بعد زلزال مدمر بقوة 7.8 و7.5 على مقياس ريختر، يوم الاثنين 6 فبراير 2023، وما تبعه من هزات متعددة الدرجات تغيرت حياة الملايين في تركيا وسوريا إلى الأبد، فكانت أقوى هزات أرضية تعرضت لها المنطقة منذ ما يقرب من قرن، وقد تعثرت جهود الإنقاذ في أماكن كثيرة بسبب معوقات سياسية، وخاصة في المناطق السورية المتضررة. كما أعاقت عاصفة شتوية كبيرة جهود الإنقاذ، مما أدى إلى تساقط الثلوج على الأنقاض وانخفاض درجات الحرارة.
ونظراً للأثر الكبير الذي تركته الحرب في سوريا التي دمرتها 12 سنة من الاقتتال، فهي تعد الأقل استعداداً للتعامل مع مثل هذه الأزمة من جارتها تركيا، فبنيتها التحتية مستنزفة بشدة، ولا تزال البلاد تخضع للعقوبات الغربية القاسية. والآلاف من الذين يعيشون في المناطق المتضررة بشمال غرب سوريا هم بالفعل من اللاجئين أو النازحين داخلياً، في أماكن وصلت الأزمة الإنسانية فيها إلى أعلى مستوى لها منذ بدء الصراع، حيث يعتمد، حسب الإحصائيات الرسمية للأمم المتحدة، 4.1 ملايين شخص على المساعدات الإنسانية للبقاء على قيد الحياة.
ومع استمرار تلاشي غبار الكارثة، نحاول في هذه الدراسة التركيز على التأثير السياسي الممتد والتداعيات التي أحدثتها هذه الكارثة على كل من تركيا والجمهورية العربية السورية.
كارثة طبيعية تهدد عام الحسم التركي
يبدو أن الزلزال سيمثل نقطة تحول مهمة بالنسبة لتركيا هذا العام مع اقتراب الانتخابات الرئاسية في 14 مايو القادم.. ترى الكاتبة السياسية الأمريكية "نتاشا توراك" أنه سواء بقي الرئيس الحالي "رجب طيب أردوغان" في السلطة أم لا، فإن زلزال فبراير ستكون له عواقب وخيمة على سكان تركيا واقتصادها وعملتها، فضلاً عن مسارها الديمقراطي. فاستجابة "أردوغان" لهذه الكارثة، بالإضافة إلى الدعوات المحتملة للمساءلة حول سبب عدم تصميم العديد من المباني بطريقة تمكنها من تحمل مثل هذه الهزات، سوف تلعب دوراً رئيسياً في مستقبله ومستقبل حزبه السياسي. (Turak, 9 February 2023)
والواضح أن مركزية القرارات في تركيا، كان لها أسوأ تأثير على الإطلاق، عندما تُركت كل السلطات لإدارة شؤون الكوارث والطوارئ، وأصبح من الواضح أن القرارات يجب أن تُتخذ من أنقرة. حتى عندما حددت فرق الإغاثة في الميدان أنظارها بناءً على تعليمات أنقرة لأقل نشاط، وكانت الساعات الأكثر قيمة تمضي في انتظار استجابة أنقرة، ومن رأي "جوركانلي" وغيرها من الخبراء أنه يجب فصل القرارات المصيرية لحالات الطوارئ الإنسانية عن القرار السياسي مستقبلاً، وأن يترك لكل مقاطعة حرية القرار في حالات الطوارئ. (Gurcanli, 11 February 2023)
وعن التداعيات السياسية للقرارات العشوائية، رأى الباحث السياسي "مايك هاريس" في مقابلته مع شبكة CNBC أنه "إذا أسيء التعامل مع جهود الإنقاذ وأصيب الناس بالإحباط، فهناك رد فعل عنيف على أفعال أردوغان". فبقدر ما تم بناؤه بموجب القوانين الجديدة التي لم تفرض لوائح وضوابط وقيود، فقد يكون هناك بعض النكسات الخطرة له، خاصة وأنه قرر عقد الانتخابات في منتصف مايو المقبل وسط أزمة تكلفة المعيشة، حيث تجاوز التضخم المحلي 57 ٪. وهذه الخطوة تكشف عن إلحاح اردوغان على تأمين فترة ولاية أخرى قبل أن تأتي سياساته الاقتصادية المثيرة للجدل بنتائج عكسية. وأضاف "هاريس" أن الرئيس الذي خلق هذا الوضع الغريب يحتاج إلى الحفاظ على استقرار العملة من الآن وحتى الانتخابات، لكن وإلى حد كبير سوف تنهار العملة إذا فاز، لأنه لن تكون هناك ثقة في هذا الرجل الذي خلق وضعاً صعباً أدى بشكل مباشر إلى حدوث هذه الكارثة الإنسانية الكبيرة. (CNBC International TV, 7 February 2023)
إن كافة الشواهد تدل على أن تركيا لم تكن تضع في اعتبارها حدوث مثل تلك الكوارث الطبيعية، وقد لاحظ "مارك موبيوس" أحد كبار خبراء الأسواق الناشئة الألمانية، أن القضية الأساسية بالفعل تتمثل في عدم استعداد تركيا للزلازل، وأن قوانين البناء في المناطق التركية ليست على قدم المساواة. وقال إن هذا الأمر قد يطارد قريباً فرص "أردوغان" للفوز في الانتخابات. كما لاحظت الكاتبة السياسية الأمريكية "نتاشا توراك" أنه على الصعيد الدولي، سوف يؤثر مستقبل تركيا على الحرب في أوكرانيا، بالنظر إلى دور "أردوغان" كوسيط بين الخصمين. ومن المعروف أن أنقرة تتوسط أيضاً في مبادرة حبوب البحر الأسود بين أوكرانيا وروسيا، والتي تسمح بتصدير الإمدادات الحيوية من الحبوب من أوكرانيا إلى بقية دول العالم على الرغم من الحصار البحري الروسي. وسوف يكون لاحتواء "أردوغان" كارثة الزلازل، فضلاً عن الأداء الانتخابي اللاحق، تأثير على كل هذا. (Turak, 9 February 2023)
من الثوابت أن الشعب التركي يتذكر جيداً ما حدث من دمار في زلزال عام 1999، ذلك الحدث الذي مهد الطريق لانتخاب "أردوغان" فيما بعد، ليبقى في السلطة أكثر من عشرين عاماً. وقد كان الشعب يتوقع أنه في حال تكرار الأمر سوف تكون السلطات مستعدة بتجهيزات كاملة وبميزانية مفتوحة، لكن ما حدث عكس ذلك. فعلى الرغم من التأكيدات المتكررة بأن البلاد قد تعلمت الدرس جيداً، فإن حجم الكارثة الحالية يشير إلى أن السلطات كانت تفتقر تماماً إلى الاستعدادات، وأن مليارات الليرات التركية التي جمعتها الحكومة من خلال ضريبة زلزال خاصة لم تستخدم لتقوية البنية التحتية للمنطقة المتضررة في زلزال 99، أو حتى تقوية قدرات نظام الاستجابة للطوارئ في البلاد.
وفي الواقع، يؤكد مراسل الإيكونوميست في تركيا "بيوتر زالوسكي" في حواره مع "مايكل مارتن" صحافي الـ NBR تخفيض ميزانية هيئة إدارة الكوارث والطوارئ التركية، وهي منظمة الإنقاذ الرئيسية، بنسبة 33% في الميزانية الوطنية لعام 2023، وهو أمر كارثي وله أبعاد سياسية عميقة. فحتماً ستؤثر تداعيات الزلزال في تركيا الآن بشدة على أذهان الناخبين وهم يتجهون إلى صناديق الاقتراع. (NBR, 11 February 2023)
والسؤال الآن.. هل من الممكن أن تكون أبرز التداعيات السياسية للزلزال في تركيا تأجيل الانتخابات الرئاسية المقبلة؟ من الواضح أن ضخامة الكارثة هزت "أردوغان" وحكومته، حتى أن ظهوره على الملأ استغرق بعض الوقت، وركزت الكثير من تصريحاته ورحلاته في المناطق المنكوبة على حماية الدولة وإدارتها. وكما كان متوقعاً، بدأ في البحث عن "المذنب"، أي البنائين الرديئين واللصوص الذين يمكن أن يتهمهم، وبالتالي يبعد عن نفسه المسؤولية ويتجنب اللوم.
وبالطبع، لا يمكن أن نتخيل تعافي الأتراك من الكارثة بما يكفي لإجراء الانتخابات في موعدها المقرر في شهر مايو. فالعديد من السكان من المحتمل أن يتفرقوا في جميع أنحاء تركيا بحثاً عن مأوى مع عائلاتهم. يرى الباحث السياسي في مجلس العلاقات الخارجية بواشنطن "هنري باركي" أن من بين المقاطعات الأربع المتضررة "أديامان، وغازي عنتاب، وهاتاي، وكهرمان مرعش"، كانت هاتاي هي التي أسقطت "أردوغان" من صناديق الاقتراع ولم يفز فيها بأغلبية الأصوات في الانتخابات البرلمانية لعام 2018. لكن هذه المرة سوف يخسر كل أصوات المناطق المتضررة تقريباً في المنافسة التالية إذا ما قرر إجراء الانتخابات في موعدها.
لكن المشكلة التي تواجه "أردوغان" الآن هي أنه ليس مسموحاً له بتأجيل الانتخابات لأبعد من 18 يونيو القادم، وهو آخر موعد ممكن يكفله الدستور التركي. وبالطبع لن يؤدي شهر إضافي إلى تحسين الظروف على الأرض بشكل كبير، أو حتى تحسين فرصه في الفوز. ولكن قد يعتبر البرلمان التركي أن البلاد في وضع شبيه بحالة إعلان الحرب، فيقرر تأجيل الانتخابات لمدة عام كما ينص الدستور أيضاً، وقد تم تفسير إعلان حالة الطوارئ في المناطق المتضررة بالفعل على أنه إجراء محتمل لتأجيل الانتخابات. (Barkey, 13 February 2023) وعلى صعيد آخر مع ذلك، قررت التحالفات الرئيسية المناهضة لأردوغان تأجيل اجتماعها الذي كان من المفترض أن ينعقد في 13 فبراير بسبب الزلزال، وكان من المقرر خلاله اختيار مرشح رئاسي توافقي. (France24, 13 February 2023)
كما أعلن حزب العمال الكردستاني المحظور، الذي تعتبره أنقرة منظمة إرهابية، تعليق عملياته العسكرية مؤقتاً في تركيا بعد الزلزال. ونقلت وكالة فرات للأنباء عن القيادي الكردستاني "جميل بايق" أن جميع القوات المنخرطة في أعمال عسكرية جمدت أعمالها. وقال المحلل البارز للشؤون التركية في مجموعة الأزمات الدولية "بيركاي مانديراجي" إنه ما زال من غير الواضح ما إذا كانت أنقرة ستستفيد من هذا الإعلان للضغط من أجل وقف التصعيد أم لا. لكنه أضاف أن الرئيس التركي قد يستفيد من خفض للتصعيد العسكري وسط الأزمة الإنسانية لمصلحته السياسية. (أمد للإعلام، 10 فبراير 2023)
على أية حال، كانت استجابة الإغاثة من قبل السلطات التركية سيئة التنسيق ومتأخرة الوصول، ولا تزال هناك العديد من المناطق المنكوبة تنتظر الإمدادات والمتطوعين، وسط فقر تعامل السلطات مع الكارثة. وعلى النقيض من ذلك، كانت استجابة المجتمع المدني مثيرة للإعجاب، فقد تدفق المتطوعون وطرود المساعدات من جميع أنحاء البلاد، حيث اتخذ السكان المحليون زمام المبادرة لإنقاذ الضحايا، مما يجبر الحكومة التركية على ضرورة التنسيق مستقبلاً مع منظمات المجتمع المدني لإنقاذ مستقبلها السياسي. وقد لخصت الأستاذة المساعدة في جامعة كردستان "أرزو يلماز يازدي" في مقالها بصحيفة ميديا سكوب التركية الوضع التركي الحالي بقولها "لا توجد دولة ولكن هناك شعب" وأن "السلطة التي لا تُبقي الأمة على قيد الحياة لا يمكن أن تستمر"، وأضافت "هذه الكارثة العظيمة التي واجهناها في الذكرى المئوية لجمهورية تركيا، تثبت للسلطات مرة أخرى أن الموت أو القتل لا يكفي لبناء الدولة". (Yılmaz, 12 February 2023)
سوريا.. الزلزال يعمق الانقسام
تعد الكارثة في سوريا أكثر ضراوة من جارتها تركيا، فبالرغم من أن حجم الدمار في الأولى أقل من جارتها، ولكن بطء جهود الإنقاذ وعدم التدخل المباشر للسلطات السورية في الأماكن المتضررة، يجعل حياة الناس في خطر أكبر.
لقد ناشدت الحكومة السورية فور حدوث الزلزال الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، واللجنة الدولية للصليب الأحمر، ومنظمات إنسانية أخرى للحصول على مساعدات دولية (آرمسترونغ، 7 فبراير 2023). كما أعلنت دويتشه فيلا أن الحكومة طلبت المساعدة من آلية الحماية المدنية الأوروبية التابعة للاتحاد الأوروبي (DW, 9 February 2023) وأعربت عبر ممثلها في الأمم المتحدة، عن رغبتها في أن تكون مسؤولة عن توزيع المساعدات في جميع مناطق البلاد، حتى في الأماكن التي يسيطر عليها المتمردون. لكن حكومة المملكة المتحدة رفضت ذلك وقررت تقديم المساعدة من خلال شركائها على الأرض في المناطق المتضررة والتي تتمثل في قوة الدفاع المدني من الخوذ البيضاء، وهي منظمة غير حكومية دربتها تركيا كي تقوم بأعمال الدفاع المدني في المناطق الشمالية التي لا تسيطر عليها الحكومة السورية، (Wintour, 7 February 2023) كما صرحت وزارة الخارجية أنها سوف تستخدم شركاءها في المجال الإنساني على الأرض، ولن تتعامل بشكل مباشر مع الرئيس السوري "بشار الأسد"، مما يضعه في مأزق كبير أمام شعبه الذي عانى من الحرب الأهلية لسنوات. (O'Connor, 7 February 2023)
الحقيقة أن محافظة إدلب السورية تحملت وطأة الكارثة أكثر من أي منطقة أخرى. وبعد أيام من وقوع الكارثة، لا تزال مساعدات الأمم المتحدة تقتصر على معبرين حدوديين وفي أضيق الحدود، ما يجعل المناطق المتضررة في شمال غرب سوريا تعاني من تدفق إمدادات هزيل. حتى أن منظمة الخوذ البيضاء، اتهمت الأمم المتحدة بعدم تقديم مساعدة كافية، مما يعطي فرصة قوية للسلطات السورية لإعادة توحيد البلاد تحت سيطرتها، والبدء في بناء مستقبل سياسي جديد يوحد كل سوريا تحت راية واحدة. ولقد أشار الرئيس السوري بالفعل إلى أنه يريد تنسيق كل الإغاثة مع الحكومة المركزية في دمشق، على الرغم من حقيقة أنه لا يسيطر حتى الآن على مناطق السكان الأكثر تضرراً. وبدلاً من محاولة التنسيق معه، تجري منظمة الصحة العالمية مناقشات حول إعادة فتح معابر حدودية تركية مغلقة منذ عام 2013. (Barkey, 13 February 2023)
لقد أقرت الأمم المتحدة بالفشل الدولي في مساعدة ضحايا الزلزال السوري خلال الأيام الماضية، مع استمرار رفض العديد من الدول التنسيق المباشر مع السلطات السورية في دمشق، مما يضع حياة السكان في الشمال السوري في خطر، فضلاً عن الإسهام في زيادة حالة الانقسام السياسي حدة، بما لا يسمح لدمشق بالتقرب من المتضررين ومساعدتهم. وقد صرح وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية "مارتن غريفيث" أثناء زيارته للحدود التركية السورية يوم 12 نوفمبر، بأن "السوريين قد تُركوا يبحثون عن مساعدة دولية لم تصل بعد"، (El-Deeb, 13 February 2023) وجاء هذا التصريح في وقت تعرضت فيه الأمم المتحدة لانتقادات بسبب سياستها المتمثلة في تركيز شحنات المساعدات على السلطات السورية الرسمية فقط، على حساب حياة السوريين في الأراضي التي تسيطر عليها المعارضة. (Berg, 13 February 2023)
ويبدو أنه من السهل إرسال المساعدات الدولية من المناطق التي تسيطر عليها الحكومة السورية إلى المناطق التي يسيطر عليها المتمردون في الشمال الغربي، والتغلب على أي عقبات في هذا الطريق بمعاونة عناصر الأمم المتحدة. لكن حتى هذا الطرح تم تسييسه بعيداً عن العامل الإنساني العاجل. فيقول منتقدو حكم الرئيس "بشار الأسد" إن المساعدات التي تمر عبر المناطق التي تسيطر عليها الحكومة في سوريا تواجه بيروقراطية وخطر اختلاس السلطات أو تحويلها لدعم الأشخاص المقربين من الحكومة. وشجع ذلك عرقلة هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) التابعة للقاعدة، والتي تسيطر على معظم أنحاء الشمال السوري، وصول مساعدات إغاثة أممية موجهة لضحايا الزلزال في إدلب التي تضررت بشدة وسُجل فيها العدد الأكبر من القتلى. حيث صرحت بأنها لن تسمح بدخول أي شحنات من مناطق تسيطر عليها الحكومة وإن المساعدات ستصل عبر تركيا فقط. وأنها لن تسمح للسلطات السورية باستغلال الموقف والتظاهر بأنها تقدم المساعدة. (ميدل إيست أونلاين، 12 فبراير 2023)
إن تسييس الأزمة السورية الإنسانية في هذا الوقت الحرج يضر بكافة الأطراف. فهو وقت مناسب لتوحيد الجهود المشتركة لدعم الشعب السوري وتناسي الماضي. ومع بدء خروج الموقف عن السيطرة دعت المبعوثة "ليندا توماس جرينفيلد" إلى تصويت عاجل في مجلس الأمن للسماح بفتح ممرات إضافية عبر الحدود إلى شمال غرب سوريا (صحيفة الوطن البحرينية، 13 فبراير 2023). وبينما كان وصول المساعدات بطيئاً إلى الشمال الغربي، فإن عدداً من الدول التي قطعت علاقاتها مع دمشق خلال الحرب الأهلية السورية أرسلت المساعدة إلى المناطق التي تسيطر عليها الحكومة. وتدخلت دول عربية من بينها الإمارات ومصر في محاولة لتحييد الأزمة السياسية جانباً والتركيز على الأزمة الإنسانية. وزار وزير خارجية الإمارات عبد الله بن زايد دمشق في محاولة لإيجاد حلول جذرية للأزمة بالتعاون مع السلطات الرسمية السورية. (الإمارات اليوم، 13 فبراير 2023) فليس من المعقول أن يتم التفاوض للوصول إلى حلول إنسانية مع جماعة إرهابية تسيطر على المناطق المتضررة، تم تصنيفها من المنظمات الأممية كجماعة إرهابية.
وحتى الآن لم تظهر القوى الغربية أي مؤشرات على استعدادها لتلبية مطلب السلطات السورية بإيصال المساعدات عن طريقها، أو حتى إعادة التعامل مع الأسد، بالرغم من أن يده تعززت بسبب الصعوبات التي تواجه تدفق المساعدات عبر الحدود التركية إلى شمال غرب سوريا الذي يسيطر عليه المتمردون، وهي فرصة كبيرة تستطيع من خلالها الحكومة السورية التخلص من عزلتها الدولية. يقول "آرون لوند"، الخبير في الشؤون السورية، إنه من الواضح أن هناك فرصة في هذه الأزمة للأسد، الذي يجبر العالم على التعاون معه بالرغم من العزلة المفروضة عليه. (Euractiv, 9 February 2023)
ويبدو أنها بالفعل فرصة عظيمة للسلطات السورية إذا نجحت في تسهيل عبور المساعدات للمناطق الخارجة عن سيطرتها، حتى لو قدمت بعض التنازلات المسؤولة وتخلصت من عنادها، وهو في اعتقادنا ما تحاول دول مثل مصر والإمارات والأردن إقناع دمشق به، لدفع البلاد إلى الأمام وإعادتها إلى أحضان الدول العربية والمجتمع الدولي مرة أخرى، خاصة وأن الحكومة السورية تسيطر على الجزء الأكبر من الدولة المنقسمة. وتأتي تحركات الدول العربية في الوقت الذي ترفض فيه وزارة الخارجية الأمريكية الاقتراح القائل بأن الزلزال يمكن أن يكون فرصة لواشنطن للتواصل مع دمشق، قائلة إنها ستستمر في تقديم المساعدة للسوريين في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة عبر المنظمات غير الحكومية على الأرض، وليس الحكومة. ومع ذلك، ظل قادة الإمارات ومصر والأردن على اتصال بالأسد منذ اندلاع الكارثة مخالفين بذلك الرغبة الأمريكية والدولية في التضييق على الرئيس السوري أثناء الأزمة.
وعلى صعيد مختلف، تضررت بعض المناطق التي تسيطر عليها الحكومة بشدة من جراء الزلزال أيضاً. وقدمت روسيا، الحليف الرئيسي لدمشق، الدعم بإرسال فرق إنقاذ ونشر قوات عسكرية انضمت إلى أعمال الإغاثة فيها. حيث أعلنت وزارة الطوارئ الروسية وصول طائرة "إيل –76" تابعة لها إلى سوريا تحمل 35 طناً من المساعدات لمنكوبي الزلزال (روسيا اليوم، 9 فبراير 2023). ويمكن تفسير ذلك بأن موسكو المنخرطة في صراعها مع أوكرانيا وتخضع لعقوبات أمريكية، تعتبر تحالفها مع دمشق ورقة مساومة ضد الغرب لا يمكن التفريط فيها، وفي اعتقادنا أنه لو تمادت واشنطن في عنادها بعدم التعامل مع الأسد في هذه الأزمة الإنسانية، سوف تغامر بحدوث المزيد من التدخل الروسي في سوريا. خاصة بعد أن أفادت رويترز بأن روسيا حاولت منع إيصال المساعدات عبر نقاط التفتيش إلى المناطق التي يسيطر عليها المتمردون، (Nichols, 11 February 2023)، وهو مؤشر خطر يطغى فيه العناد السياسي على العوامل الإنسانية الطارئة.
لقد تركت الحرب في سوريا البلاد منقسمة بشدة، مع سيطرة سلطات مختلفة في مناطق مختلفة. وسوف ينعكس هذا الانقسام على الطريقة التي ستتغلب بها كل منطقة على آثار الزلزال في المدى القريب. فمع وعد حلفاء السلطة الرسمية في سوريا، كالإمارات وروسيا والأردن وإيران ومصر والعراق، بتقديم فرق إنقاذ ودعم لدمشق، سيواصل المانحون الغربيون الاستجابة بتقديم الدعم من خلال المنظمات غير الحكومية ووكالات الأمم المتحدة. وكل ذلك سيدعم حالة الانقسام السياسي التي تعاني منها البلاد، وسيترك آثاراً اجتماعية لن يسهل علاجها.
وبالرغم من أن ملايين اللاجئين السوريين يعيشون في جنوب شرق تركيا، وحتى مع التوترات الأخيرة بين تركيا وحلفائها في الناتو بشأن انضمام السويد إلى الحلف، لكن الاتحاد الأوروبي تحرك وتعاون مع السلطات التركية، وحشد على الفور فرق البحث والإنقاذ لتركيا عقب طلبها تفعيل آلية الحماية المدنية التابعة للاتحاد الأوروبي، لكن الأمر اختلف مع سوريا رغم أن الحالة الإنسانية التركية السورية واحدة. ومن هنا يكيل الغرب بمكيالين على حساب الدم السوري، بقيامه بتسييس الأزمة الإنسانية.
تذكر "ناتاشا هول" الباحثة في برنامج الشرق الأوسط في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن، أنه حتى "كيرياكوس ميتسوتاكيس"، رئيس وزراء اليونان، خصم تركيا التاريخي، تعهد بإتاحة كل قوة متاحة لمساعدة جارتها، بالرغم من أن الرئيس "أردوغان" قرر أن يكون تنسيق الدعم الدولي والمساعدات من خلال الوكالات الحكومية التركية، وهو ما يطلبه الأسد في بلاده التي لا يزال هو حاكمها الشرعي. (Hall, 7 February 2023)
وبالطبع يعرف الغرب أن العقبات اللوجستية المتمثلة في الطرق السريعة المتصدعة والموانئ والمطارات المغلقة ونقص التمويل، هي عوائق أمام الاستجابة لمطالب سوريا. وأنه مضطر لو استجاب لرغبة السلطات في دمشق أن يرفع القيود عن الموانئ والمطارات بسبب حالة الطوارئ، ليتدفق الموظفون الدوليون لتقديم المزيد من المساعدة. وهو ما يعده الغرب مكسباً سياسياً كبيراً لدمشق بعد سنوات طويلة من الحرب، فربما يضطر الغرب للضغط على الجماعات المسلحة في الشمال الغربي بأي وسيلة لوضع يد للحكومة السورية في مناطقهم.
خاتمة
إن قدرة كل منطقة على الاستجابة للكارثة قد تحولت من مباراة إنسانية إلى صراع ذي أبعاد سياسية. يرى كل طرف مستقبله السياسي من خلال الأزمة، وبالطبع هناك حاجة إلى حلول سياسية في كل من تركيا وسوريا ترضي كافة الأطراف، كي يتجنب الشعب ذلك التقصير الكبير الذي ظهر في أفق الأزمة الإنسانية الحالية، حلول تمنح المتضررين اهتماماً أكبر ووصولاً ثابتاً للموظفين والمساعدات، لتحسين إدارة ما هو قادم، متوقع وغير متوقع.
ومن المفارقات أن تركيا، التي تقع على نفس خطوط الصدع الجيولوجي مثل سوريا، هي الخصم الأساسي لدمشق في المنطقة نفسها التي ضربها الزلزال. ومع مناورات تركيا الأخيرة لإصلاح علاقاتها مع سوريا، فمن الممكن أن توفر الكارثة المشتركة الذريعة اللازمة لتسريع هذه العملية في المستقبل القريب، إذا استطاعت إقناع حلفاءها في الشمال السوري بالتعاون ولو مؤقتاً مع دمشق. ويمكن أن يرى الرئيسين التركي والسوري فرصاً لتوسيع قواعدهما في الكارثة التي أودت بحياة عشرات الآلاف ودفعت أنظمة الإغاثة إلى أقصى حدودها. وقد تحصل تركيا أيضاً على بعض الراحة من الضغط الغربي تجاه موقفها من حلف الناتو في أعقاب الزلازل، ولكن ليس لفترة طويلة.
في الوقت الحالي، يرسل الحلفاء الغربيون والدول من جميع أنحاء العالم فرق المساعدات والإنقاذ للمساعدة في جهود الإغاثة في تركيا، والذي لن تمنع أنقرة حدوثه، لأنها تعلم جيداً أنها سوف تضطر إلى إطلاق إنفاق عام ضخم لدعم المحتاجين وإعادة بناء جميع المناطق المتضررة من الزلازل، بالرغم من أن لديها حيز مالي معقول. وبشكل عام تتمتع تركيا بقدرة كبيرة على التعامل مع حالات الطوارئ الطبيعية، بغض النظر عن التقصير الواضح في هذا المجال خلال سنوات "أردوغان" في الحكم.
وعلى الصعيد السياسي العام، كانت المعارضة متقدمة في استطلاعات الرأي خلال الفترة الماضية، وسنرى ما إذا كان الأمر سيختلف بعد أن يرى الشعب التركي طريقة تعامل الحكومة الحالية مع الكارثة، أم سيتغير. على أية حال، فإن طريقة تعاطي الرئيس التركي مع الأزمة، وأسلوب استجابته، يمكن أن يصنع مصيره السياسي مستقبلاً أو يفسده. "أردوغان" كان بالفعل في خضم أصعب معارك إعادة انتخابه قبل الزلزال، ومن المؤكد أن الزلزال سيقلب حسابات الناخبين رأساً على عقب. وبالرغم من مهاراته السياسية، لكنه سوف يواجه تسونامياً لا يرحم من السخط خلال الفترة القادمة.
أما سوريا، فيمكننا اعتبار أن إيصال المساعدات إلى شمالها الغربي من خلال تركيا أمر ينتهك سيادتها. وأن رغبة السلطات السورية في تنسيق إيصال المساعدات عن طريقها أمر شرعي ستفعله أي دولة تقع في الموقف نفسه. وربما كان الزلزال فرصة حقيقية لرفع عقوبات الدول الغربية التي طالما حمَّلت الحكومة السورية مسؤولية تفاقم الأزمة الاقتصادية والإنسانية. ويبدو أن الغرب الذي يتهم دمشق بأنها تحاول الاستفادة من المساعدات لإضفاء الشرعية على السلطة الحاكمة، هي الأخرى تستغل الأزمة الإنسانية بهدف الضغط على "الأسد" والبدء في التفاوض على تسوية سياسية تحمل وجهة نظر غربية.
نعتقد أن مسألة استجابة كافة الأطراف لدعم الأزمة في شمال سوريا ستواجه العديد من التحديات في الأيام والأشهر المقبلة. وقد يختار الجميع إعطاء الأولوية للاحتياجات الإنسانية على كافة الاعتبارات السياسية في جميع المناطق المتضررة، أو يزداد عنادهم على حساب حياة السكان. فلا تزال هناك تحديات كبيرة مع تصاعد الوضع الأمني، والديناميكيات الجيوسياسية بين تركيا والسلطات السورية وهيئة تحرير الشام التي تسيطر تقريباً على جزء كبير من المنطقة المتضررة في سوريا.
وبالرغم من كل ذلك، فمن الصعب تقييم مسار التداعيات السياسية لهذا الزلزال بشكل واضح ومؤكد في الوقت الحالي. وسيكون هناك المزيد في المستقبل لا يمكن التنبؤ به، مع وجود عدد لا يحصى من المشكلات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي تواجه كلاً من سوريا وتركيا.
مصادر الدراسة
آرمسترونغ، كاثرين، زلزال تركيا وسوريا: لماذا تعد حلب من أكثر المناطق تضرراً من الكارثة، بي بي سي نيوز العربية، 7 فبراير 2023: https://icss.ae/short/link/1676495806
ارتفاع حصيلة ضحايا زلزال تركيا وسوريا إلى نحو 42 ألف وفاة، روسيا اليوم، 16 فبراير 2023: https://icss.ae/short/link/1676629101
جماعة متطرفة ترفض دخول مساعدات عبر دمشق لشمال سوريا، ميدل إيست أونلاين، 12 فبراير 2023: https://icss.ae/short/link/1676495876
حزب العمال الكردستاني يعلن وقف العمليات العسكرية بتركيا، أمد للإعلام، 10 فبراير 2023: https://icss.ae/short/link/1676629144
طلب عاجل من أمريكا لمجلس الأمن بشأن سوريا، صحيفة الوطن البحرينية، 13 فبراير 2023: https://icss.ae/short/link/1676495937
عبد الله بن زايد يبحث مع الرئيس السوري في دمشق التداعيات الإنسانية للزلزال المدمر، الإمارات اليوم، 13 فبراير 2023: https://icss.ae/short/link/1676495978
وصول طائرة "إيل-76" روسية محملة بالمساعدات إلى سوريا، روسيا اليوم، 10 فبراير 2023: https://icss.ae/short/link/1676496041
Barkey, Henri, Massive Earthquake Could Reshape Turkish and Syrian Politics, CFR, 13 February 2023:https://icss.ae/short/link/1676496354 Berg, Matt, For Syria, aid is 'too little, too late', Politico, 13 February 2023: https://icss.ae/short/link/1676496871 El-Deeb, Sarah, after quake, war-hit Syrians struggle to get aid, rebuild, Associated Press, 13 February 2023: https://icss.ae/short/link/1676496826 Görgülü, Eray, Erdoğan, depre
min vurduğu Kahramanmaraş’ta 144 bin 556 kişinin imar affından yararlandığını açıklamış: Deprem bölgesinde 294 bin 166, İstanbul’da 319 bin binaya imar affı gelmiş, T24 Network, 12 Şubat 2023: https://icss.ae/short/link/1676496306
Gurcanli, Zeynep, Nerede yanlış yaptık, Ekonomim, 11 Şubat 2023: https://icss.ae/short/link/1676496562
Hall, Natasha, Earthquake May Deepen Syria’s Divides, CSIS, 7 February 2023: https://icss.ae/short/link/1676497032
Köklü, Kübra, Deprem Felaketinde Son Durum: 31 Bin 974 Kişi Yaşamını Yitirdi, Onedio Site, 14 February 2023: https://icss.ae/short/link/1676496139
Nichols, Michelle, Frustration at UN ahead of likely row with Russia on Syria aid, Reuters, 11 February 2023: https://icss.ae/short/link/1676496978
O'Connor, Tom, Syria Says U.S. 'Politicizes' Earthquake After Refusal to Send Aid to Assad, Newsweek, 7 February 2023: https://icss.ae/short/link/1676496779
Turak, Natasha, Turkey’s devastating earthquake comes at a critical time for the country’s future, CNBC, 9 February 2023: https://icss.ae/short/link/1676496185
Wintour, Patrick, Syria accused of playing politics with aid in aftermath of earthquake, The Guardian, 7 February 2023: https://icss.ae/short/link/1676496738
Yılmaz, Arzu, Devlet yok ama millet burda, Medyascope, 12 Şubat 2023: https://icss.ae/short/link/1676496641
Analysis: Earthquake in Syria offers leverage to isolated Assad, Euractiv, 9 February 2023: https://icss.ae/short/link/1676496919
Interview with Mike Harris about the Turkey earthquake, CNBC International TV, 7 February 2023: https://icss.ae/short/link/1676496240
Quake stalls election campaign of Turkey's splintered opposition, France24, 13 February 2023: https://icss.ae/short/link/1676496456
The earthquake in Turkey could have political aftershocks, NBR, 11 February 2023: https://icss.ae/short/link/1676496404
Turkey-Syria earthquake: Search for survivors continues, DW, 9 February 2023: https://icss.ae/short/link/1676496695
Türkiye, Syria - Earthquake, update, Relief web, 13 February 2023: https://icss.ae/short/link/1676496086