
منذ اندلاع الحرب المباشرة بين إسرائيل وإيران، وتحولها إلى مواجهة شاملة بعد تدخل الولايات المتحدة عسكريا في 22 يونيو 2025، وبالرغم من اتفاق وقف إطلاق النار الذي دخل حيز التنفيذ صباح الثلاثاء، لكن المنطقة أصبحت أمام منعطف خطير يهدد باحتمال انزلاقها إلى نزاع واسع النطاق يصعب احتواءه، تزداد معه الحاجة إلى تفعيل أدوات تفكك التوتر، للحول دون التحول إلى حرب مفتوحة قد تشمل أطرافا دولية متعددة. في هذا السياق، نستعرض أبرز الأدوات الممكنة لتفكيك التوتر، مع تقييم لفعاليتها وفرص نجاحها في ضوء المتغيرات الراهنة.
وساطة خليجية
بالرغم من قيام إيران بمحاولة استهداف قاعدة
العديد الجوية في قطر، إلا أن الدوحة صممت على المضي قدما في جهودها للتوسط في
تحقيق الاستقرار والسلام بين طرفي النزاع. وقد فسر الدكتور ماجد بن محمد الأنصاري، مستشار رئيس مجلس الوزراء، الموقف
القطري قائلا: "نحن نعتبر هذا الهجوم مفاجئا في ظل مواقف دولتنا، وحرصها على
حسن الجوار، وانتهاجها الوساطة لحل الأزمات، فدولة قطر كانت ولا زالت مؤمنة بخيار
السلام وتحقيقه، ساعية نحو أن تكون نبراسا لهذا السلام عالميا، ولن تردعها أو
تثنيها أي ممارسات خاطئة من أي طرف كان". وبذلك استمرت قطر في ممارسة دورها
لنزع فتيل الأزمة دون التفات لأي خروقات. (صحيفة الشرق القطرية: 24 يونيو 2025)
ويُعول على بعض دول الخليج العربي اليوم لتفعيل قنوات خلفية تحقق سلام دائم
بين إسرائيل وإيران، وتقديم مقترحات تحقق استمرارا ناجحا لوقف إطلاق النار. وفي اعتقادنا أن تفعيل إطار حواري إقليمي مباشر يضم دول مجلس التعاون الخليجي وإيران، يُعنى
بمناقشة الملفات الأمنية التي تمس الطرفين، بما فيها تهديدات الملاحة ومخاطر
الصواريخ الباليستية، يمكنه تقليص شهية إيران للرد على أي ضربات مستقبلية من خلال أي
طرف، إلا في حدود الدفاع عن النفس وفقا للقانون الدولي، ما يعطي للدول الخليجية
هامش مناورة لمنع استخدام أراضيها أو أجوائها في أي حروب. نعتقد أن الخليج يمكنه
الخوض في مثل هذا الطرح بشكل آمن وفعال.
ضمان أمن المضائق المائية
مع تهديدات إيران المتكررة بإعاقة الملاحة البحرية،
تتصاعد المخاوف حول أمن المضائق المائية في الشرق الأوسط. مضيق هرمز على سبيل المثال، شريان بحري حرج تمر عبره قرابة 20% من صادرات
النفط العالمية. كما يُعد ممرا دوليا حيويا لحوالي 27% من تجارة الغاز الطبيعي
المسال المنقولة بحرا، ما يضاعف من أهمية استقراره بالنسبة لأمن الطاقة العالمي.
يرى الباحث السياسي فراس طرابلسي أن هذا المضيق شكَّل لعقود توازنا دقيقا
بين الجغرافيا السياسية والقانون الدولي. ومع احتدام النزاع بين طهران وتل أبيب،
تبرز دول الخليج مجددا كقوة إقليمية مسؤولة، تعمل على حماية استقرار الطاقة، دون
الانزلاق إلى دائرة الحرب. إن القراءة الدقيقة لهذا التوازن تكشف عن مقاربة حذرة،
تستند إلى القانون الدولي من جهة، وإلى إدراك عميق لمخاطر عسكرة المضائق من جهة
أخرى. (العربية: 24 يونيو 2025)
من ناحيتنا نجد أن مضيق باب المندب كذلك يجب
إيجاد أدوات فعالة لتأمينه ضد انتهاكات وكلاء إيران في اليمن، بوضعه على طاولة أي
مفاوضات مستقبلية. حيث تمثل منطقة البحر
الأحمر أهمية استراتيجية فى الترتيبات الأمنية والسياسية والاقتصادية على الصعيدين
الدولى والإقليمي، باعتباره أحد أهم ممرات المياه فى العالم نظرا لموقعه
الاستراتيجى.
تذكر الباحثة السياسية نورا معروف، أنه إلى جانب تأثير الحرب الإيرانية
الإسرائيلية عليه، هناك تفاعلات عسكرة البحر الأحمر بين القوى الدولية من خارج
الإطار الجغرافى للمنطقة، كالولايات المتحدة وروسيا والصين ودول أوروبا ومصالحها
فى المنطقة، وتأمين أدوات لتحقيق استقراره سيهدئ من حالة التوتر القائمة. (مجلة السياسة الدولية: 19 فبراير 2025)
ومن هذا المنطلق، قد يكون من الملائم التفكير في تطوير آلية إقليمية تُعنى
بتطبيق قواعد المرور الآمن في المضائق، بعيدا عن التجاذبات السياسية وتدخلات القوى
الدولية، إضافة إلى طرح ملف أمن الملاحة ضمن أي مفاوضات إقليمية مقبلة.
العودة للمفاوضات
من ضمن الأدوات التي يمكنها تخفيض حدة التوتر في المنطقة هي العودة للتفاوض
حول الملف النووي الإيراني. لكن معظم الخبراء أجمعوا على أن احتمالات ذلك في
المستقبل القريب ضئيلة، مع وجود فجوة بين مطالبة واشنطن لإيران بالتوقف عن تخصيب
اليورانيوم تماما، ورفض طهران التخلي عن برنامجها النووي. يقول جيمس أكتون، المدير
المشارك لبرنامج السياسات النووية في مؤسسة كارنيجي، لهيئة الإذاعة السويسرية: "أعتقد
أن احتمالات الدبلوماسية الفعالة في هذه المرحلة ضئيلة جدا". (سويس إنفو: 22 يونيو 2025)
وفي أعقاب العمل العسكري الأميركي، يبدو أن أي دور دبلوماسي أوروبي سيكون
ثانويا على الأرجح. فقد قلل ترامب من أهمية الجهود الأوروبية لحل الأزمة قائلا إن
إيران تريد فقط التحدث إلى الولايات المتحدة. (CNBC: 23 June 2025)
لكن بالرغم من ذلك يصر قادة أوروبا على التدخل، بتجديد دعوتهم لعودة
المفاوضات خلال اجتماعهم في بروكسل يوم 23 يونيو. من رأي كايا كالاس، كبيرة
الدبلوماسيين في الاتحاد الأوروبي، أنه "لابد من إيجاد آلية دبلوماسية جديدة
لهذا الملف، يكون لأوروبا دور مهم فيها. عندما تكون إيران مستعدة للتحدث معنا،
علينا أن نغتنم هذه الفرصة"، كما اقترح وزير الخارجية الإيطالي أنطونيو
تاجاني روما كمكان محتمل للمحادثات الأميركية الإيرانية برعاية أوروبية. (Politico: 23 June 2025)
الآن أصبحت الحلول المقترحة متباينة، فبعد أن أعلنت أكسيوس منذ أسابيع أن
هناك مقترحات لتخصيب اليورانيوم في منشأة خارج إيران، كضمان لتحقيق النسبة المسموح
بها دون تجاوزات، كذلك مقترح عُمان بإنشاء اتحاد تخصيب يورانيوم إقليمي تكون إيران
طرفا فيه (Axios: 1 June 2025)، أصبح ترامب يصرح الآن بأن برنامجها النووي انتهى للأبد، ولكن هل
حيده تدخله العسكري بالفعل للأبد، أم أنه أخطأ في تقدير الموقف.
نعتقد أن الأمر الآن يتوقف على التزام طرفي
الصراع بوقف إطلاق النار. يقول فيليبس أوبراين، أستاذ الدراسات الاستراتيجية في
جامعة سانت أندروز في اسكتلندا: "سيحدث خفض التصعيد الفعلي وستبدأ المفاوضات
حول كافة الملفات عندما يريده الجانبان، إذا اعتقدت إسرائيل أنها حققت ما تريد
فعلا، واعتقد الإيرانيون أيضا أن استمرار القتال يعرض حكمهم للخطر". (WSJ: 24 June 2025)
على أية حال، عودة الأطراف للتفاوض تحت وساطة دولية أو إقليمية، والتوصل
إلى تفاهمات أمنية حول الملف النووي، أصبحت أكثر إلحاحا. وحتى بعد تدمير المنشآت
النووية، فإن الضغوط المكثفة ستعمل على الوصول إلى تفاهمات دون تصعيد، بالرغم من
أن ضعف الثقة يجعل هذا المسار صعبا، ويتطلب تنازلات وضمانات دولية، وتغليبا
للمصالح على الإيديولوجيات.
احتواء مليشيات محور المقاومة
إن إنهاء وجود المليشيات الموالية لإيران في المنطقة العربية لم يعد مجرد
خيار مطروح للنقاش، بل تحول إلى شرط سياسي وأمني تضعه واشنطن بوضوح على طاولة أي
ترتيبات إقليمية جديدة. يرى الخبراء أن المرحلة المقبلة ربما تتجه فعليا نحو شرق
أوسط منزوع من سلاح المليشيات.
على الجانب العراقي الأخطر، كونه يؤمن الجبهة الغربية الضعيفة لإيران، يذكر
الباحث كمال الطائي، أن الولايات المتحدة ترى في المليشيات العراقية الموالية
لإيران نموذجا قابلا للتكرار في دول أخرى، وهو ما يجعل تفكيكها خطوة استباقية
لتحصين النظام الإقليمي. ولم تكن زيارة رئيس جهاز المخابرات العراقي مسرور بارزاني
إلى واشنطن بروتوكولية، وكانت لقاءاته مع مسؤولي مجلس الأمن القومي خلال شهر مايو
الماضي، تأتي ضمن عملية تنسيق كبيرة لإعادة رسم المشهد الأمني الداخلي في العراق.
(شبكة إرم: 21 مايو 2025)
وبالإضافة إلى العمليات العسكرية التي شنتها واشنطن وإسرائيل ضد المليشيات التابعة
لإيران في اليمن ولبنان منذ 2024، يمكن للقوى الدولية والإقليمية العمل على قطع
خطوط التمويل واللوجستيات عن وحدات الحرس الثوري المسئولة عن تهريب الأسلحة لحزب
الله والحوثيين وحماس، وعمل آليات مراقبة وملاحقة وتجميد أموال، بشكل يضعف قدرتها اللوجستية
القوية. كذلك تعطيل نقل الخبرات بين الجماعات المسلحة، خاصة التعاون بين الحوثيين
والمليشات العراقية في مجال التدريب على استخدام الطائرات المسيرة، وتفكيك الهياكل
التدريبية، ما يقلل من قدرتها على الانتقال والتوسع.
ولكن لا يمكن القيام بتلك الآليات دون تعزيز القوى المحلية والتأكيد على مشاريع
التمكين، بالدعم المالي والأمني، خاصة لبنان والعراق، لتقوية قدراتها على التحكم
بالداخل، ومنع التسليح خارج الجيش النظامي. إن تعزيز دور الجيش اللبناني لدمج
مسلحي حزب الله، وفق إعلان رئيس لبنان في إبريل 2025، وضمان نزع سلاح المخيمات
الفلسطينية، سيقلل كثيرا من قدرات مليشيا إيران في المنطقة. لأنه إذا انقطع
الاتصال بين الجيش الإيراني ومليشياته، يصير تفكيكها أسهل.
خلاصات
بالإضافة إلى ما سبق، يحتاج الشرق الأوسط حال أكثر توازنا في إدارة صراعاته، بعدم الاعتماد على واشنطن كليا لإيجاد حلول. القوى الأوروبية والآسيوية والخليجية، يجب أن يكون لهم الدور الأكبر. على سبيل المثال يمكن للجانب الأوروبي أن يلعب دورا مقبولا في إيران، خصوصا إذا رافقه حافز اقتصادي. كما يمكن إشراك القوى العربية الفاعلة في المفاوضات النووية.
الحوافز الدولية يمكنها أيضا تفكيك التوتر في الشرق الأوسط، كالرفع التدريجي
للعقوبات الاقتصادية عن إيران، مقابل تجميد برنامجها النووي. ومنح إسرائيل ضمانات
صارمة بحماية أمنها الحيوي دون اللجوء للعمل العسكري. وإطلاق مؤتمر دولي لأمن
الخليج والشرق الأوسط برعاية الأمم المتحدة.
وهكذا يبقى تفكيك التوتر بين إسرائيل وإيران تحديا صعبا، لكنه ليس مستحيلا.
ما يحتاجه هو مزيج دقيق من الضغط الدبلوماسي، والوساطة الإقليمية الذكية، والحوافز
الاقتصادية. الشرط الأساسي لأي نجاح في هذا الاتجاه هو قبول مبدأ الردع المتبادل
القابل للإدارة، وفصل الملفات النووية عن الصراع الإقليمي، وإعادة دور الأمم
المتحدة كمرجعية شاملة.
وبالرغم من أن الاحتمال الأكبر على المدى القريب هو استمرار حالة اللاسلم
واللاحرب مع تصعيد محتمل، فإن المنطقة تظل على صفيح ساخن إلى حين. وأي سوء تقدير،
أو حادث غير مقصود، أو تغير مفاجئ في موازين القوى، قد يدفع بها نحو مصير أكثر
قتامة لن يتوقعه أحد.