
تمثل جولة دونالد ترامب التي بدأها من المملكة العربية السعودية في 13 مايو، واستمرت عبر قطر والإمارات العربية المتحدة، أول رحلة خارجية رسمية له منذ عودته إلى منصبه في يناير 2025. وفي قصر اليمامة، ترأس ترامب وولي عهد المملكة الأمير محمد بن سلمان منتدى الاستثمار السعودي الأميركي، حيث وقعا اتفاقية شراكة بين الحكومتين، تناولت العلاقات الثنائية والأمن الإقليمي، وأسفرت عن تبادل العديد من الاتفاقيات والتفاهمات في قطاعات رئيسية، بما في ذلك الدفاع والطاقة والصحة والفضاء والبحث العلمي. وشملت الزيارة أيضا القمة الأميركية الخليجية التي عُقدت في الرياض، حيث أكد القادة خلالها على متانة العلاقات الاستراتيجية بين الولايات المتحدة ودول مجلس التعاون الخليجي.
تعزيز العلاقات
الاقتصادية
كان التركيز كبيرا في الرياض على إبرام الاتفاقيات الاقتصادية. وفقا لمنظمو
منتدى الاستثمار، تم توقيع 145 صفقة بقيمة إجمالية تبلغ 300 مليار دولار مع شركات
أميركية. تشمل هذه الصفقات حزمة دفاعية بقيمة 142 مليار دولار، إضافة إلى استثمارات
تكنولوجية بقيمة 80 مليار دولار، وصفقات في قطاعي الطاقة والطيران بقيمة 19 مليار
دولار. (Asharq Business: 15 May 2025)
ووفقا لمجلة فوربس، فإن قيمة صفقات ترامب التجارية مع دولة الإمارات
تجاوزت 200 مليار دولار، تتضمن التزاما بقيمة 14.5 مليار دولار ستستثمر في 28
طائرة بوينغ 787 و777. وناقش مع رئيس الدولة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد
إمكانات تطوير التعاون في مجالات الطاقة المتجددة
والأمن السيبراني. وأعلنت شركة الإمارات العالمية للألمنيوم عن نيتها الاستثمار في
إنشاء أول مصهر ألمنيوم في الولايات المتحدة. (Forbes: 16 May 2025)
وفي قطر، تم توقيع عقود استثمار تجاوزت قيمتها 243.5 مليار دولار، وأعلن
ترامب خلال خطاب ألقاه في قاعدة العديد الأميركية أن الدوحة ستشتري أسلحة من
الولايات المتحدة بقيمة 42 مليار دولار. وتم الاتفاق على أن تشتري الخطوط الجوية
القطرية 210 طائرات بوينج بقيمة 96 مليار دولار، وذلك إلى جانب العديد من
الاتفاقيات المتعلقة بالدفاع، بما في ذلك صفقة بقيمة مليار دولار لشراء تكنولوجيا
دفاع الطائرات المسيرة من شركة رايثيون آر تي إكس. (New York Times: 16 May 2025)
ومن المعروف أن حجم التجارة بين واشنطن ودول الخليج تجاوز 180 مليار
دولار في عام 2024، ولا تزال تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر قوية حتى من قبل
جولة ترامب الأخيرة. نذكر أنه في عام 2023، بلغ إجمالي رصيد استثمارات الإمارات في
الولايات المتحدة 35 مليار دولار، بينما بلغ استثمار السعودية 9.6 مليار دولار، وقطر
3.3 مليار دولار. (Asharq Business: 15 May 2025)
صفقات تكنولوجية تتجاوز القيود
مهدت زيارة
الرئيس الأميركي الطريق أمام حليفين رئيسيين في الخليج لمواصلة طموحاتهما في مجال
الذكاء الاصطناعي، هما السعودية والإمارات، حيث استغلت أكبر شركات التكنولوجيا
الأميركية الفرصة واتفقت على خطط لإنفاق مليارات الدولارات في المنطقة.
وبموجب الاتفاقيات
تستعد السعودية والإمارات للاستفادة بشكل موسع من رقائق الذكاء الاصطناعي المتقدمة
التي تصنعها شركتا إنفيديا NVIDIA وأدفانسد
مايكرو ديفايسز AMD، التي تعد الأساس في تشغيل نماذج الذكاء الاصطناعي. وقد تصدرت شركة
هيوماين السعودية الصفقات، واتفقت مع إنفيديا على تزويدها خلال السنوات الخمس المقبلة
بـ 18 ألف وحدة من شرائح GB300 Grace
Blackwell، وتقنية شبكات إنفيني باند InfiniBand.
كما قررت AMD توفير رقائق
وبرمجيات لمراكز بيانات تمتد من الرياض إلى واشنطن، ضمن مشروع تبلغ قيمته 10 مليار
دولار. وتعهدت المملكة بالسماح لخدمة ستارلينك التابعة لإيلون ماسك أن تُطبق في
قطاعي الطيران والشحن البحري السعودي. كما أعلنت كل من أمازون وهيوماين استثمار 5
مليار دولار لبناء منطقة ذكاء اصطناعي في السعودية. وذكرت سيسكو سيستمز أكبر شركات
الشبكات أنها ستتعاون مع هيوماين لدمج خبرتها مع طموحات المملكة في نشر الذكاء
الاصطناعي.
وفي أبوظبي قررت
إدارة ترامب دراسة صفقة تتيح للإمارات استيراد أكثر من مليون شريحة متقدمة من
إنفيديا، وهو عدد يتجاوز بكثير القيود المفروضة في عهد بايدن على الرقائق. وبالرغم
من أنها لا تزال قيد التفاوض، لكنها ستتحقق بنسبة كبيرة، نظرا لرغبة الشركات
الأميركية في الانفتاح على سوق الإمارات، التي تسابق
الزمن لتصبح قوة تكنولوجية مستقلة.
وبالتزامن مع
الزيارة، وبناء على طلب من الإمارات تحركت الولايات المتحدة رسميا لإلغاء ما يُعرف
بقاعدة نشر الذكاء الاصطناعي، التي أطلقت في عهد الرئيس جو بايدن. ومع ذلك، فإن
حماسة إدارة ترامب لخفض الحواجز أمام حليف مهم كالإمارات تثير بعض الاعتراضات بين
المتخوفين من الصين في واشنطن، حتى أنهم أعربوا عن قلقهم من أن مثل هذا الاتفاق من
شأنه أن يخاطر بحصول كيانات صينية على تكنولوجيا حساسة. (Bloomberg: 15
May 2025)
لكن على كل الأحوال، يبدو أن ترامب سيخضع لرغبة قائدي الإمارات
والسعودية، حيث أن حصولهما على هذه التكنولوجية الأميركية المتقدمة، سيقيد
علاقتهما مع الصين في سباق التسلح العالمي بالذكاء الاصطناعي، مما يستوجب رفع القيود
المفروضة على التقنيات. وهذا يدل على أن الاستفادة من زيارة الرئيس الأميركي لا
تصب فقط في مصلحة واشنطن كما يظن البعض، لكنها أيضا تفيد المستقبل التقني لدول
الخليج والمجتمع العربي ككل.
الانخراط في ملفات جيوسياسية
أكدت جولة الرئيس الأميركي على تجدد التوافق الاستراتيجي بين واشنطن ودول مجلس التعاون الخليجي، حيث استغل الجانبان هذه المناسبة لتعميق التعاون،
بمناقشة قضايا سياسية إقليمية حساسة تؤرق الولايات المتحدة والعرب على حد سواء.
خلال الزيارة كان فريق ترامب يتحدث مع مسؤولين قطريين وسعوديين حول
كيفية تخفيف الأزمة الإنسانية الناجمة عن الحصار الإسرائيلي لغزة. وهو ما يتفق
عليه تقريبا كل قادة الخليج العربي، وألمح إليه ولي العهد السعودي الأمير محمد بن
سلمان خلال كلمته في القمة الأميركية الخليجية. ومن خلال تصريحات الرئيس الأميركي
للصحافيين بعد انتهاء الزيارة، يبدو أنه سيفعل شيئا يخفف من حدة الأزمة.
رفع العقوبات عن سوريا
كذلك أجمع الخبراء على أن قرار ترامب برفع العقوبات عن سوريا يمثل أحد
أكبر رهانات السياسة الخارجية حتى الآن في ولايته الثانية. لم تُكشف بعد تفاصيل المحادثات
الدبلوماسية مع قادة الخليج التي أدت إلى هذا القرار. لكن هذه الخطوة تعكس إدراكا جماعيا
بأن سوريا التي دمرتها الحرب الأهلية تمر بمرحلة تحول، ولديها القدرة على الانزلاق
إلى فوضى أكبر إذا تدهورت الأوضاع فيها. (CNN: 15 May 2025)
في الحقيقة، نرى أن هذه الخطوة هي دلالة على انتصار الدبلوماسية
الخليجية، كما أنها تعكس رغبة بعض القادة الأوروبيين والشرق أوسطيين في التخلي عن
استيائهم من أنشطة الشرع السابقة، على أمل أن يتمكن من منع العودة إلى الفوضى. هناك
أيضا رغبة خليجية بمنع عودة القوى الخارجية إلى سوريا.
على إيران التوقف عن رعاية الإرهاب
كذلك أكد ترامب في أثناء زيارته لقطر، حسب وسائل الإعلام القطرية، أنه
يجب على إيران التوقف عن رعاية الإرهاب ووقف حروبها الدموية بالوكالة إذا أرادت
السلام. ومن المرجح أن إضافة هذا الشرط وإعلانه من دولة خليجية، أمر بالغ الأهمية يعزز
أي اتفاق بشكل كبير ويحقق استقرارا في المنطقة بشكل غير مسبوق، فإذا أصبح كبح جماح
وكلاء طهران شرطا من شروط أي اتفاق، فسوف يكون ذلك بمثابة تغيير جذري.
على أية حال، يبدو أن الرئيس ترامب
يرغب في التفوق على الصين بتأمين علاقة أوثق مع دول الخليج، ويريد إن يصطف إلى
جوار القادة العرب لإنهاء كافة التهديدات الأمنية التي يواجهها الشرق الأوسط.
فهناك الحرب في غزة، وجهود تحجيم إمكانات إيران النووية من خلال المفاوضات،
والتهديدات الأمنية في البحر الأحمر، وإنهاء الفوضى في سوريا وكسر
جمودها السياسي.
كذلك رغبته في التقدم نحو اتفاق نووي مدني مع الرياض.
نظرة تحليلية حول الزيارة
لا يمكن وصف جولة الرئيس دونالد ترامب إلى منطقة الخليج العربي إلا بكونها
زيارة إعادة ترتيب الأولويات، إنها الزيارة الأولى له خارج الولايات المتحدة، التي
اختار لها منطقة يعتبرها من أولوياته، سواء على الصعيد الاقتصادي أو السياسي
والأمني. والحقيقة، لم تشهد المنطقة زيارة رئاسية أميركية كهذه من قبل. وفي
المقابل هي تعيد ترتيبات أولويات دول الخليج وتوجهاتها الاقتصادية والجيوسياسية
والاستراتيجية، بما ينعكس على مصلحة شعوبها ومستقبلهم.
يرى الباحث في معهد واشنطن ديفيد شينكر، أنه بالرغم من أن وسائل
الإعلام لم تفصح عما دار بين الرئيس الأميركي وقادة دول الخليج خلال المناقشات
التي سبقت القمة الخليجية، ولكن من الواضح أنها ارتبطت بملفات سياسية واستراتيجية
حساسة خاصة بأمن المنطقة في العموم، مثل إعلان نيته في رفع العقوبات المرهقة عن
سوريا (وهو ما حدث فعلا). كما أنه لم يدافع عن قيام دولة فلسطينية، لكنه دعم
مستقبلا آمنا وكريما للشعب الفلسطيني. كذلك وصف التطورات الحالية في لبنان بأنها
فرصة نادرة لبناء بلد مزدهر ينعم بالسلام. كل ذلك لم يكن ليحدث لولا الرغبة
الصادقة لقادة دول الخليج في نشر السلام بالمنطقة. (Washington Institute: 14 May 2025)
رؤية غير مسبوقة
يحمل ترامب رؤية غير مسبوقة للشرق الأوسط كمنطقة
زاخرة بالفرص والإمكانيات، إذا تم وقف عدوان مجموعة صغيرة من الجهات الفاعلة
السيئة. ونعتقد أن دول مجلس التعاون الخليجي تتوافق بشكل وثيق مع رؤيته الإقليمية،
التي تركز بشكل شبه حصري على التنمية الاقتصادية وخفض التصعيد وتجنب الحرب.
ويبدو أن العلاقات بين واشنطن ودول مجلس التعاون الخليجي دخلت مرحلة
جديدة، مدفوعة بالدبلوماسية التبادلية، وإعادة التوازن الإقليمي، والمصلحة
المشتركة. وفي حين تظل التساؤلات قائمة حول مدى استدامة هذه الشراكات والآثار
الأوسع نطاقا على السلام الإقليمي، فإن حجم الاتفاقيات والالتزامات الاستراتيجية
يشير إلى تحالف عميق تشكل من خلال الاقتصاد والأمن والتكنولوجيا.
من وجهة نظرنا،
لكي تزدهر العلاقات بين الولايات المتحدة ودول الخليج في السنوات المقبلة، وتتحقق
نتائج إيجابية لجولة ترامب، يتعين على واشنطن أن تتكيف مع الأولويات المتطورة في
الخليج، وعلى رأسها رغبة قياداته في خفض التصعيد حتى تتمكن من التركيز على برامج
التنويع والإصلاح المحلية، وإلا ستخاطر واشنطن بفقدان موطئ قدمها في منطقة ذات
أهمية استراتيجية حاسمة.
إن جولة ترامب تحمل في طياتها أكثر مما صرح به البيت الأبيض، فنادرا ما يتحدث
الرؤساء الأميركيون عن بناء علاقات جديدة، لكنهم يتحدثون دائما عن تشجيع
الديمقراطية وما إلى ذلك، لكن ترامب تحدث عن شرق أوسط يراه يتطور متجاوزا
الانقسامات المرهقة وتحدده التجارة لا الفوضى، والتكنولوجيا لا الإرهاب، وبناء
علاقات استراتيجية مع قادة يسعون لبناء الإنسان ويؤمنون بالسلام والاستقرار.