهن"، وبدوره قال
المحلل السياسي الأوكراني فولوديمير فيسينكو إن أوكرانيا قد تستبدل موطئ قدمها في
منطقة كورسك الروسية بالجزء الذي تحتله روسيا من منطقة خاركيف الأوكرانية (صحيفة
كييف اندبندنت – 12 فبراير 2025).
لكن رغم ذلك، فإن التحدي الأبرز هو ما
يتعلق بالجهة الدولية التي يمكن أن ترعى وتراقب تطبيق أي خطة على أرض الواقع، فقد ذكرت
صحيفة التلغراف البريطانية في نوفمبر الماضي أن ترامب قد يدعو قوات حفظ السلام
الأوروبية لفرض منطقة عازلة في أوكرانيا، وذلك بموجب إحدى خطط السلام التي يدرسها
حالياً، إلا أن ذلك يعد من المقترحات صعبة التحقيق حيث سترفضه روسيا غالياً. في
المقابل فإن الدول الأوروبية لن تكون متحمسة على الأقل لأن ذلك يتطلب الاستعانة
بعشرات آلاف الأفراد والعربات وهذا سيكون مكلفاً إلى حد كبير.
وبدوره يرى كبير مراسلي الأمن الدولي في
شبكة "سي إن إن" نيك باتون والش أن هناك عقبة أخرى أمام السلام، تتلخص
في ما إذا كان الكرملين يريد السلام الآن أم لا، فهم يحققون الفوز في ساحة المعركة
حالياً وإن كان بوتيرة ليست سريعة، لكنهم يسيطرون على الأرض. ويبدو أن القوات
الروسية استولت على مدينة توريتسك وربما تسيطر قريباً على بوكروفسك، في عمق منطقة
دونيتسك الأوكرانية، وهذا من شأنه أيضاً أن يترك لهم أرضاً مفتوحة نسبياً على طول
الطريق إلى مدينتي دنيبرو وزابوريزهيا الرئيسيتين. لذلك من غير الواضح لماذا تسعى
روسيا لتجميد تقدمها على الخطوط الأمامية، في حين أن أوكرانيا ليس لديها الكثير
لتقوله عن هذا الأمر (شبكة سي إن إن – 10 فبراير 2024).
في جانب متصل، يعتقد المراقبون داخل
وخارج موسكو أن المفاوضات قد تكون طويلة ومحفوفة بعدم اليقين، وأن النجاح الروسي
بعيد كل البعد عن أن يكون مضموناً وفي بيانه الأخير، استخدم الكرملين لهجة رصينة
مع الحفاظ على موقف متطرف، حيث قال بوتن إنه "ذكر الحاجة إلى القضاء على
الأسباب الجذرية للصراع" (الغارديان – 13 فبراير 2025).
قلق أوروبي وأوكراني
في الوقت الذي تدعو فيه واشنطن إلى
محادثات فورية لإنهاء الحرب، تعبر أوروبا وكييف عن قلقهما من أن تُعقد هذه
المفاوضات دون مشاركة أوكرانيا بشكل كامل، مما يثير تساؤلات بشأن طبيعة أي اتفاق
محتمل ومدى استدامته.
وخلال اجتماع في باريس، شدد وزراء
خارجية فرنسا، ألمانيا، بولندا، إيطاليا، إسبانيا، بريطانيا وأوكرانيا على أن
أوروبا وكييف يجب أن تكونا جزءًا من أي مفاوضات، مؤكدين في بيان مشترك "يجب
أن تكون أهدافنا وضع أوكرانيا في موقف قوة، وضمان حصولها على ضمانات أمنية قوية".
ولأن النهج الذي تتبناه الإدارة الأمريكية
في التعامل مع التسوية المحتملة قريب بشكل ملحوظ من رؤية موسكو لكيفية إنهاء الحرب،
فقد تسبب هذا في إثارة الجدل داخل حلف شمال الأطلسي الذي يضم 32 دولة والاتحاد
الأوروبي الذي يضم 27 دولة، وأعربت بعض الحكومات الأوروبية التي تخشى أن تكون
بلدانها أيضاً في مرمى نيران الكرملين عن قلقها إزاء المسار الجديد الذي انتهجته
واشنطن، وقالت إنها يجب أن تكون جزءاً من المفاوضات.
تقول كلير سيباستيان المختصة في
متابعة الحرب الأوكرانية، بالنسبة للدول الأوروبية الأعضاء في حلف الناتو يبدو
المستقبل أكثر غموضاً، فمنذ تأسيس الحلف، اعتمدت أوروبا على المظلة النووية الأمريكية،
ونشر قوات عسكرية أمريكية ضخمة في أوروبا، لقد فاجأت مكالمة ترامب مع بوتين الزعماء
الأوروبيين وهددت بتركهم للعمل الشاق المتمثل في تمويل والإشراف على أي تسوية،
وبعبارة أخرى: سوف تنفذ واشنطن الصفقة وقد تحصل على أموال من أوكرانيا في صورة
معادن أرضية نادرة كما طالب ترامب، وسوف تتحمل أوروبا التكلفة (شبكة سي إن إن – 13
فبراير 2025).
لكن رغم محاولة إظهار الموقف الأوروبي
على أنه يبدو ضعيفاً، فإن استمرار الدعم من قبل الاتحاد للقوات الأوكرانية يمكن أن
يؤدي إلى استمرار الحرب وأن يشجع أوكرانيا على مواجهة الضغوط الأمريكية والروسية
لكن معظم القراءات ترى أن الهدف الأوروبي هو تأمين الضمانات اللازمة لأوكرانيا.
المحلل الدولي جيريمي بوين يرى أن زيلينسكي
يدرك وبشكل مؤلم أنه، وفي الوقت الذي يبدو حلفاؤه الأوروبيون أكثر ثباتاً من الأمريكيين،
تظل الولايات المتحدة أقوى قوة عسكرية في العالم. وقال لصحيفة الغارديان الأسبوع
الماضي إن "الضمانات الأمنية من دون أمريكا ليست حقيقية"، وقد قدم
الحلفاء الأوروبيون لأوكرانيا أموالاً أكثر من تلك التي قدمتها الولايات المتحدة، لكن
الأمريكيين يمتلكون أسلحة وأنظمة دفاع جوي، مثل بطاريات صواريخ باتريوت التي تحمي
كييف ولا يستطيع الأوروبيون بسهولة توفيرها لهم (بي بي سي – 13 فبراير 2025).
الخلاصات
تأتي أهمية مسار المفاوضات نتيجة لكون
الأوكرانيين أدركوا بالفعل أن عضوية الناتو واستعادة كامل أراضيهم بالقوة أمر غير
ممكن. ويقول المسؤولون الأوكرانيون إن الأمر الأكثر أهمية يتمثل في ضمانات أمنية
تمنع روسيا من إعادة تجميع صفوفها ومهاجمتهم مرة أخرى، لكن لا يزال ترامب يواجه
مأزقاً صعباً فيما قد يصبح تحدياً دبلوماسياً صعباً للغاية، فالتفاخر بأنه يمتلك
مفتاح إنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا أمر مختلف تماماً وسيتعين عليه أن يحاول سد
الفجوة بين مواقف بوتن وزيلينسكي المتناقضة تماماً، خاصة في ظل الانتقادات من
الحلفاء وحتى الأمريكيين لطريقة تعامله وتقديمه التنازلات لروسيا.
تقول "سي إن إن" إن إطار
التسوية المحتملة كان موضوع محادثات خاصة في واشنطن والعواصم الأوروبية لعدة أشهر،
حتى أثناء إدارة بايدن. وكما هو معلوم فإن آمال أوكرانيا في استعادة كل أراضيها
المفقودة غير واقعية، وهذا ما قد يصنع حلاً على غرار تقسيم ألمانيا بعد الحرب
العالمية الثانية، مع تجميد الأراضي التي تحتلها روسيا تحت سيطرتها مع بقاء بقية الأراضي
الأوكرانية على الجانب الأخر، وربما يُسمح للحافة الغربية بالانضمام إلى الاتحاد
الأوروبي (شبكة سي إن إن - 13 فبراير 2024).