
منذ سيطرة طالبان على السلطة في أفغانستان عام 2021، تعيش العلاقات الأفغانية-الباكستانية حالة من التذبذب الدائم، تتأرجح بين التعاون الحذر والعداء الصريح. إن الاشتباكات التي اندلعت مؤخرا على الحدود بين البلدين أعادت إلى السطح أسئلة قديمة حول مدى استقرار العلاقة بين كابل وإسلام أباد، وحول ما إذا كان الصراع الحالي هو عرض مؤقت، أم أنه جزء من أزمة هيكلية أعمق تضرب أساس الثقة بين الجارتين.
أسباب التوترات
تجددت الاشتباكات
بين البلدين بعد ما تردد عن غارات جوية باكستانية استهدفت مواقع داخل الأراضي
الأفغانية، شملت بحسب ما أوردته وكالة الأناضول (12 أكتوبر 2025)، أطراف العاصمة
كابل ومناطق في الشرق الأفغاني. وبالرغم من أن إسلام أباد لم تقر رسميا بتنفيذ تلك
الغارات، إلا أن الصمت الرسمي فسر في كابل بوصفه تأكيدا ضمنيا على صحة الاتهامات،
الأمر الذي دفع القوات الأفغانية إلى رد فعل عسكري على الحدود. هذا التطور لم يكن
مجرد حادث أمني عابر، بل مثل تتويجا لحالة من التوتر المكتوم، إذ تعتبر طالبان أن
أي تحرك عسكري باكستاني داخل أراضيها تجاوز لخطوط السيادة الحمراء، بينما تراه
باكستان حقا مشروعا في ملاحقة الجماعات التي تهدد أمنها الداخلي.
ويظل ملف
الحدود والسيادة يمثل أعظم أسباب تفجر الأزمات بين البلدين، فخط دوراند الذي رسمته
بريطانيا عام 1893، ما زال موضع نزاع تاريخي، إذ ترفض أفغانستان الاعتراف به كحد
فاصل رسمي، معتبرة أنه اقتطع أراضيها التاريخية. ووفق تقرير سابق لوكالة خاما برس
الأفغانية (19 يناير 2025)، فإن هذا الخلاف الحدودي لم يبق في الإطار القانوني، بل
تحول إلى صراع سيادي يومي على المعابر ونقاط التفتيش، حيث يتبادل الطرفان
الاتهامات بانتهاك الأراضي وتشييد منشآت مراقبة داخل أراض متنازع عليها. هذا الوضع
جعل من كل حادث حدودي صغير سببا كافيا لتفجير أزمة دبلوماسية.
وفي خلفية هذا
المشهد، يبرز عامل الجماعات المسلحة بوصفه أحد أكثر الملفات حساسية في العلاقة بين
كابل وإسلام أباد. فباكستان ترى أن حكومة طالبان توفر ملاذا آمنا لعناصر حركة
طالبان الباكستانية. وتستخدم هذه الاتهامات في الخطاب الرسمي الباكستاني لتبرير
التحركات العسكرية والضربات الاستباقية على الحدود. في المقابل، تنفي طالبان تلك
المزاعم وتعتبرها محاولة لتحميلها تبعات فشل إسلام أباد في احتواء مشكلاتها
الأمنية الداخلية. وهكذا، تحول هذا الملف إلى دائرة مغلقة من الاتهامات المتبادلة
التي تعيد إنتاج التوتر.
الأبعاد
الأمنية
يظهر تقرير ميداني
كتبه هارون جانجوا المحلل السياسي لفايننشال تايمز أن المواجهات تجاوزت نطاق
الاشتباكات الحدودية التقليدية، لتأخذ طابعا عسكريا واسع النطاق. وقد تركزت
العمليات في ولايات خُست وباكتيكا وننغرهار، وهي مناطق حساسة تقع على خطوط العبور
الرئيسية بين البلدين، في مشهد يعكس تصعيدا غير مسبوق، ما يشير إلى أن كل طرف
يحاول فرض معادلة ردع جديدة على الأرض.
وقد أدى إغلاق
المعابر الحدودية، وفق ما نقلته رويترز، إلى شلل كامل في حركة التجارة. وبطبيعة
الحال، بات الوضع الإنساني في القرى الحدودية مقلقا، وأصبح المدنيون هم الضحية
الأبرز لصراع يتجاوزهم، حيث تستخدم المعابر الحيوية كأوراق ضغط سياسية بين البلدين.
ولطمأنة سكان الحدود الأفغانية صرح ذبيح الله مجاهد، المتحدث باسم إدارة طالبان،
لرويتر (12 أكتوبر 2025) بأنه "لا يوجد أي تهديد في أي جزء من أراضي
أفغانستان. وستدافع الإمارة الإسلامية وشعب أفغانستان عن أرضهما". ولكن
بالرغم من حديثه لكن التهديد حقيقي وموجود.
جهود التهدئة
والوساطة
بين الموقفين، برزت دعوات من المجتمع الدولي، نقلتها وكالة أسوشيتد برس (12 أكتوبر 2025)، تطالب الطرفين بضبط النفس والعودة إلى قنوات الحوار لتفادي الانزلاق إلى مواجهة مفتوحة قد تهدد استقرار جنوب آسيا. لكن المحلل السياسي الأفغاني رياض خان صرح للوكالة، بأن استمرار الخطاب المتشدد من الطرفين يوحي بأن مسار التهدئة ما زال هشا، وأن الأزمة الحالية ربما تمثل حلقة جديدة في سلسلة من الاشتباكات التي لم تجد بعد إطارا دائما للحل أو التفاهم.
على أية حال، يتعامل الوسطاء المحتملون مع الأزمة بقدر من الحذر. فالصين التي تربطها مصالح استراتيجية واقتصادية بالبلدين، خصوصا عبر مشروع الممر الاقتصادي الصيني-الباكستاني، لا ترغب في رؤية حدود مضطربة تهدد استثماراتها في المنطقة، وقد ألمحت تصريحات إعلامية لمسؤولين صينيين إلى استعداد بكين للعب دور تهدئة غير معلن. أما دول الخليج، وبخاصة قطر والسعودية، فتمتلك قنوات تواصل مؤثرة مع حركة طالبان، وقد تكون قادرة على تشجيع فتح قنوات اتصال دبلوماسية لتثبيت وقف إطلاق النار. في المقابل، يظل الموقف الغربي، كما رصدته الجارديان مراقبا من بعيد.
التحديات والآفاق المحتملة
تواجه العلاقات
بين باكستان وأفغانستان اليوم مأزقا حقيقيا، إذ يتبادل الطرفان الاتهامات دون وجود
آلية تحقيق مستقلة يمكن الركون إليها. وغياب جهة محايدة، سواء أممية أو إقليمية، لمراقبة
الانتهاكات الحدودية جعل من كل حادث ذريعة لعودة الخطاب العدائي. هذا الفراغ أدى
إلى إدامة الأزمة، حيث يستند كل طرف إلى روايته الخاصة في تفسير الأحداث. وهكذا،
يتحول الصراع إلى دائرة مغلقة من الشكوك المتبادلة التي تضعف فرص بناء الثقة بين
الجارتين.
على المستوى
الداخلي، تتعمق الضغوط الأمنية والاقتصادية في البلدين على نحو متواز. فباكستان،
بحسب فايننشال تايمز، تواجه تصاعدا في هجمات الجماعات المسلحة، ما يضع جيشها في حالة
استنفار دائم. وفي الوقت نفسه، تعاني من أزمة اقتصادية خانقة تجعل من استمرار
التوتر على الحدود عبئا إضافيا. أما أفغانستان، فتعاني بدورها من آثار اقتصادية
وإنسانية حادة بسبب إغلاق المعابر الحدودية، وتراجع حركة التجارة، وتزايد أعداد
اللاجئين والنزوح الداخلي. هذا التداخل بين الأمن والاقتصاد يجعل من الصعب على أيهما
تبني سياسات تصعيدية طويلة الأمد.
منعطف بالغ الخطورة
يبدو أن الأوضاع بين باكستان وأفغانستان تقف اليوم عند منعطف بالغ الخطورة، حيث تتقاطع التوترات الأمنية والعقائدية مع إرث طويل من الشكوك المتبادلة وملفات الجماعات المسلحة. فالتطورات الأخيرة على الحدود، مؤشر على تصعيد قد يخرج عن السيطرة إذا لم يتم احتواءه بسرعة، فالمزاج العام يميل للتشدد، بينما تتراجع لغة الحوار خلف خطاب وطني تعبوي من الطرفين. ومع أن احتمالات الحرب الشاملة تبقى ضعيفة في المدى القريب بسبب كلفتها العالية، إلا أن استمرار المناوشات قد يفتح الباب أمام تصعيد تدريجي يصعب احتواؤه لاحقا.
أما على مستوى
المسؤولية المشتركة، فإن الأزمة كشفت أن الضغط العسكري وحده لا يمكن أن يشكل حلا
مستداما. فباكستان، رغم امتلاكها القوة النارية والتفوق الاستخباراتي، تدرك أن أي
مواجهة مفتوحة ستضعف جبهتها الداخلية التي تعاني بالفعل من أزمات اقتصادية حادة
وهجمات متكررة لحركة طالبان الباكستانية. ومن ثم، فهي بحاجة إلى تبني مقاربة أكثر
شمولا تدمج بين الأمن والتنمية والاستقرار السياسي، خصوصا في المناطق الحدودية
التي ظلت محرومة من الخدمات والبنى الأساسية لعقود. في المقابل، تجد طالبان نفسها
أمام اختبار لمصداقية سلطتها، هل تستطيع أن تفرض سيادتها الفعلية على كامل الأراضي
الأفغانية وتكبح الجماعات المسلحة التي تعمل بمعزل عنها؟ أم ستبقى متهمة بأنها
توفر ملاذا آمنا يزعزع أمن جيرانها؟
الخيار الواقعي الوحيد
في ضوء كل ذلك،
فإن الخيار الواقعي الوحيد أمام الطرفين هو احتواء التصعيد عبر فتح قنوات تواصل
مباشرة برعاية وسطاء إقليميين محايدين، مع إشراف من المجتمع الدولي لضمان الشفافية
في التحقيق في الانتهاكات الحدودية وحماية المدنيين. فالحرب الكاملة ليست في مصلحة
أحد، لأنها ستنهك باكستان اقتصاديا وتعمق عزلتها الداخلية، وستضعف طالبان في وقت تسعى
فيه إلى كسب اعتراف عالمي هش. وإذا لم يتحرك الطرفان سريعا نحو تفاهم أمني جديد،
فقد يتحول النزاع الحدودي إلى صراع دائم يهدد أمن جنوب آسيا بأكملها.