
منذ توقف العمليات العسكرية في قطاع غزة، تصاعدت النقاشات الإقليمية والدولية حول شكل الإدارة القادمة، في ظل تداخل المصالح وتشابك الأجندات بين الفاعلين. وتحول هذا الملف إلى أحد أكثر الملفات حساسية في المشهد السياسي الفلسطيني، لما يحمله من دلالات تتجاوز البعد الإداري إلى الأسئلة الجوهرية المتعلقة بالشرعية والسيادة وإعادة النظام. وفي الوقت الذي تطرح فيه المقترحات لإنشاء إدارة انتقالية أو حكومة مدنية بدعم دولي، تتباين المواقف حول جدوى هذه الترتيبات ومخاطرها، بين من يرى فيها خطوة ضرورية لإنهاء معاناة السكان وتهيئة بيئة الاستقرار، ومن يحذر من أن تكون مقدمة لإعادة إنتاج الوصاية الخارجية أو إضعاف المقاومة.
الخطة المقترحة لإدارة غزة
تدور خطة إدارة قطاع غزة حول إنشاء إدارة مدنية انتقالية
تتولى تسيير شؤونه والإشراف على إعادة الإعمار وضمان عودة الخدمات الأساسية.
وتستند الفكرة إلى تشكيل حكومة مؤقتة أو هيئة تكنوقراطية فلسطينية مدعومة عربيا
ودوليا، تعمل ضمن إطار وطني يهدف إلى إنهاء الانقسام تدريجيا. وتُطرح السلطة
الفلسطينية كطرف شرعي محتمل لتولي هذه المهمة، بشرط إجراء إصلاحات هيكلية وتفاهمات
ميدانية لضمان الاستقرار والقبول.
يتضمن هذا التصور كذلك بُعدا أمنيا يقوم على إنشاء قوة إقليمية لحماية المعابر والمرافق خلال المرحلة الانتقالية، بمشاركة عناصر من الشرطة الفلسطينية ودول عربية كمصر والأردن، وبدعم لوجستي دولي. ووفق ما نشرت رويترز (18 أكتوبر) بدأت فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة في وضع اللمسات الأخيرة على قرار لمجلس الأمن الدولي، من شأنه أن يُرسي أسس قوة دولية مستقبلية في غزة.
وقد توقعت الغارديان (18 أكتوبر) أن تتولى مصر قيادة هذا الجهد. وقال المتحدث
باسم وزارة الخارجية الفرنسية باسكال كونفافرو للصحفيين في باريس، إن مثل هذه
القوة تتطلب تفويضا من الأمم المتحدة لتوفير أساس متين في القانون الدولي وتسهيل
عملية تأمين المساهمات المحتملة من الدول. وذلك بالرغم من إصرار إسرائيل على الإشراف الأمني المباشر، في
مقابل رغبة الأطراف العربية إلى ترتيبات تحفظ السيادة الفلسطينية ولو بشكل رمزي،
تفاديا لأي وصاية دولية قد تضعف شرعية الإدارة الجديدة.
صندوق دولي لإعادة الإعمار
من الناحية الاقتصادية، ترتكز خطة إدارة القطاع على إنشاء صندوق دولي لإعادة الإعمار تقدر كلفته بنحو سبعين مليار دولار، حسب ما نشره موقع الأمم المتحدة (14 أكتوبر)، تديره لجنة مشتركة من المنظمة والبنك الدولي والدول المانحة، مع آليات رقابة مالية صارمة لضمان الشفافية. يذكر الباحث ناثان براون في تقريره لمعهد كارنيغي (24 سبتمبر)، أن هذه الجهود ترتبط بمسار سياسي أوسع يربط بين الإعمار والوحدة الوطنية، عبر خارطة طريق تشمل ثلاث مراحل: إنسانية عاجلة، فانتقالية لإعادة بناء المؤسسات، ثم سياسية تفضي إلى وحدة فلسطينية. وبهذا، تتجاوز الخطة بعدها الإداري لتشكل مشروعا لإعادة هندسة الواقع الفلسطيني بما يخدم الاستقرار الإقليمي والدولي في آن واحد.
نقاط الجدل الرئيسية
يتركز الجدل حول جوهر سؤال من يملك الشرعية لإدارة قطاع
غزة في المرحلة المقبلة؟ إذ ترى السلطة الفلسطينية نفسها الممثل الشرعي الوحيد،
معتبرة أن عودتها تمثل خطوة نحو استعادة الوحدة وإنهاء الانقسام، بينما يشكك
كثيرون في ذلك دون إصلاحات جوهرية في بنيتها السياسية والأمنية. كما تنقسم المواقف
الإقليمية والدولية بين من يدعم عودة السلطة كمدخل لإحياء المسار السياسي، ومن
يخشى من تفجر صدام جديد مع حماس في مرحلة ما بعد الحرب، ما يعكس هشاشة البنية
السياسية الفلسطينية واتساع الفجوة بين الواقع الميداني والطموح الدبلوماسي.
في تصريح لرويترز (9 أكتوبر) أشار رئيس الوزراء
الفلسطيني محمد مصطفى إلى المكانة الدولية للسلطة الفلسطينية كهيئة تمثيلية
للفلسطينيين، وقال "إن العديد من الدول تعتقد أنها يجب أن تتولى المسؤولية، إنها
الطريقة العملية الوحيدة للقيام بالأمر".
القضية الثانية المثيرة للجدل هي مسألة السلاح ودور
الفصائل المسلحة، فهناك شبه إجماع على ضرورة نزع سلاح حماس أو إخضاعه لرقابة
صارمة، في حين تعتبر الحركة أن سلاحها جزء من هوية المقاومة وضمانة للردع الوطني.
وتسعى أطراف عربية إلى حل توافقي تدريجي يقوم على دمج الفصائل في إطار أمني وطني
موحد، لكن انعدام الثقة بين القوى الفلسطينية وتشدد الموقف الإسرائيلي يجعلان هذا
الخيار محفوفا بالمخاطر.
ويبدو أن هناك أزمة ثقة بين جميع الأطراف، إذ تخشى الوكالة
الأميركية للتنمية الدولية في تقريرها عن إعمار غزة من سوء استخدام أموال الإعمار.
في الوقت ذاته يرى الفلسطينيون أن الرقابة الدولية قد تتحول إلى وصاية على القرار
الوطني. كما أن مسألة وجود قوة عربية أو دولية في القطاع سوف تثير حساسيات سياسية
بطبيعة الحال، فبينما تراها بعض الدول ضرورة لضمان الأمن، تخشى فصائل فلسطينية من
أن تكون مدخلا لانتقاص السيادة. وهكذا يبقى النقاش حول إدارة غزة معلقا بين
متطلبات الشرعية الوطنية، وضغوط الأمن الإقليمي، ومخاوف المجتمع الدولي من عودة
الفوضى.
نقاط إجماع نسبي
على الرغم من اختلاف المواقف بين القوى المحلية
والإقليمية والدولية، فإن هناك قدرا من الإجماع النسبي حول المبادئ الأساسية
لإدارة قطاع غزة. إذ يتفق الجميع على أن الوضع الإنساني في القطاع بلغ مستوى
كارثيا يستدعي تحركا عاجلا بعيدا عن التجاذبات السياسية، مع ضرورة إدخال المساعدات
واستعادة الخدمات الأساسية وفتح المعابر أمام حركة المدنيين والبضائع. وقد أجمعت
الأطراف كافة على إنشاء آلية إنسانية مستقلة تضمن استمرار تدفق الإمدادات دون
عراقيل، لتكون قاعدة لأي ترتيبات لاحقة.
يذكر الباحث ناثان براون في تقرير معهد كارنيغي، أن معظم
الفاعلين اتفقوا على أن أي تسوية مستدامة يجب أن تتجاوز المعالجة الأمنية إلى حل
سياسي شامل يعيد بناء النظام الفلسطيني على أسس تمثيلية موحدة. فإعادة الإعمار لا
يمكن أن تتم في ظل الانقسام. ويحظى هذا الاتجاه بدعم عربي ودولي واسع، يرى أن وجود
سلطة شرعية موحدة يمثل الضمان الأساسي لاستمرار الدعم الدولي.
في تقرير أعده موقع WIRED (14 أكتوبر) لقياس مدى قابلية الشركات الدولية الكبرى
للاشتراك في مشاريع إعمار غزة، أجمع الفاعلون على أهمية الشفافية والمساءلة في
إدارة أموال الإعمار، تجنبا لتكرار أخطاء الماضي التي أضعفت ثقة المانحين. ولهذا تم
اقتراح إنشاء صندوق دولي تحت إشراف الأمم المتحدة والبنك الدولي والسلطة
الفلسطينية. ويتكامل هذا التقرير مع قناعة عامة بأن نجاح إدارة غزة لن يتحقق من
دون دعم إقليمي ودولي منسق، تشارك فيه الدول العربية الكبرى إلى جانب الولايات
المتحدة والاتحاد الأوروبي، لضمان التوازن بين الأبعاد السياسية والإنسانية
والأمنية للملف.
هناك بعض التحفظات
رغم وجود اتجاه دولي وإقليمي متزايد نحو صياغة إدارة
جديدة لقطاع غزة، فإن مساحة المعارضة والتحفظ لا تزال كبيرة ومتنوعة. فحركة حماس،
التي تُعد القوة المهيمنة في القطاع منذ عام 2007، تعتبر أي خطة لإدارة غزة خارج
إطارها المباشر محاولة لإقصائها وإلغاء مشروعها السياسي. وترى أن الحديث عن حكومة
تكنوقراط أو إدارة مدنية بإشراف دولي يعني عمليا إنهاء دورها السياسي وتجريدها من
رمزيتها المقاومة، خاصة إذا ارتبط الأمر بمطلب نزع السلاح قبل التوصل إلى تسوية
سياسية شاملة. لذلك تصر الحركة على أن أي ترتيبات مستقبلية يجب أن تضمن لها دورا
في القرار الوطني، وأن تقر بحقها في الدفاع عن النفس، ما يجعل أي مشروع بديل
محفوفا بتحديات التنفيذ.
يرى أندرو ميلر الباحث في تقرير لمركز التقدم الأميركي CAP (10 أكتوبر)
أن هناك قطاعات من الرأي العام الفلسطيني، تبدي تحفظات على عودة السلطة الفلسطينية
إلى غزة بالشكل الذي تطرحه بعض الدول. فبرأيهم، فقدت السلطة جزءا من مشروعيتها
بسبب غياب الانتخابات وتفشي الفساد، وأن تمكينها مجددا دون إصلاح سياسي لن يغير من
واقع الانقسام، بل قد يعمقه. لذلك يدعو هؤلاء إلى مرحلة انتقالية توافقية تشارك
فيها جميع القوى الفلسطينية ضمن إطار وطني موحد، مع مراقبة دولية دون تدخل سياسي
مباشر، حفاظا على السيادة الوطنية.
وعلى المستوى الإقليمي والدولي، تتعدد التحفظات. وفقا
لعدة تقارير إعلامية، تخشى بعض الدول العربية أن يؤدي إدخال قوات عربية أو دولية
إلى غزة إلى حساسية شعبية تفسر كوصاية أو احتلال مقنع، فيما تتحفظ دول أخرى على
ترتيبات إقليمية تقصيها عن التأثير في الملف الفلسطيني. أما في الغرب، فهناك مخاوف
من أن تتحول الإدارة المقترحة إلى غطاء لاستمرار السيطرة الإسرائيلية على القطاع
من خلال آليات التمويل والرقابة الأمنية، بما يكرس واقع "الحكم الذاتي
المحدود" دون سيادة حقيقية. ومن ثم يرى معارضون أن الخطة، في صورتها الحالية،
قد تجمد الصراع بدلا من حله.
خلاصات
تواجه خطة إدارة قطاع غزة مجموعة من المخاطر البنيوية
التي قد تقوض فرص نجاحها منذ البداية. يأتي في مقدمتها هشاشة الوضع الأمني بعد
الحرب، في ظل غياب سلطة قادرة على ضبط السلاح وإعادة بناء الأجهزة الأمنية. هذا
الواقع يخلق فراغا أمنيا قابلا للاشتعال، خاصة مع استمرار انعدام الثقة بين
الفصائل الفلسطينية. فأي احتكاك ميداني قد يتحول إلى صدام واسع يعيد القطاع إلى
نقطة الفوضى، ما يجعل مرحلة الاستقرار الأمني اختبارا مصيريا للخطة بأكملها، إذ إن
فشلها يعني سقوط المشروع قبل أن يبدأ فعليا.
ومن الواضح أن مخاطر الشرعية السياسية هي العامل الأكثر حسما،
إذ إن فرض إدارة انتقالية دون توافق وطني واسع سيفضي إلى رفض شعبي وانقسام سياسي
متجدد. فغياب التفويض الشعبي، أو انحياز الأطراف الدولية لطرف فلسطيني بعينه،
سيفقد الإدارة المقترحة حيادها ويضعف مشروعيتها. تخشى فصائل عديدة من أن تتحول
الخطة إلى أداة لتدويل القرار الفلسطيني وتهميش القوى الوطنية. كما يتضح من آراء
الناس في وسائل الإعلام المختلفة أن الشارع الفلسطيني يدرك أن أي مشروع لا ينبع من
إرادته الذاتية سيظل هشا وقابلا للانهيار أمام أول أزمة.
وبطبيعة الحال، يمكن اعتبار أن الخطر الاقتصادي
والإقليمي هو الأكثر تعقيدا، إذ تعتمد الخطة على تمويل دولي ضخم قد لا يتحقق
بالكامل، كما أظهرت تجارب الإعمار السابقة. فإذا تباطأت المساعدات أو تعثرت بسبب
البيروقراطية والخلافات السياسية، فقد تتفجر موجة إحباط وغضب داخل القطاع تفقد أي إدارة
الجديدة ثقة الناس. في المقابل، يمثل المحيط الإقليمي عاملا متقلبا، فأي تصعيد في
الضفة الغربية أو لبنان أو استمرار القيود الإسرائيلية على المعابر والمجال البحري
والجوي، سيفشل الخطة أو يجعلها واجهة بلا سلطة فعلية. وهكذا تبدو إدارة غزة رهينة
توازن دقيق بين الأمن والسياسة والاقتصاد، وبين الداخل والخارج، في معادلة صعبة قد
تحدد مصير الاستقرار في القطاع لسنوات قادمة.