مقالات تحليلية

السودان بين سلطتين.. دولة مقسمة على حافة الهاوية

08-Aug-2025

  تتحول الحرب في السودان، التي دخلت عامها الثالث، من صراع عسكري بين فصيلين إلى أزمة وجودية تُهدد بتقسيم البلاد. هذا التحول يأتي في ظل تدهور كارثي للوضع الإنساني في كافة أنحاء السودان، خاصة في المناطق التي جرت أو تجري فيها الاشتباكات العسكرية.

  ومع إعلان كل من الجيش وقوات الدعم السريع عن تشكيل سلطات موازية، دخلت البلاد في نفق مظلم من الانقسام السياسي، الذي يُهدد بتقويض أي محاولات للحل. ويُضاف إلى خيبة الأمل الناتجة عن تأجيل الاجتماعات الدبلوماسية الحاسمة، توسع رقعة القتال واشتداد المعارك في كردفان ودارفور، مما يفاقم الأوضاع الإنسانية ويزيد من تعقيد المشهد.


الانقسام وإعادة تعريف الشرعية:

  يمثل إعلان تحالف "تأسيس" بقيادة قوات الدعم السريع عن تشكيل "حكومة السلام والوحدة" في مدينة نيالا، خطوة استراتيجية تهدف إلى ترسيخ الشرعية السياسية للتحالف في المناطق التي يسيطر عليها. هذه الحكومة، التي يرأس مجلسها الرئاسي محمد حمدان دقلو "حميدتي"، ويرأس مجلس وزرائها محمد الحسن التعايشي وتضم شخصيات سياسية وعسكرية أخرى مثل عبد العزيز الحلو والهادي إدريس.

هذه السلطة الموازية تُشكل تحديًا مباشرًا للجيش السوداني ، الذي يسعى لفرض سلطته عبر تعيينه رئيس وزراء وحكومة في بورتسودان برئاسة كامل إدريس، في خطوة يرى فيها الجيش استعادة للمؤسسات المدنية، ولكنها اعتبرت ظاهرية وغير شرعية لدى القوى المدنية.

 يُظهر هذا التطور أن الصراع لم يعد فقط حول من يسيطر على الأراضي، بل حول من يملك الحق في حكم البلاد. فمن جانب، يحاول تحالف "تأسيس" فرض نفسه كحكومة أمر واقع في غرب البلاد، وقد رفضها مجلس الأمن والسلم الإفريقي وأدانتها جامعة الدول العربية ، كما أعربت الأمم المتحدة عن رفضها لأي خطوات من شأنها أن تؤدي إلى تقسيم السودان أو تقويض وحدته وسيادته.

مع ذلك أظهرت المسيرات الشعبية المؤيدة لحكومة "تأسيس" في نيالا أن بعض السكان يرون في هذه الخطوة "خيارًا واقعيًا" في ظل انهيار الخدمات الحكومية، كما يعتبر التحالف بين الدعم السريع بزعامة دقلو والحركة الشعبية – شمال التي يقودها الحلو من أكثر التحالفات قوة ورسوخاً فهو يتكئ على قوية عسكرية ضاربة وحواضن مؤيدة لها امتدادات في كل السودان.

في المقابل تُعكس هذه التطورات حالة الانقسام المجتمعي المتصاعدة، التي تُغذيها عوامل مثل خطاب الكراهية، والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وحرمان بعض الإثنيات من حقوقها الأساسية في مناطق سيطرة الجيش. هذه العوامل تُفقد السكان ثقتهم في أي سلطة مركزية، وتدفعهم نحو دعم أي جهة تعدهم بتوفير الأمن والخدمات.

 

كارثة بلا حدود

 بينما تتعمق الأزمة السياسية، يزداد الوضع الإنساني سوءًا. تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن أكثر من 25 مليون سوداني يواجهون انعدام الأمن الغذائي الشديد، وتؤكد التقارير أن المجاعة أصبحت حقيقة واقعية في العديد من المناطق، خاصة في إقليمي دارفور وكردفان.

 

 الخرطوم.. مدينة الأشباح:

  العاصمة التي كانت يومًا رمزًا للسودان، تحولت إلى مدينة مهجورة، لا تصلح للسكن. ورغم تعهدات رئيس الوزراء الجديد بإعادة الإعمار، إلا أن المهمة تبدو شبه مستحيلة، حيث تبلغ التكلفة التقديرية لإعادة إعمار البلاد بأكملها نحو 700 مليار دولار.

لقد تعرّض أكثر من 60 في المئة من المناطق السكنية ومنشآت البنية التحتية والمباني الرئيسية في الخرطوم لدمار كلي أو جزئي. ورسم تقرير لوكالة رويترز صورة مأساوية لحجم الدمار الذي لحق بالعاصمة التي كان يقطنها نحو 8 ملايين نسمة قبل الحرب، لم يتبقَّ منهم سوى أقل من 25 في المئة حاليًا.

وقال التقرير: "تشهد الجسور المدمرة، وانقطاعات الكهرباء، ومحطات المياه الفارغة، والمستشفيات المنهوبة على الأثر المدمّر لعامين من الحرب على البنية التحتية".

وفي ظل هذه الأوضاع، يضطر سكان العاصمة إلى تحمّل انقطاع التيار الكهربائي لأسابيع، وشرب مياه غير نظيفة. وقد دُمّرت معظم الفنادق، ومقار الوزارات، والبنوك، والمستشفيات، والمطار الدولي.

وتفحّمت معظم المباني الرئيسية في وسط الخرطوم، وتحولت الأحياء التي كانت راقية إلى مدن أشباح، في حين تنتشر السيارات المحطّمة والقذائف غير المنفجرة في شوارعها.

وبحسب مهندس متخصص في التخطيط الحضري، فإن نحو 90 بالمئة من شبكات ومنشآت الكهرباء الأساسية تعرّضت لنوع من التدمير، كما طال الدمار أيضًا شبكات الإمداد المائي والكهربائي، خاصة في العاصمة الخرطوم ومناطق واسعة من البلاد. (سكاي نيوز عربية)

 

 الفاشر وكادوقلي حصار ومجاعة:

  تعاني مدن مثل الفاشر وكادوقلي والدلنج بكردفان ودارفور ، من حصار مُحكم من قبل قوات الدعم السريع وحلفائها. هذا الحصار قطع خطوط الإمداد، مما أدى إلى ندرة حادة في الغذاء والدواء. في الفاشر، ارتفعت أسعار المواد الغذائية الأساسية بأكثر من أربعة أضعاف، بينما في كادقلي والدلنج، أدى الحصار إلى انتشار أمراض سوء التغذية، خاصة بين الأطفال وكبار السن، وتكرار سيناريو الوفيات نتيجة نقص الأدوية.


فشل الدبلوماسية الدولية وشواهد التقسيم:

 يشهد السودان مرحلة حرجة من تاريخه، حيث تتزايد شواهد التقسيم على الأرض، ويتزامن ذلك مع فشل ذريع للمجتمع الدولي في التعامل مع الأزمة:

  إلغاء اجتماع الرباعية:

 لم يكن إلغاء اجتماع واشنطن الرباعي مجرد مسألة إجرائية، بل كان بمثابة شهادة وفاة للدبلوماسية. هذا الفشل يعود إلى تناقض جوهري في مصالح القوى الأعضاء في الرباعية، حيث تميل بعض القوى إلى دعم الجيش، بينما تنحاز أخرى لقوات الدعم السريع، مما يجعل من التنسيق السياسي أمرًا مستحيلاً.

تداعيات كارثية للإلغاء:

كانت الرسالة التي التقطها أطراف الحرب هي أنه لا يوجد رادع دولي، مما أدى إلى تصعيد مباشر في مناطق مثل الفاشر، حيث قُتل مئات المدنيين. كما أدى انعدام الأمن إلى تعليق برامج المساعدات الإنسانية، مما يترك آلاف الأسر في مهب الجوع. 

الانشقاقات الداخلية:

 حديث مني أركو مناوي حاكم إقليم دارفور عن إعادة تقسيم السلطة يُظهر وجود انقسامات داخل تحالفات القوى في دارفور. هذه الانقسامات قد تتطور إلى صراعات على النفوذ تؤدي إلى إعادة هيكلة السلطة بما يناسب الأطراف المتصارعة.

 مثلث الحدود وتمدد النفوذ:

 توسعت قوات الدعم السريع جغرافيًا خلال الأشهر الماضية، لتسيطر على معظم مناطق دارفور، إضافة إلى مناطق استراتيجية مثل "مثلث الحدود" مع ليبيا ومصر. هذا التوسع، وتحالفها مع الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال، يُشير إلى تفتت جغرافي وسياسي واضح.

تحليل للمشهد المتناقض:

 إعلان تحالف "تأسيس" عن تشكيل حكومة موازية في نيالا يأتي في توقيت متأخر، بحسب محللين، حيث تراجعت قوات الدعم السريع في مناطق استراتيجية كبرى مثل الخرطوم والجزيرة. يرى الدكتور ربيع عبد العاطي، المسؤول السابق في الحكومة السودانية، أن هذا الإعلان بمثابة "من يحرث في البحر"، ويشير إلى أن القوات قد تُضطر للجوء إلى مناطق أبعد مثل "كاودا". من جانبه، يؤكد الدكتور محمد مصطفى، رئيس المركز العربي الأفريقي لثقافة السلام، أن الحكومة الجديدة قد لا تكون ذات تأثير كبير على الأرض، بل قد تنعكس آثارها سلبًا على أداء القوات في الميدان بسبب تهميش بعض المكونات القبلية والقيادات الميدانية، (سبوتنيك، 3 أغسطس 2025 )

وعلى الرغم من الرفض الإقليمي والدولي الواسع لهذا التشكيل، يرى بعض المحللين أن وجود كيان سياسي منظم للدعم السريع قد يشجع على تحريك مفاوضات السلام، حيث إن الطرف الآخر يتمتع الآن "بخبرات وقيادة سياسية واضحة"، على عكس الوضع السابق الذي كان فيه الطرف الآخر يفتقر للقدرات السياسية.

 ويرى مراقبون أن الإضافة الحقيقية للدعم السريع هو دخول الحركة الشعبية – شمال في حلفه لما تتمتع به من تجربة نضالية راسخة ووجود مؤثر وسط الجماهير خاصة في جبال النوبة وجنوب الفونج ، انضمام الحركة الشعبية لتحالف تأسيس من شأنه أن يعزز من قوة التحالف فهي تتكئ على قوات تحتاج فقط الدعم اللوجستي لتسيطر على مناطق استراتيجية ما يخفف الضغط على الدعم السريع الذي يواجه هجوماً غير مسبوق من الجيش في كردفان ودارفور.

 

سيناريوهات وتوقعات

 مع تفاقم الأزمة السياسية والإنسانية، تتعدد السيناريوهات المحتملة لمستقبل السودان:

سيناريو الانقسام الفعلي:

مع وجود حكومتين متنافستين، قد يتجه كل طرف لترسيخ سلطته في مناطقه، مما يُكرس انقسام البلاد إلى دويلات متناحرة. هذا الانقسام قد يُطيل أمد الحرب ويُعقد أي جهود مستقبلية للسلام، وقد يؤدي إلى تكرار تجربة انفصال جنوب السودان، ولكن على نطاق أوسع.

كل الشواهد ما زالت تشير على إصرار طرفي النزاع على مواصلة الحرب وحسمها، فالبرهان يظن أنه قادر على تحقيق ذلك وإن طال السفر، فيما يستعيد الدعم السريع أنفاسه لمواصلة الكرة والعودة مجدداً لوسط السودان والقضاء على الجيش بحسب آخر خطاب لقائده محمد حمدان دقلو.

 الحرب الإقليمية:

قد يؤدي التدخل المباشر لقوى إقليمية لحماية مصالحها السياسية والاقتصادية إلى تحويل الصراع إلى حرب إقليمية أوسع نطاقًايظهر ذلك جلياً من خلال التباينات التي حدثت في التحضير لاجتماع الرباعية فالخلاف بشأن الملف السوداني متصاعد بين الدول المعنية بالاجتماع نفسها وكل منها يريد أن يفرض خارطة طريق للحل وفقاً لمصالحه الخاصة ومن المؤكد أنه حال الفشل ستكون المحصلة النهائية هي المواجهة على الأرض.

 ثورة مدنية جديدة:

قد تندلع انتفاضة شعبية تطيح بكل أطراف الحرب وتدفع نحو تدخل دولي لحماية المدنيين، وهو سيناريو غير مرجح في ظل الظروف الحالية.

 

خلاصة:

  دخلت الحرب في السودان مرحلة جديدة وخطيرة، حيث تتنافس سلطتان على حكم البلاد، مما يُهدد بتقسيمها بشكل لا رجعة فيه. هذا التطور السياسي يتزامن مع كارثة إنسانية متفاقمة، حيث أصبحت المجاعة حقيقة واقعية في العديد من المناطق.

إن خيبة الأمل من تأجيل الجهود الدبلوماسية تُشير إلى أن السودان يسير نحو مستقبل غامض. قد يكون الحل الوحيد المتاح هو ضغط دولي وإقليمي موحد وفعال لوقف القتال، وتأمين المساعدات الإنسانية، وفتح ممرات آمنة للمتضررين، قبل أن تضيع كل فرصة للسلام.

 

57