تداعيات متعددة للأزمة السياسية في فرنسا

استشرافات

تداعيات متعددة للأزمة السياسية في فرنسا

08-Oct-2025

 الأزمة السياسية التي تعصف بفرنسا ليست مجرد أزمة عابرة، بل هي أزمة بنيوية تعكس تحولات عميقة في المشهد السياسي والاجتماعي الفرنسي،  تداعياتها تتجاوز حدود باريس لتطال مستقبل الاتحاد الأوروبي واستقرار منطقة اليورو، بل وحتى موازين القوى العالمية. وبينما تبقى الحلول مفتوحة أمام الطبقة السياسية، يبقى المؤكد أن تجاوز هذه الأزمة يتطلب توافقًا وطنيًا واسعًا وإصلاحات جذرية تعيد الثقة للمجتمع والأسواق وتضع فرنسا على مسار الاستقرار مجددًا.

 

الآثار الاقتصادية

بعد ستة عشر شهرا من هذه الأزمة ، تتزايد الأعباء على فرنسا، مما يصعّب من وضعها المالي المتعثّر أصلا، إذ شهدت معدلات الاستثمار وثقة الأسواق تراجعا، وارتفعت أسعار الفائدة، إلى جانب تكاليف الانتخابات المرتفعة. ولا يزال الاقتصاد الفرنسي يعاني تداعيات قرار حل الجمعية الوطنية الذي اتخذه الرئيس إيمانويل ماكرون في حزيران/يونيو 2024، قبل أن تتفاقم الأمور بسبب استقالة رئيس الوزراء سيباستيان لوكورنو الاثنين.

 

تباطؤ في النمو

يتوقع المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية (INSEE) أن يبلغ النمو في فرنسا 0,8% فقط هذا العام، متأثرا بعزوف الشركات والأسر عن الاستثمار، وارتفاع معدل الادخار، فضلا عن تأثير التباطؤ الاقتصادي على التوظيف. وبحسب المرصد الفرنسي للظروف الاقتصادية (OFCE) الذي قيّم تأثير حالة الإرباك السائدة، ستبلغ تكلفة الأزمة السياسية منذ بدايتها في يونيو 2024 ما يعادل 0,5 نقطة مئوية من النمو، أي 15 مليار يورو، بحلول نهاية عام 2025.

في حديث إلى وكالة فرانس برس، يقول الخبير الاقتصادي في المرصد الفرنسي للظروف الاقتصادية إريك إيير "في ظل حالة الغموض، تُجمّد الشركات كل شيء، سواء الاستثمار أو التوظيف، وتزداد مدخرات الأسر"، مما يُضرّ بالنمو. وينبه الخبير الاقتصادي الى ضرورة التعامل بحذر مع هذا التقييم، نظرا إلى الصعوبة الكبيرة في تقييم تأثير أزمة متعددة الجوانب بدقة في ظل وضع عالمي قاتم.

في نهاية كانون الثاني/يناير، أشارت وزارة الاقتصاد إلى أنّ تكلفة حجب الثقة عن حكومة ميشال بارنييه و"عدم الاستقرار الذي ولّدته" تُقدَّر بـ12 مليار يورو، وهو رقم رفضته المعارضة آنذاك. وبحسب خبراء شركة "أليانز تريد"، بلغت تكلفة حل الجمعية الوطنية وحدها 4 مليارات يورو، مُقسّمة بين انخفاض قدره 2,9 مليار يورو في عائدات الضرائب، نتيجة انخفاض النمو بمقدار 0,2 نقطة مئوية، وارتفاع أعباء الفوائد على الديون الفرنسية بنحو مليار يورو.

اضطرابات في الأسواق المالية

تضررت الأسواق المالية بشدة جراء الأزمة السياسية، سواء لجهة الأسهم في البورصة أو أسعار الفائدة. وتكمن القناة الرئيسية لتمدّد الأزمة في ارتفاع معدلات الاقتراض الفرنسي لأجل عشر سنوات، والتي تتجلى من خلال الفارق في معدلات الفائدة مع ألمانيا المعروف بـ"سبريد". وارتفع هذا الفارق بنحو 0,3 إلى 0,4 نقطة مقارنة بالفترة التي سبقت حل الجمعية الوطنية.

ليس ارتفاع أسعار الفائدة الفرنسية خبرا سارا للمالية العامة، إلا أن اقتراض البلاد خلال السنوات الأخيرة بمعدلات فائدة منخفضة بشكل غير مسبوق يُخفف من وطأته. يقول مدير الدراسات الاقتصادية في كلية "اي او اس او جيه" للإدارة إريك دور، إنّ "الوضع ليس دراماتيكيا، فهذه ليست اليونان، لكنه سيزيد من تعقيد الجهود المبذولة في الموازنة".

وبعيدا من خطر أزمة مالية حادة، يكمن القلق الأكبر في التدهور التدريجي والمزمن للمالية العامة، إذ وصلت الديون العامة إلى رقم قياسي يتخطى3,4 تريليون يورو، بالإضافة إلى خطر تدهور التصنيف الائتماني من قبل وكالات التصنيف بعد قرار وكالة فيتش في أيلول/سبتمبر الذي يعزى إلى حالة عدم الاستقرار السياسي، ما قد يؤدي إلى زيادة تكلفة الديون.

وفي البورصة، ارتفع مؤشر كاك 40 الذي يضم أكبر 40 شركة في البلاد، بنحو 8% منذ بداية العام، مقارنة بارتفاعات تراوح بين 15% و25% في المراكز المالية الأوروبية الرئيسية. وقال إريك ايير "هذا يعني بالنسبة إلى الشركات تراجعا في قدرتها الاستثمارية"، مما يُضعف مكانتها في المنافسة الدولية.

مزيد من التكاليف

يتطلب تنظيم العملية الانتخابية، من إجراء الانتخابات إلى تعويض نفقات المرشحين وزيادة المخصصات المالية للوزراء السابقين، تكاليف باهظة، خصوصا عند الدعوة إلى الانتخابات بشكل متكرر، مع العلم أنّ هذه النفقات تبقى أقل نسبيا مقارنة ببعض التكاليف الأخرى.

يقول المقرر العام السابق للموازنة شارل دو كورسون، في تقرير برلماني مؤرخ في تشرين الثاني/نوفمبر 2024، إنّ تكلفة تنظيم الانتخابات التشريعية بعد حل الجمعية الوطنية بلغت نحو 200 مليون يورو. وعندما استقال سيباستيان لوكورنو الاثنين، انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي رسائل كثيرة تنتقد الامتيازات الممنوحة لخمسة نواب جدد انضموا إلى الحكومة، لم يتولّوا مناصبهم سوى لساعات قليلة فقط، مما يعني احتمال تقاضيهم مخصصات مالية لثلاثة أشهر. لكنّ مادة في قانون الانتخاب تستبعد هذا الاحتمال. وسيستمر النواب السابقون في تقاضي مخصّصاتهم البرلمانية، لكن ليس العلاوة الوزارية.

أولًا: التداعيات الداخلية للأزمة

شلل حكومي وتشريعي: أبرز ما ترتب على الأزمة هو الشلل المؤسسي الذي أصاب الجهاز التنفيذي والتشريعي. غياب أغلبية برلمانية واضحة حال دون تمرير مشروعات القوانين الحيوية مثل قوانين الميزانية والإصلاحات الضريبية، مما حدّ من قدرة الحكومة على تنفيذ برامجها أو الاستجابة الفعالة للأزمات الاقتصادية والاجتماعية.

أزمة اقتصادية وتراجع ثقة المستثمرين : أثرت حالة عدم الاستقرار السياسي سلبًا على الاقتصاد الفرنسي. فقد شهدت الأسواق المالية ارتفاعًا في عوائد السندات الحكومية نتيجة تزايد المخاطر، وتراجعت الاستثمارات الأجنبية بسبب ضبابية المشهد. وتشير تقارير اقتصادية إلى أن الأزمة السياسية قد تكلف فرنسا نحو 0.3  نقطة مئوية من نمو الناتج المحلي الإجمالي لعام 2025.

تآكل الثقة الشعبية وتصاعد الاحتجاجات: تزايدت حالة الاستياء الشعبي من عجز الحكومة عن تلبية التطلعات، ما أدى إلى موجات من الاحتجاجات والإضرابات قادتها النقابات ضد سياسات التقشف المحتملة وتأخر الإصلاحات. كما انخفضت شعبية الرئيس والحكومة بشكل غير مسبوق، ما زاد من الضغوط المطالبة بإعادة الانتخابات أو استقالة القيادة السياسية.

خطر الفراغ المالي وتأخر إقرار الميزانية : أحد أخطر التداعيات يتمثل في احتمال عدم إقرار الميزانية العامة في موعدها، الأمر الذي قد يدفع الحكومة إلى اتخاذ إجراءات تمويل مؤقتة ويزيد من هشاشة الوضع المالي. وفي حال استمرار الأزمة، قد تخسر فرنسا بعض تصنيفاتها الائتمانية، ما يرفع من تكاليف الاقتراض الحكومي.

 

ثانيًا: التداعيات الأوروبية والدولية

تهديد للتماسك الأوروبي : فرنسا، باعتبارها ثاني أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي، تمثل ركيزة أساسية في استقراره. استمرار الأزمة قد يعرقل الوفاء بالالتزامات المالية الأوروبية مثل معايير العجز والديون، ويضعف من قدرة الاتحاد على تنفيذ سياساته الموحدة.

انعكاسات على منطقة اليورو: الاضطراب السياسي في باريس ينعكس مباشرة على ثقة المستثمرين في منطقة اليورو، ما قد يؤدي إلى ارتفاع تكاليف الاقتراض في الأسواق الأوروبية ككل، ويضعف العملة الموحدة أمام العملات المنافسة.

إضعاف الدور الفرنسي الخارجي : أدت الأزمة إلى تراجع الدور الفرنسي في السياسة الدولية، إذ انشغلت الحكومة بأزماتها الداخلية، ما قلل من قدرتها على المبادرة في ملفات مثل الدفاع الأوروبي، والسياسات المناخية، والعلاقات الدبلوماسية مع القوى الكبرى.

فتح الباب أمام القوى المنافسة: في ظل الانشغال الداخلي، قد تستغل قوى دولية أخرى مثل روسيا أو الصين الفراغ السياسي الفرنسي لتعزيز نفوذها داخل أوروبا أو التأثير في قرارات الاتحاد الأوروبي، ما يشكل تحديًا إستراتيجيًا طويل الأمد.

 

 

 

100