مقالات تحليلية

صواريخ توماهوك في ميزان الحرب الروسية الأوكرانية

27-Oct-2025

تعد صواريخ توماهوك أحد أبرز رموز القوة العسكرية الأميركية منذ أواخر القرن العشرين، لما تتسم به من دقة الإصابة ومدى المناورة الطويل وقدرتها على التحليق المنخفض لتجاوز الدفاعات الجوية التقليدية، حتى باتت تمثل نموذجا متقدما لفلسفة الحرب عن بعد، إذ تمكنت واشنطن بواسطتها من توجيه ضربات دقيقة من البحر أو الجو دون الحاجة لوجود مباشر على الأرض، ما جعلها أداة مثالية في الحروب الحديثة ذات البعد التقني العالي والرهان السياسي المعقد.

وقد عزز تاريخ استخدامها الممتد منذ حرب الخليج الأولى، صورتها كسلاح يؤثر رمزيا وسياسيا أكثر من كونه سلاحا تكتيكيا، إذ ارتبط ذكره دوما بلحظات الحسم أو الردع الاستعراضي في الاستراتيجية الأميركية. ومن ثم، فإن دراسة طبيعته وتطوره التقني، فضلا عن تجارب استخدامه السابقة، والأبعاد السياسية والدبلوماسية المحيطة به، تصبح مدخلا أساسيا لفهم موقعه المحتمل في الحرب الاوكرانية الجارية، وتحليل ما إذا كان يمكن أن يمثل نقطة تحول فعلية في مسار الصراع، أم مجرد ورقة ضغط رمزية في لعبة التوازنات الكبرى.


عودة الحديث عن توماهوك

في ظل تحول الحرب الروسية-الأوكرانية إلى حرب استنزاف طويلة الأمد، عاد الحديث مجددا عن توماهوك كأحد خيارات الغرب لدعم كييف وإحداث نقلة نوعية في ميزان القوى. وبينما يرى بعض المحللين في تصريحات لدويتشه فيلا (18 أكتوبر) أن إدخال هذا السلاح إلى ساحة الصراع قد يغير من معادلة العمق الاستراتيجي، عبر تمكين أوكرانيا من ضرب أهداف داخل الأراضي الروسية، يحذر آخرون من أن مثل هذا التحول قد يرفع مستوى التصعيد إلى حدود خطرة.

يحاول الرئيس زيلينسكي الحصول على توماهوك بإصرار، لأنه يعتقد أن استخدامها في ضرب منشآت النفط والطاقة الروسية، سيضعف بشدة اقتصاد بوتين الحربي، لكنه يخرج دائما من اجتماعاته بالبيت الأبيض خالي الوفاض. وقد أشار ترامب مؤخرا، وفق ما نشرته بي بي سي (18 أكتوبر) إلى عدم استعداده لتزويد أوكرانيا بتوماهوك لأن الولايات المتحدة لا تريد تصعيدا. وفي الوقت ذاته دعا عبر وسائل التواصل الاجتماعي كييف وموسكو إلى التوقف وإنهاء الحرب. فهل سيتراجع عن موقفه الجديد ويمنح أوكرانيا توماهوك إذا أصرت روسيا على عدم الانصياع لمساعي السلام الممزوجة بالتهديدات؟


الطبيعة التقنية لصاروخ توماهوك

يبرز صاروخ توماهوك BGM-109 Tomahawk كسلاح كروز بحري يقوم بضربات أرضية دقيقة على مدى بعيد. ووفق ما ورد في موقع البحرية الأميركية، هو نتاج تطور تقني بدأ في سبعينيات القرن الماضي ودخل الخدمة العملياتية في الثمانينيات. وتم تحسين أنظمة الملاحة GPS وINS في إصداراته المتعاقبة، خاصة Block IV وBlock V وأدخلت عليه قدرات TERCOM وDSMAC للتمييز بين التضاريس، كما أضيفت واجهات اتصالية تتيح بعض التحكم الديناميكي أثناء الطيران، ما يجعله أداة لا تكتفي بالمدى، وإنما تعتمد على تكامل معلوماتي لضمان دقة تأثير فعالة.

وبطبيعة الحال، تحتاجه أوكرانيا لأن خصائص طيرانه والتحليق القريب من سطح الأرض تقلل من احتمالات كشفه عبر أنظمة الرادار الروسية بعيدة المدى، بينما تمكن قدراته من توجيهه بمسار محدد مسبقا وتزويده بمشاهد رقمية لأهدافه. غير أن هذه المزايا التقنية التي تطمع فيها كييف لا تعني استحالة اعتراضها، لأن فاعلية توماهوك تعتمد عمليا على كثافة الإطلاق، وجودة التغطية الاستخباراتية، والضعف التكتيكي لأنظمة الدفاع المضادة.

من زاوية التطور العملي، يذكر موقع قيادة أنظمة الطيران البحرية الأميركي، أن تحديثات Block V أدت إلى تحويل توماهوك من مجرد قذيفة ذكية إلى عنصر ضمن حلقة معلوماتية عسكرية أوسع، إذ أضيفت إمكانيات أفضل للتوجيه الشبكي، كما استطاع في مناورات بحرية التعامل مع أهداف متحركة، ما عزز بعده الاستراتيجي. لكن استخدامه ضد روسيا قد يرفع من متطلبات الإسناد الاستخباراتي والاتصالي لاستخدامه بفاعلية ضد دفاعاتها المعقدة.

لقد أثبت استخدام توماهوك في (حرب الخليج 1991، وليبيا 2011، وسوريا 2014–2017) قدرته على ضرب أهداف استراتيجية بدقة في بيئات دفاعية مختلفة، لكن الفعالية كانت دائما مشروطة بضربات صاروخية مكثفة متزامنة لتجاوز أنظمة الدفاع، وهو ما قد لا يتوفر في روسيا.



البعد السياسي: توماهوك كأداة ضغط

تُستخدم أنظمة صواريخ العمق مثل توماهوك عندما تسعى قوة ما إلى استهداف العمق الاستراتيجي للعدو دون نشر قوات برية إضافية. وأغلب الظن أن واشنطن تحاول في الحالة الراهنة التلويح بحزمة ردع قابلة للتوظيف السياسي، لأن الإعلان عن توريد توماهوك لأوكرانيا أو عن إمكانية الاستخدام قد يكفي لزعزعة ثقة روسيا في عمقها الاستراتيجي، ما يجعل القرار بتوريدها أداة ثنائية البعد، عسكرية وسياسية.

يرى دان صباغ محرر شؤون الدفاع والأمن في الجارديان (17 اكتوبر)، أنه على الصعيد الدبلوماسي، يترتب على فكرة تزويد أسلحة بعيدة المدى كتوماهوك لكييف حساب معقد يتضمن مخاوف من تجاوز الخطوط الحمراء التي تؤدي إلى تصعيد ثنائي أو متعدد الأطراف، لذا تجرى مداولات داخلية كثيفة في أروقة البيت الأبيض حول التبعات السياسية واللوجستية، ومدى التأثير على العلاقات مع روسيا، ما يجعل قرار التوريد في الغالب يخضع لتوازن دبلوماسي وحسابات أمنية إقليمية وعالمية، لا مجرد قرار تقني بارد.

يشير دان أيضا إلى أن استغلال مسألة احتمالات توريد واشنطن توماهوك إلى كييف إعلاميا يعد استراتيجية بحد ذاتها، فالحضور الإعلامي لخبر التوريد قد يتيح لترامب وزيلنسكي فرض منطقهم في المفاوضات الدولية، وقد يستخدم للوصول إلى أهداف سياسية أوسع، كإضعاف معنويات روسيا، وجذب انتباه الحلفاء، إلخ. لذلك فإن البعد السياسي للتوماهوك لا يقل أهمية عن البعد العسكري عندما تقيم الدول أثره على مسارات السياسات والاستراتيجيات.


البعد الرمزي والتكتيكي

يمتلك صاروخ توماهوك بعدا رمزيا له وزن استراتيجي، فالإعلان عن امتلاك أوكرانيا إمكانية ضرب العمق الروسي من الممكن أن يعيد تشكيل تصور الأمن الجغرافي، وخلق مناخ استراتيجي ضاغط. وتكتيكيا، فإن القدرة الفعلية لتوماهوك على تغيير مسرح العمليات في الحرب الأوكرانية تعتمد على توافر مخزون كاف لدى كييف، واختيار توقيت الإطلاق، والاعتماد على معلومات استخباراتية دقيقة. فالاستخدام المحدود أو العرضي قد يحقق أثرا تكتيكيا موضعيا، لكنه لا يكفي لفرض خارطة عمليات جديدة، أو لتقويض قدرة خصم قوي كروسيا، ما لم يواكب بحملة مركزة من الضربات والإسناد الاستخباراتي المستمر.

يؤكد ذلك ما ذكره مارك كانسيان، مستشار أول في وزارة الدفاع الأميركية، في تقريره لمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية بواشنطن (17 أكتوبر)، بأن بضع عشرات من صواريخ توماهوك لأوكرانيا لن تحدث فرقا، لكن المئات منها قد تحدث ضجيجا. وقال "يجب أن تكون الهجمات ضخمة ومتواصلة ومركزة. بالنسبة لأوكرانيا، هذا يعني التركيز على صناعة الطاقة وعدم الانشغال بمجموعات أهداف أخرى، وضربها بقوة في البداية مع مواصلة الهجمات لعرقلة إعادة بناء روسيا". لكن بالرغم من واقعية هذا الرأي لكن حتى في هذه الحالة، تبقى الآثار غير مؤكدة لأنها غير مباشرة، كالانخفاض في الإنتاج، ما يؤدي إلى ضغط على السكان والموردين، ويدفع الحكومة إلى مفاوضات جادة تؤدي إلى وقف إطلاق نار يمكن لأوكرانيا قبوله. أو قد تسوء الأمور كثيرا.

ومع ذلك، ربما تكون هذه أفضل فرصة لأوكرانيا لتحقيق نتيجة مقبولة، لأنها تفتقر إلى ما يكفي من الأفراد والمعدات لشن هجوم بري كبير. ومن الممكن أن تلحق خسائر بشرية كافية بروسيا من خلال الاستنزاف الدفاعي لإحداث تغيير في موقف روسيا، بالرغم من أن خسائرها البالغة مليون قتيل حتى الآن لم تحدث هذا التأثير.


محاولة تغيير مفهوم أمن العمق الروسي

يبحث الرئيس ترامب عن وسيلة ضغط لدفع روسيا إلى التفاوض، وقد يكون تزويد أوكرانيا بتوماهوك هو السبيل الوحيد أمامه في النهاية، بالرغم من مناوراته مع الرئيس زيلينسكي، فالواقع يقول إن جهوده في الدبلوماسية المباشرة، كاستقباله الرئيس بوتين في ألاسكا في أغسطس الماضي، باءت بالفشل، كما فشلت التهديدات والخطابات الغاضبة منذ ذلك الحين. وربما يكون تزيد أوكرانيا بالصاروخ في النهاية هو المسار الأكثر إيجابية لتحقيق وقف إطلاق النار الذي وعد به "خلال 24 ساعة" من توليه منصبه والذي ظل بعيد المنال حتى الآن.

المحلل السياسي إيغور كوروتشينكو قال لجريدة سبوتنك إنترناشيونال الروسية (7 أكتوبر) إن احتمال ظهور أنظمة مثل توماهوك لدى أوكرانيا يمثل تحديا أمنيا خطيرا لروسيا، لكن وبالرغم من ذلك فإن توماهوك وحده لن يغير بالضرورة الوضع على الأرض. إن هذه الرؤية الروسية الداخلية تظهر أن موسكو تدرك أن هناك تهديد، لكنها تحاول تقليل التأثير العملي الفوري له.

في المقابل رأى المحلل الاستراتيجي في مجموعة Black Bird الفنلندية إيميل كاستيهلمي أثناء حديثه مع صحيفة كييف إندبندنت (8 أكتوبر) أنه لو حصلت أوكرانيا على توماهوك، سيكون الأمر صعبا، لأن الصواريخ ستغطي مساحة من الأهداف ذات قيمة عالية لروسيا. هذه الرؤية من شأنها أن تقلل من الثقة النسبية التي تعتقد روسيا أنها تملكها في عمقها الأمني.

على أية حال، إذا جرى تزويد أوكرانيا بتوماهوك، فثمة قدرة حقيقية على تغيير مفهوم أمن العمق الروسي، فالمنشآت التي كانت تعد بعيدة المنال، مثل مخازن الذخيرة، وقواعد الطيران، ومحطات الطاقة اللوجستية، قد تصبح أهدافا سهلة، ما يجبر موسكو على إعادة نشر الدفاعات، وإنفاق موارد إضافية عليها، وربما تعديل نمط العمليات الهجومية. ومع ذلك، فإن تحقيق هذا السيناريو يستلزم توافر كتلة صاروخية ضخمة، وإلا فسيبقى الأثر رمزيا أو تكتيكيا محدودا.


خاتمة

يُظهر تحليل وضع توماهوك في المشهد العسكري أنه سلاح يتجاوز كونه أداة تقنية متقدمة إلى كونه تجسيدا لفلسفة حربية قائمة على الردع عن بعد وإدارة الصراع دون انخراط مباشر. فالتطور الذي بلغه في المدى والدقة وتجاوز الدفاعات يجعله وسيلة لإعادة تعريف مفهوم التفوق العملياتي، إذ يمثل مزيجا بين الفاعلية العسكرية والرمزية السياسية التي تستخدم في توجيه رسائل استراتيجية أكثر من كونه مجرد أداة تدمير. ومن ثم، فإن قيمته تكمن في ما يخلقه من شعور بعدم الأمان في عمق الخصم، وهو ما يجعله أداة ضغط حتى في غياب استخدامه الفعلي.

وفي ضوء الحرب الأوكرانية، مجرد طرح احتمال إدخال توماهوك ضمن منظومة الدعم الغربي لكييف يكفي لإعادة حسابات الأمن الروسي، وإثارة نقاش واسع حول حدود الردع المتبادل. فالمسألة لا تتعلق بالصاروخ ذاته بقدر ما تعكس تحول ميزان الردع من الميدان إلى العمق، ومن القوة النارية إلى المعادلة النفسية والسياسية للأمن القومي. ومع استمرار الحرب في مسارها الطويل، سيبقى توماهوك رمزا لتداخل التكنولوجيا والسياسة والدبلوماسية في صنع القرار العسكري، ومؤشرا على أن معركة العمق لم تعد تخاض فقط بالسلاح، بل بالتصور والإدراك والقدرة على إدارة الخطر.

 

70