دراسات اقتصادية

سيليكون فالي بنك .. إفلاس مصرفي أمريكي بتداعيات عالمية

15-Mar-2023

شكَّلَ إعلان إغلاق بنك سيليكون فالي صدمة مفاجئة للقطاعين المالي والمصرفي في أكبر عملية إفلاس مصرفي أمريكي منذ الأزمة المالية التي تعرضت لها البلاد عام 2008. رغم كون البنك غير معروف بشكل واسع للعامة بسبب تخصصه في تمويل الشركات الناشئة، إلا أنه كان يحتل المرتبة السادسة عشرة أمريكياً من حيث حجم الأصول التي وصلت في نهاية عام 2022 إلى ما يقارب 210 مليارات دولار، وودائع قاربت 176 مليار دولار، (فرانس 24، 11 مارس، 2023). 

السلطات الأمريكية قررت إغلاق البنك، الذي يتخذ من ولاية كاليفورنيا مقراً له، بعد عجزه عن تلبية عمليات السحب الهائلة لعملائه، الذين ينشطون خصوصاً في مجال التكنولوجيا، وعدم نجاح محاولاته زيادةَ رأس ماله بالسرعة المطلولة.  

فشل البنك في جمع 2.25 مليار دولار لسد خسارة بيع أصوله، خصوصاً السندات الحكومية الأمريكية، التي تأثرت بارتفاع أسعار الفائدة، أدى إلى اضطرابات مالية فيه دفعت إلى رحيل عملائه، وأثارت مخاوف المستثمرين بشأن الحالة العامة للقطاع المصرفي الأمريكي، (بي بي سي، 12 مارس، 2023). لذلك، سارعت الحكومة الأمريكية لفرض رقابتها على البنك من خلال الوكالة الأمريكية من أجل الحد من الآثار المحتملة لانهياه ولضمان الودائع، (الحرة، 13 مارس، 2023). إغلاق “اس في بي” لا يمثل أكبر عملية إفلاس مصرفي في أمريكا منذ إغلاق بنك "واشنطن ميوتشوال" للادخار في العام 2008 فحسب، بل أيضاً يمثل ثاني أكبر إفلاس لبنك بالتجزئة في الولايات المتحدة، (أرابيان بزنيس، 11 مارس، 2023).

تداعيات وآثار إفلاس سيليكون فالي لم تقتصر على الولايات المتحدة الأمريكية فقط، بل تجاوزتها إلى العديد من الدول، فالبنك الذي تمكن من تحقيق نجاحات كبيرة خلال الأربعين عاماً الماضية، افتتح فروعاً له في بريطانيا، الصين، ألمانيا، الدنمارك، الهند، السويد، وإسرائيل. 

 

التداعيات المالية لسقوط بنك سيليكون فالي

من الواضح أن تداعيات انهيار بنك سيليكون فالي ستكون أكبر بكثير من حجمه، فالآثار الأولى للأزمة المالية الناتجة عن إفلاسه امتدت عالمياً، وبشكل خاص على كل قطاع الشركات الناشئة وتمويلها، والتي لديها تعاملات معه. كذلك امتدت إلى البنوك متعددة الفروع والمشروعات الناشئة، لاسيما في الدول التي يمتلك سيليكون فالي فروعاً فيها. برز ذلك بشكل بارز من خلال حجم المخاوف التي تبعت لحظة إعلان إغلاق البنك الأمريكي، ليس فقط في أمريكا، بل في دول عدة مثل بريطانيا وإسرائيل والهند التي تعتمد شركات التكنولوجيا فيها على هذا البنك، حيث تأثر كل المودعين من الأفراد والشركات خارج أمريكا، وسط مخاوف من أنهم لن يحصلوا على أموالهم المودعة فيه. الأمر الذي دفع دولاً، مثل بريطانيا، إلى المسارعة باتخاذ إجراءات للحد من أي تداعيات ناجمة عن إغلاق وحدة البنك في المملكة المتحدة. 

على الصعيد الأمريكي، أدى انهيار سيليكون فالي إلى تداعيات على أجزاء متعددة في القطاع المصرفي الأمريكي، لاسيما وسط سريان حالة من اهتزاز الثقة بهذا القطاع، وانتشار الخوف لدى المودعين والمستثمرين على السواء جراء القلق حول متانة هذا القطاع ككل، خصوصاً مع الارتفاع السريع في أسعار الفائدة الذي يؤدي إلى انخفاض قيمة السندات في محافظهم، (دويتشه فيلا، 13 مارس، 2023). تركزت مخاوف المودعين والمستثمرين بالدرجة الأساسية حول قدرتهم على الحصول على ودائعهم، فبالرغم من أن المؤسسة الفيدرالية للتأمين على الودائع تحمي الودائع التي تصل قيمتها إلى 250 ألف دولار، إلا أن المخاوف تتركز بشأن الودائع التي تزيد على ذلك. إن هذا الأمر يجعل العديد الشركات الصغيرة معرضة لخطر عدم القدرة على دفع رواتب موظفيها، (رويترز، 12 مارس، 2023). 

لقد دفعت هذه المخاوف إلى اتساع عمليات البيع في الأصول الأمريكية منذ مطلع الأسبوع الجاري، خاصةً مع قيام السلطات الأمريكية بإغلاق بنك ثانٍ "بنك سيغنتشر" الذي يتخذ من نيويورك مقراً له، (الحرة، 13 مارس، 2023). فقدان الثقة بالقطاع المصرفي أدى إلى تراجع قطاع البنوك على مؤشر ستوكس 600 الأوروبي 5.7%، بعد أن خسر 3.8 بالمئة يوم الجمعة 10 مارس، بالإضافة إلى خسارة أكبر أربعة مصارف أمريكية 52 مليار دولار في سوق الأسهم الخميس 9 مارس، (فرانس 24، 12 مارس، 2023)، من بينها بنكُ فيرست ريبابلك، وسيغنتشر اللذان خسرا ما يقارب من 23% من أسهمهما، (أرابيان بزنسس، 11 مارس، 2023).

السلطات الأمريكية سارعت إلى اتخاذ إجراءات طارئة لتعزيز الثقة في النظام المصرفي. وزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين أكدت أنها "تعمل مع الجهات التنظيمية للقطاع المصرفي بغية مواجهة انهيار بنك سيليكون فالي، وأن المشكلات التي تواجه أيّاً من البنوك لن تنتقل إلى بنوك أخرى"، (دويتشه فيلا، 13 مارس، 2023). 

على الصعيد العالمي لم تقتصر نتائج انهيار بنك "اس في بي" على موجة الانخفاضات التي ضربت أسهم قطاع البنوك فقط في الولايات المتحدة، بل امتدت إلى أسواق آسيا وأوروبا، (دويتشه فيلا، 13 مارس، 2023)، حيث أدت إلى انتشار حالة من الذعر العالمي نتيجة القلق والخوف من سلامة واستقرار القطاع المصرفي الأمريكي. انعكس ذلك بشكل واضح في تأثر عدد من البنوك السويسرية والأوروبية. في باريس خسر سوسييتيه جنرال 4,49%، وبي إن بي باريبا 3,82%، وكريدي أغريكول 2,48%. أما في أوروبا فقد خسر دويتشه بنك 7,35%، وباركليز البريطاني 4,09%، ويو بي إس السويسري 4,53%. وفي وول ستريت سجلت المصارف الكبرى بعض الخسائر، حيث خسر كل من بنك أوف أمريكا وسيتي غروب أقل من 1%، (فرانس 24، 11 مارس، 2023). 

في بريطانيا، عكس حجم تحرك الحكومة وسرعته لتلافي آثار انهيار سيليكون فالي، وحماية مدخرات المودعين في الفرع البريطاني للبنك، مخاوف فعلية من انتقال التأثيرات السلبية لهذا الانهيار على القطاع المصرفي البريطاني، لاسيما ما يتعلق بغياب ثقة المواطنين به. رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك أكد أن حكومته "تعمل على الحد من أي تداعيات تقع على الشركات جراء انهيار البنك الأمريكي"، (فرانس 24، 13 مارس). في تصريح لـ"بي بي سي"، قال المستشار الاقتصادي جيريمي هانت إن "انهيار بنك سيليكون فالي قد تكون له انعكاسات جسيمة على بعض الشركات البريطانية الواعدة في مجال التكنولوجيا وعلوم الحياة"، (بي بي سي، 12 مارس، 2023).

تصريحات وزارة الخزانة البريطانية التي أكدت أنها تعمل على "تقليل الأضرار التي لحقت ببعض الشركات الواعدة في المملكة المتحدة بعد إفلاس البنك الأمريكي"، (بي بي سي نيوز، 12 مارس، 2023)، انعكست بشكل مباشر من خلال الخطة التي وضعتها الحكومة البريطانية والتي تسمح لشركات التكنولوجيا البريطانية بالحفاظ على سيولتها بعد إفلاس البنك الأمريكي سيليكون فالي. 


آثار انهيار سيليكون فالي على قطاع التكنولوجيا 

يتركز نطاق عمل ونشاط بنك سيليكون فالي على القطاع التكنولوجي، حيث ترتبط الشركة الأم للبنك "إس في بي فايننشال غروب" بصلات مع الشركات الناشئة وشركات التكنولوجيا الراسخة في أمريكا وخارجها، وتخصصها في إقراض الأعمال التجارية في مراحلها المبكرة. جمعت الشركة الأم ما يقرب من نصف شركات التكنولوجيا والرعاية الصحية المدعومة من الشركات الأمريكية التي تم إدراجها في أسواق الأسهم عام 2022، وتوظف أكثر من 8500 شخص حول العالم، الأمر الذي سيجعل إفلاسها وانهيارها يقضي على الشركات الناشئة في جميع أنحاء العالم في حال لم تحصل تلك الشركات على تدخل حكومي يحميها.

كشفت العديد من الشركات مثل "روكو"، و"ليندينغ كلوب"، و"إيغر بيوفارم فارماسوتيكالز" أنّ لديها ودائعَ عالقة في بنك سيليكون فالي. هذه المشكلة تمتد على كل الشركات المرتبطة بالبنك والمنتشرة في شتى أنحاء النظام البيئي لوادي السيليكون، وتشكّل خطراً على الاقتصاد ككل، (دويتشه فيلا، 13 مارس، 2023). وزير الخزانة الأمريكي السابق لورانس سامرز حذر في مقابلة مع وكالة بلومبرغ من أنَّه "ستكون هناك عواقب وخيمة على وادي السيليكون، وعلى اقتصاد قطاع رأس المال الجريء ككل، إذا لم تخطط الحكومة الأمريكية لانتقال سلس لسيلكون فالي بنك، وتضمن إيجاد طريقة إلى التسوية والحل"، (وكالة بلومبيرغ، 12 مارس، 2023).

من بين النتائج الأكثر خطورة لانهيار سيلكيون فالي، التوقعات الكبيرة لاهتزاز العملات الرقمية المرتبطة بالقطاع التكنولوجي. تعكس تصريحات بعض الشركات العاملة في هذا القطاع مدى خطوة النتائج المتوقعة، حيث كشفت شركة "سيركل" صاحبة العملة المشفرة "يو إس دي سي" التي توصف بـ"المستقرة" لأنها مرتبطة نظرياً بالدولار، أن عملتها تعرضت للاهتزاز، خاصةً بعد قيامها بإيداع 3,3 مليارات دولار في المصرف المفلس. تدرك الشركة المذكورة حجم الأخطار التي تهددها، شأنها شأن بقية الشركات المرتبطة بالبنك، نظراً لكونها أصبحت غير قادرة على سحب كل ودائعها، وبالتالي عدم قدرتها على ضمان ودائع تتجاوز قيمتها 250 ألف دولار لكل عميل في كل مصرف، (فرانس 24، 11 مارس). بدوره، قال وزير المالية البريطاني جيريمي هانت في تصريحات له إن "إفلاس البنك الأمريكي قد يكون له أثر ضخم على شركات التكنولوجيا البريطانية نظراً لأهمية بنك سيليكون فالي لبعض العملاء، (فرانس 24، 13 مارس، 2023).

دور الحكومة الأمريكية والحكومات الأخرى في حماية حقوق المودعين

منذ إعلان إفلاس سيليكون فالي بنك، سارعت السلطات الأمريكية إلى اتخاذ إجراءات تحمي من خلالها جميع الودائع غير المؤمن عليها، والحيلولة دون اتساع نطاق تداعيات انهياره المفاجئ، على بقية القطاع المصرفي الأمريكي بشكل خاص، وقطاع تمويل المشروعات الناشئة والبنوك متعددة الفروع. الخطوة الأولى ركزت على عهد إدارة ودائع البنك المنهار إلى المؤسسة الفدرالية لتأمين الودائع في الولايات المتحدة (FDIC)، التي أوضحت أن هيئة الحماية المالية والابتكار في كاليفورنيا (DFPI) هي التي استحوذت رسمياً على المصرف المنهار، وأنها تخطط لإعادة فتح فروع البنك البالغ عددها 17 في كاليفورنيا وماساتشوستس. أُتبعت هذه الخطوة بالسماح للعملاء بسحب ما يصل إلى 250 ألف دولار على المدى القصير، وهو المبلغ الذي عادة ما تضمنه المؤسسة، (واشنطن بوست، 11 مارس، 2023). الهدف من الإجراءات الأمريكية هذه هو التدخل لمنع انتشار حالة الخوف وعدم الثقة في النظام المالي الأمريكي.

الرئيس الأمريكي جو بايدن أكد في خطاب له على "متانة النظام المصرفي وأن الأزمة الخاصة ببنك سيليكون فالي تحت السيطرة، وضمان الحكومة للمودعين باستعادة أموالهم". كما أكد في إطار طمأنة الرأي العام أن "الحكومة ستحاسب المسؤولين عن الأزمة، (الحرة، 13 مارس، 2023). تصريحات بايدن، وعلى الرغم من أنها هدفت إلى إشاعة الثقة لدى الرأي العام الأمريكي في النظام المصرفي للبلاد، إلا أنها على ما يبدو لم تتمكن من تحقيق هذا الهدف، بسبب اقتصارها على أموال المودعين التي لا تتجاوز 250 ألف دولار، وعدم شمولها أموالَ المستثمرين التي تتجاوز هذا المبلغ. خطاب بايدن كان واضحاً بشأن أموال المستثمرين في البنوك الذين اعتبرهم "غير مشمولين بالحماية لأنهم خاطروا، وعندما لم ينجحوا في مخاطراتهم خسروا أموالهم"، (الحرة، 13 مارس، 2023).

الحكومة البريطانية بدورها سارعت إلى اتخاذ إجراءات تدخل لحماية شركات التكنولوجيا فيها المرتبطة ببنك سيليكون فالي، حيث سهلت عملية استحواذ مصرف "إتش إس بي سي" أحد أكبر البنوك في أوروبا على فرع البنك الأمريكي في لندن. هذا الاستحواذ اعتبر من قبل وزير الخزانة البريطاني جيريمي هنت "خطوة من شأنها حماية ودائع العملاء، ومواصلة العمل المصرفي كالمعتاد دون دعم من دافعي الضرائب"، (فرانس 24، 13 مارس، 2023).


في الخلاصة:

تتركز الأخطار الكبرى الناجمة على انهيار سيليكون فالي على فقدان القطاع المصرفي الأمريكي سمعته واهتزاز الثقة به، وكذلك على مصير العديد من الشركات العاملة في القطاع التكنولوجي، لاسيما الناشئة فيه، على المستوى الأمريكي والعالمي. الأخطار ترتفع تقديراتها في حال لم تحصل هذه الشركات على دعم من حكومات الدول ذات الصلة، وتدخل يحميها من آثار انهيار المصرف الأمريكي.

يبدو واضحاً أن الحكومة الأمريكية أمام اختبار صعب يتمحور حول قدرتها على القيام باتخاذ "إجراءات جوهرية" للتعامل مع انهيار بنك سيليكون فالي، والتي يتوقف عليها استعادة الثقة بالقطاعين المالي والمصرفي في البلاد، وإثبات مرونتهما في التعامل مع الأزمات التي تواجههما. في حال فشلِ الحكومة الأمريكية في ذلك، فإن أخطار انتقال عدوى سيليكون فالي إلى بنوك أخرى ستكون أكثر احتمالية، حيث ستؤدي المخاوف التي نتجت عن انهياره إلى الدفع بنتائجه بتأثير الدومينو على البنوك الأخرى الأمريكية. هذا الأمر مرتبط بشكل أساسي بقدرة السلطات الأمريكية على التوصل إلى حلول مناسبة بشأن تأثيرات انهيار سيليكون فالي على ودائع المتعاملين معه، وإلا فإن هذا الأمر سيرفع من احتمالات مواجهة البنوك الأمريكية الأخرى أخطاراً تعرضها لضغوط توجه المودعين إلى القيام بعمليات سحب لمدخراتهم منها بسبب خوفهم عليها. 

كذلك، سيدفع انهيار سيليكون فالي الحكومة الأمريكية إلى إعادة النظر في القوانين الناظمة لعمل البنوك باتجاه المزيد من التشدد والتعزيز، خاصة في ظل الآثار الخطرة التي باتت تواجه كل الشركات والمستثمرين والمودعين المتعاملين معها إثرَ الأخطار التي تعرض لها المتعاملون مع بنك سيليكون فالي. 


twitter icontwitter icon threads iconthreads icon 506