مقالات تحليلية

طوفان الأقصى: من وحدة الساحات إلى فصل المسارات

04-Aug-2025

كانت عملية "طوفان الأقصى" التي أذنت بتوسيع مفهوم "وحدة الساحات" إلى الدائرة الإقليمية فعلاً فلسطينياً خالصاً في التخطيط وفي التنفيذ، لكنها فتحت لإسرائيل فُرصاً استراتيجية للفصل بين جماعات "وحدة الساحات" وتفكيك رابطتها. تطرحُ هذه الحقائق أسئلة حيويّة بشأن مستوى التنسيق بين مكونات "وحدة الساحات"، وطبيعة دورها في حرب غزة وفي الحروب التي طاولت ساحاتها. كما تُناقش الكيفية التي تعاملت بموجبها إسرائيل مع "وحدة الساحات" كوحدات منفصلة، وتستشرفُ أخيراً انعكاسات هذه التطوُّرات على مستقبل "وحدة الساحات".   

من المحليّة إلى الإقليميّة:

يُعتبر مفهوم "وحدة الساحات" حديثاً في التداول بين المشتغلين في قضايا الصراع وتشابكاته، حيث يُرجعه البعض إلى عام 2021، ويُقصد به ربط الساحات الفلسطينية وتوحيدها في مواجهة إسرائيل ومنع استفرادها بمنطقة دون سواها، وذلك تحسباً لصيغة الفصل التي كرستها إسرائيل في مواجهاتها الممتدة مع هذه المناطق تاريخياً، والتي تُثبّت فيها مبدأ عدم تدخل أيّة منطقة- خارج المواجهة-لمساندة منطقة أخرى، لتحقيق أهدافها الاستراتيجية في تجزئة المدن الفلسطينية وتشظيها.

فمع نشوب أحداث حي الشيخ جراح في البلدة القديمة من مدينة القدس في مايو 2021؛ على خلفية محاولة المستوطنين الاعتداء على العائلات الفلسطينية ومصادرة بيوتها، ومع تحول هذه الاعتداءات إلى مواجهات واسعة، طالب المشاركون في مسيرات شعبية حركة "حماس" بالتدخل واستجابت الحركة وأطلقت قذائف صاروخية باتجاه تل أبيت وحيفا في معركة سمتها "سيف القدس"، كاستجابة لمبدأ "وحدة الساحات" الفلسطينية. وفي العام التالي، استخدمت حركة "الجهاد الإسلامي" تعبير "وحدة الساحات" بعد الهجمات الإسرائيلية على غزة وضد قيادتها، والتي أدّت إلى مقتل تيسير الجعبري، قائد المنطقة الشمالية في "سرايا القدس"، وقد تحملت الحركة عبء المواجهة مع إسرائيل وحدها.

امتد هذا المفهوم إلى ساحات إقليمية تنتمي إلى ما يُسمى بـ "محور المقاومة" بعد عملية "طوفان الأقصى"، التي شنّتها "حماس" على المستوطنات الإسرائيلية في السابع من أكتوبر. وكان المقصود به توحيد موقف الجماعات العربية المدعومة من إيران في فلسطين ولبنان وسوريا والعراق واليمن وتحريكها بتوجيهاتٍ إيرانية لمواجهة إسرائيل، فضلاً عن نوايا توظيف الشعار في تعزيز نفوذ إيران العسكري والسياسي بالمنطقة. ويُؤخذ على التوسُع في مفهوم "وحدة الساحات" أنه لا يعني بالضرورة تحوّله إلى شعارٍ واقعي من السهل تحقيقه، خاصة مع تعقيدات مشهد ما بعد السابع من أكتوبر، الذي خضع فيه قرار المشاركة في الرد على إسرائيل لحساباتٍ دقيقة من كل جماعة من جماعات "وحدة الساحات" وفق ظروفها ومصالحها التي انتجت تدخلاً عسكرياً مدروساً لا يصل إلى مستوى الانخراط في حربٍ مفتوحة مع إسرائيل.   

اختبار شعار "وحدة الساحات":

وضعت عملية "طوفان الأقصى" شعار "وحدة الساحات" في اختبارٍ عملي يُقاس على أساسه مستوى التنسيق وفاعلية الترابط بين الدول والجماعات التي تتبناه. ويرى الكاتب والسياسي اللبناني، شارل جبور، أن "حرب (طوفان الأقصى) أظهرت أن (وحدة الساحات) كانت مجرّد شعار تهويلي للدلالة على القوة، ولا يختلف عن الشعارات التي دأب على ترديدها بدءاً من توازن الردع، وصولاً إلى أوهن من بيت العنكبوت، وبالتالي كان شعاراً دعائياً لا فعلياً، وهذا لا يعني عدم وجود (وحدة ساحات) تجمع مكونات (محور الممانعة) حول هدف واحد، ولكن هذا الهدف كان يقتصر على مزيدٍ من السيطرة على الساحات التي يتواجد فيها من خلال (تكبير الحجر) وتضخيم قدراته في مواجهة واشنطن وتل أبيب، أي كان يستخدمهما كذريعة لتحقيق مشروعه التوسعي في الدول العربية". (صحيفة نداء الوطن، 13 يونيو 2025)

كان أول اختبار لشعار "وحدة الساحات" في عملية "طوفان الأقصى"، فإلى جانب طابع السرية الشديدة الذي اكتسبته العملية، احتكر المستويان السياسي والعسكري لـ "حماس" في غزة التخطيط والتنفيذ دون مشاورات خارج حدود القطاع في داخل الحركة وخارجها، وفي ذلك يقول خالد مشعل، رئيس "حماس" بالخارج: "علمتُ بعملية (طوفان الأقصى) من وسائل الإعلام". (RT، 14 أكتوبر 2023). وبالطريقة ذاتها، غاب التنسيق بين أطراف "وحدة الساحات" وفق المواقف المتشابهة التي عبّرت عنها إيران و"حزب الله" تجاه العملية خصوصاً. ويؤكد علي خامنئي، المرشد الإيراني، على أن "ما حصل عمل قام به الفلسطينيون، وكل من يقول غير ذلك مخطئٌ ومستهتر بالشعب الفلسطيني". (صحيفة الشرق الأوسط،  27 ديسمبر 2023). وبالمعنى نفسه يُعلن الأمين العام لـ "حزب الله" حسن نصر الله، أن "قرار عملية (طوفان الأقصى) كان فلسطينياً 100 في المائة، وتنفيذها فلسطينياً 100 في المائة، وأخفاها أصحابها عن الجميع، وسريتها المُطلقة ضمنت نجاح العملية الباهر من خلال عامل المفاجأة المبهرة". (صحيفة الشرق الأوسط، 3 نوفمبر 2023)

وبالمنطق الذي تؤكده هذه المواقف وغيرها من غياب التنسيق بين أطراف "وحدة الساحات" قبل العملية وفي أثنائها، يُظهر التطبيق العملي ضعف المشاركة في الحرب الإسرائيلية على غزة أيضاً، الأمر الذي يدفع إلى التشكيك في أهداف وشعارات "وحدة الساحات" القائمة على ربط الساحات وتوحيدها.

ويقول الدكتور محمد السعيد إدريس، مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية: "إنَّ تفاعلات إيران مع حلفائها خلال هجوم (طوفان الأقصى) وحرب الإبادة الجماعية على غزة كشفت عن وجود هامش من التباين أو الاختلاف في الرؤى والتقدير، الأمر الذي حفّز البعض على تسريب رؤى وأقوال تروّج لوجود قدر لا بأس به من الخلاف بين إيران وحلفائها، ثمّ توسيع ذلك إلى التساؤل عن احتمال حدوث أزمة بين الطرفين قد تؤدي إلى درجة من درجات القطيعة بينهما". (مركز الأهرام، دورية "الملف المصري"، مايو 2024)

ففي غزة وبوصفها جبهة المواجهة الأولى، شاركت بعض الفصائل الفلسطينية إلى جانب "حماس" ضمن ما تُعرف بـ "غرفة العمليات المشتركة"، بينما ظلّت مشاركة الفصائل في الضفة الغربية محدودة ودون المستوى، واقتصرت على المواجهات المتقطعة والمتناثرة مع القوات الإسرائيلية والمستوطنين في أحسن الأحوال، فيما غابت مناطق 48 عن الفعل تماماً، ولم تشهد أيّة تحركات على المستويين الرسمي والشعبي سوى تبني مواقف التنديد بالحرب الإسرائيلية على غزة في مرحلةٍ تالية.

وكان "حزب الله" أول أطراف "وحدة الساحات" مساندة لحماس بعد السابع من أكتوبر. وقد تحولت مساندته ضمن "قواعد الاشتباك" إلى حرب إسرائيلية موسّعة على لبنان بعد عمليتي تفجير أجهزة الاتصال "بيجر" و"ووكي توكي" واغتيال الأمين العام للحزب حسن نصرالله.

ويعتقد العميد اللبناني خالد حمادة، مدير المنتدى الإقليمي للدراسات أن "جبهة (حزب الله) لم تكن لإسناد غزة، بل استراتيجية إيرانية لإبقاء طهران في المشهد الإقليمي بعد الموقف الذي اتخذته من التنصل من علاقتها بعملية (طوفان الأقصى)، وبالتالي حاولت أن تحافظ على هذه الاشتباكات لكي تُبقي نفسها كأحد اللاعبين المؤثرين في المشهد مما يجعلها شريكة في أيّ تفاوض مستقبلي". (سكاي نيوز عربية، 2 أغسطس 2024)

واستغلت إيران حرب غزة بتحريك الجبهات المرتبطة بالحوثيين و"حزب الله" لتحقيق أهدافها في الحفاظ على "قوة الردع" ضمن أيّ هجوم أمريكي- إسرائيلي مباشر، وزيادة كُلفة الهجمات العسكرية في غزة على الولايات المتحدة وإسرائيل، والحفاظ على تماسك "محور المقاومة". (هدى رؤوف، إيران تتجاوز الدور العربي وتضفي صبغتها على حرب غزة، العربية، 30 مارس 2024)

أما ثاني اختبار لشعار "وحدة الساحات" فكان في الحرب الإسرائيلية الأمريكية على إيران التي كانت فيها "جماعة أنصار الله" الحوثية في اليمن الأكثر حماسة في دعمها لإيران، فيما التزمت "الفصائل العراقية" الموالية لإيران بسياسة "النأي بالنفس". أما حياد "حزب الله" كان حياداً اضطرارياً بسبب الظروف والتحديات التي فُرضت على الحزب. (محمد السعيد إدريس، مركز الأهرام، دورية "الملف المصري"، يوليو 2025)  

من "وحدة الساحات" إلى فصل المسارات:

عملت إسرائيل في مواجهاتها العسكرية مع "حماس" و"حزب الله" وإيران و"الحوثيين" في اليمن، بمنطق الاستفراد والعزل المقصود بين هذه الجماعات، وذلك لإضعاف الجبهات الأربعة وتفكيك التنسيق والتعاون بينها، وبما يضمن ألّا تشكّل خطراً عليها راهناً ومستقبلاً. فقد بدأت إسرائيل بالمواجهة المفتوحة مع "حماس" للقضاء على قادتها السياسيين والتنفيذيين وعلى قُدراتها العسكرية، وبما يؤثر على طبيعة التنسيق مع "محور المقاومة" أو يمنع امكانية الانخراط فيه، وكي لا تُشكّل الحركة رُكناً في "وحدة الساحات" مستقبلاً، وذلك بمواجهتها عسكرياً وبالمفاوضات التي تستهدف إضعاف الحركة وعزلها ونزع ما تبقى في يدها من سلاحها.

وفي المواجهة العسكرية التالية مع "حزب الله"، تقيد الرد الإسرائيلي بموقف رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، في فصل الحزب عن "حماس". ففي سياق هذه الرؤية، مدّت إسرائيل مواجهتها المباشرة إلى "حزب الله" باستهداف قياداته السياسية والعسكرية ومُقدراته القتالية، وصولاً إلى الموافقة على اتفاق وقف إطلاق النار مع الدولة اللبنانية لإضعاف الحزب، وبالتالي تحقيق الأهداف التي حدّدها نتنياهو عند موافقته على الاتفاق، بقوله: "إنَّ ثلاثة أسباب كانت وراء سعيه لوقف النار، وهي: التركيز على إيران، وتجديد إمدادات الأسلحة مع منح الجيش قسطاً من الراحة، وعزل (حماس)". (الشرق، 26 نوفمبر 2024). ووفق هذه المعاني، حقّقت إسرائيل هدفها الاستراتيجي في تحييد "حزب الله"، حيث شهدت المرحلة التالية للهجوم الإسرائيلي والاتفاق مع الدولة اللبنانية غياباً كاملاً للحزب في دعم "حماس" أو الاصطفاف إلى جانب إيران التي واجهت هجوماً إسرائيلياً مكلفاً.

واندفعت إسرائيل في حربها ضد إيران نحو تثبت مبدأ القضاء على مشروعها النووي، و"تغيير الشرق الأوسط" الذي يخلو من إيران وحلفائها وفق تصورات نتنياهو، بما فيها إعلان إسرائيل عن "استمرار المواجهة مع الحوثيين، وتجهيز (بنك أهداف) لضرب مواقع استراتيجية داخل العمق اليمني". (سكاي نيوز عربية، 24 يوليو 2025).

خلاصات:

في الخلاصة الأخيرة، يمكن القول إن إسرائيل وجدت الفرصة سانحة بعد السابع من أكتوبر لضرب دول وجماعات "محور المقاومة"، وأنها نجحت في فصل "الساحات" بعضها عن بعض بفعل حربها السياسية والعسكرية ضدها، ودون أن تتمكن هذه المكونات من الرد الجماعي الموحد الذي أحال ائتلاف "وحدة الساحات" إلى وحدة الشعار ووحدة الخطاب لا أكثر، حتى لو لم تعترف هذه الأطراف بالانعكاسات الثقيلة للحرب الإسرائيلية على بنيتها وتكوينها ومستقبلها في مرحلة ما بعد "طوفان الأقصى".

533