السلام بين أرمينيا وأذربيجان: إعادة رسم خريطة النفوذ في القوقاز

تقديرات

السلام بين أرمينيا وأذربيجان: إعادة رسم خريطة النفوذ في القوقاز

11-Aug-2025

وقع الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف ورئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان على اتفاق سلام يهدف لإنهاء عقود من الصراع بين البلدين. هذا الاتفاق الذي من المفترض أن يعمل على فتح المجال أمام التعاملات التجارية والعلاقات الدبلوماسية والثقافية واحترام السيادة. وقد أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب أن السلام سوف يسهل سبل الحوار وبناء العلاقات، ما يسمح بالتواصل البناء دون عوائق بين البلدين وشعبيهما في كافة المجالات.

 

الصراع بين الدولتين

تاريخيا، يتمحور الصراع بين أرمينيا وأذربيجان حول "إقليم ناغورني-قره ‌باغ"، وهو منطقة جبلية ذات أغلبية سكانية أرمينية تقع داخل الحدود المعترف بها دوليا لدولة أذربيجان. جذور النزاع تعود إلى بدايات القرن العشرين، حين تصاعدت التوترات القومية في ظل ضعف الإمبراطورية الروسية وقتئذ، لكن الصراع اتخذ شكله الأكثر حدة في أواخر حقبة الثمانينيات مع تفكك الاتحاد السوفيتي، حيث طالبت الأغلبية الأرمينية في الإقليم بالانضمام إلى أرمينيا. هذا المطلب الذي قوبل برفض أذربيجاني حازم، ما أدى إلى اندلاع حرب دموية بين عامي 1988 و1994 انتهت بسيطرة أرمينيا على الإقليم ومناطق أذرية أخرى محيطة به، دون اعتراف دولي، وترك عشرات الآلاف من القتلى ومئات الآلاف من النازحين.

 

حرب مستمرة

منذ وقف إطلاق النار في عام 1994، ظل الوضع هشا، وتكررت المواجهات المسلحة، أبرزها حرب الأربعة أيام في عام 2016 وحرب عام 2020 التي استعادت خلالها أذربيجان مساحات واسعة من الإقليم والمناطق المحيطة به بدعم عسكري تركي، واستخدام مكثف للطائرات المسيرة. ولعبت التدخلات الإقليمية دورا محوريا في الصراع، فتركيا دعمت باكو سياسيا وعسكريا، بينما اعتمدت أرمينيا على مظلة الأمن الروسي عبر معاهدة الأمن الجماعي. هذا التوازن غير المستقر، المقترن بالاعتبارات القومية والذاكرة التاريخية المثقلة بالمعاناة والتهجير، جعل الصراع أكثر من مجرد نزاع حدودي، بل قضية هوية ووجود لكل من الشعبين.

بوصول ترامب إلى سدة الحكم، بدأت الخطوات الجادة نحو تحقيق سلام بين البلدين تأخذ شكلا إيجابيا. وفي مارس 2025 أعلنت نيويورك تايمز خبر التوصل إلى اتفاق مسودة سلام نهائي بين أرمينيا وأذربيجان، وذلك بعد عقود من النزاعات العسكرية المتقطعة العظيمة الخسائر. فقد أكدت وزارة الخارجية الأرمينية قبول الأخيرة لاقتراحات أذربيجان حول آخر مادتين مازالتا معلقتين في الاتفاق. فقد تمثلت العقبة الأساسية في الوصول إلى اتفاق نهائي في رغبة أذربيجان في تعديل الدستور الأرميني، لإزالة أي تلميحات قد تفسر على أنها مطالبات إقليمية تجاه أراضي أذربيجان، في إشارة واضحة إلى بند قد يفسر كادعاء ضمني على ناغورني-قره ‌باغ. (New York Times: 19 March 2025)

 

فتح ممر زانغزور

يعد توقيع الاتفاق النهائي في 8 أغسطس 2025، برعاية الرئيس الأميركي في البيت الأبيض، انتصارا على كافة العقبات التي واجهت اتفاق السلام منذ بداية التشاور عليه. والذي نص على فتح ممر زانغزور التجاري والاستراتيجي من خلال الأراضي الأرمينية، وقد أطلقت الإدارة الأميركية عليه اسم "مسار ترامب للسلام والازدهار الدوليين"، الذي يسمح للولايات المتحدة بإدارته تطويره لمدة 99 عاما مقبلة. هذا الممر الجديد سيصل أذربيجان بجيب ناخيتشيفان، وبذلك يعد حلقة أساسية في الممر الأوسط الذي يربط الصين ووسط آسيا بتركيا، ويوفر لأرمينيا منفذا تجاريا جديدا إلى العالم. (Time: 9 August 2025)

الاتفاق يمنح أيضا الجيش الأميركي دورا مهما في حفظ السلام بالمنطقة، ما اعتبره الخبراء ضربة قوية لمصالح روسيا. كما ينص على مطالبة منظمة الأمن والتعاون في أوروبا بحل مجموعة مينسك التي فشلت في إنهاء الصراع منذ عام 1994 (New York Times: 9 August 2025) . كما تم الاتفاق على التعاون بين أرمينيا وأذربيجان في مجالات الأمن والطاقة والبنية التحتية والتكنولوجيا، وكافة النواحي الاقتصادية التي تصب في مصلحة الشعبين. (Elpais: 8 August 2025)

 

خلاف قائم

وبالرغم من التوقيع على الاتفاق، لكن لا تزال القضية المتصلة بالتعديلات الدستورية في أرمينيا محور خلاف حقيقي، فلا توجد حتى الآن تفاصيل نهائية بشأن تحديد موعد نهائي للاستفتاء أو طبيعة التعديلات المطلوبة. وقد أبدى نيكول باشينيان استعداده لتلبية الطلبات، معلنا نيته إجراء استفتاء دستوري في عام 2027، لكن حديثه لم يأخذ طابعا رسميا حتى الآن. كما أن طبيعة الممر الدولي الجديد ما زالت غامضة إلى حد كبير، حول ما سيحمله من آثار على السيادة الإقليمية والعلاقات مع القوى الإقليمية مثل روسيا وإيران، حيث يُعتبر الاتفاق مقدمة لزيادة النفوذ الأميركي، وتراجع تأثير اللاعبين التقليديين في جنوب القوقاز، فضلا عن الغموض حول طبيعة دور واشنطن في حفظ السلام بالمنطقة، وهل سيكون تحت مظلة أميركية منفردة، أم من خلال تطوير مهام قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة.

 

موجة من الجدل

لقد تسببت المفاوضات حول الاتفاق منذ مارس الماضي وحتى الوقت الراهن في موجة من الجدل، بالرغم من كونه خطوة مهمة نحو السلام في هذا الجزء المضطرب من العالم، لأن آليات كسب الثقة بين البلدين ما زالت مفقودة والتوترات متواصلة. وهو ما ألمح إلى ذلك الكاتب والمحلل السياسي روبرت نيكلسون، رئيس تحرير مجلة بروفيدنس، ومؤسس وعضو مجلس إدارة منظمة أنقذوا أرمينيا، الذي حذر من أن الاتفاق تم فرضه على أرمينيا تحت الضغط الأميركي، وركز على بنود تمس السيادة، مثل إلغاء القضايا القانونية، وسحب مراقبي الاتحاد الأوروبي، بمعنى أن السلام من الممكن أن يكون مؤقتا، وأنه تجميد للصراع بأفضل شروط لباكو. (Modern Diplomacy: 22 April 2025)

إن هذا التحول المفاجئ في العلاقات بين أرمينيا وأذربيجان يؤكد على تصاعد النفوذ الأميركي في المنطقة، ويقلص دور روسيا وإيران. والدليل على ذلك تأمين الولايات المتحدة لنفوذها الاستراتيجي من خلال السيطرة على "ممر زانغزور" لمدة 99 سنة، مما يهدد مصالح موسكو وطهران بشكل مباشر. وهكذا يعمل هذا الاتفاق على إحداث تحول في خريطة النفوذ.

 

تحول استراتيجي

على أية حال، يمثل اتفاق السلام الذي وقع بين أرمينيا وأذربيجان تحولا استراتيجيا في مسار الصراع الممتد لعقود حول ناغورني-قره ‌باغ، بعد مفاوضات شاقة امتدت لسنوات، حيث نجح الطرفان في تجاوز معظم القضايا الخلافية، ليأتي التوقيع كخطوة أعادت تشكيل معادلة النفوذ في جنوب القوقاز، وأزاحت الوساطة الروسية التقليدية لصالح دور أميركي متقدم، يفتح الباب أمام تغيرات اقتصادية وجيوسياسية واسعة، مع احتمالات لتقليص الاعتماد على طرق التجارة التي تمر عبر روسيا أو إيران.

 

تحديات ملموسة

مع ذلك، يظل الاتفاق محفوفا بتحديات قد تؤثر على استدامته، وعلى رأسها الشرط الأذربيجاني بإجراء تعديلات دستورية في أرمينيا، لضمان إزالة أي إشارات لمطالبات إقليمية مستقبلية. هذا الشرط، إذا لم يتم التعامل معه بحذر داخليا، قد يثير توترات سياسية داخل أرمينيا، ويغذي بدوره الأصوات المعارضة للاتفاق. كذلك، فإن إدخال الولايات المتحدة كمستثمر ومشرف على ممر استراتيجي طويل الأمد قد يخلق حساسيات لدى القوى الإقليمية، ويجعل جنوب القوقاز ساحة تنافس دولي أكثر سخونة.

في ظل هذه المعطيات، يمكن القول إن الاتفاق يفتح نافذة سلام واعدة، لكنه في الوقت ذاته ينقل الصراع من ساحة السلاح إلى ميدان السياسة الجيوستراتيجية، حيث ستكون الإدارة الحكيمة للعلاقات الإقليمية والدستورية هي الضامن الحقيقي لنجاحه.

 

247