باغرام من جديد: رهانات ترامب للعودة إلى أفغانستان

تقديرات

باغرام من جديد: رهانات ترامب للعودة إلى أفغانستان

22-Sep-2025

منذ إعلان الرئيس دونالد ترامب عن رغبته في استعادة قاعدة باغرام الجوية في أفغانستان، عاد ملف الوجود الأميركي في هذا البلد ليحتل موقع الصدارة، سواء داخل الولايات المتحدة أو دوليا. إن باغرام لم تكن مجرد منشأة عسكرية تقليدية، بل مثلت رمزا للهيمنة الأميركية ومركزا لإدارة العمليات ضد الحركات الجهادية في المنطقة، وارتبطت بالفوضى التي صاحبت انسحاب 2021، وما تبعه من انتقادات لإدارة جو بايدن. تصريحات ترامب التي ربط فيها أهمية القاعدة بقربها من الصين ومنشآتها النووية، لا يمكن تجاهل انعكاساتها الإقليمية على التوازنات المعقدة في آسيا الوسطى.

وبين دوافع سياسية داخلية ورهانات استراتيجية خارجية، وبين رفض طالبان وأطماع القوى الإقليمية، يقف المشهد الأفغاني من جديد عند مفترق طرق، يطرح تساؤلات عميقة حول جدوى العودة إلى قلب آسيا، وحول قدرة واشنطن على الموازنة بين الطموح والواقع في ملف بالغ التعقيد.

الدوافع الاستراتيجية

يبدو أن هذا التصريح يحمل أبعادا متشابكة. فمن الناحية السياسية الداخلية، يسعى ترامب إلى استثمار هذه الخطوة كورقة يُذكر بها المواطن الأميركي بما اعتبره فشلا لإدارة بايدن في الانسحاب من أفغانستان. باغرام في الوعي الأميركي ليست مجرد قاعدة عسكرية، إنها رمز لسنوات من الهيمنة العسكرية والسيطرة الاستخباراتية، والتخلي عنها ارتبط بفوضى أدت إلى سيطرة طالبان على البلاد. إعادة طرح فكرة استعادتها تمنح ترامب مساحة لتأكيد إصلاحه ما أفسده سلفه.

وعلى المستوى الاستراتيجي الدولي، ربط تصريح ترامب أهمية باغرام بموقعها الجغرافي حين قال إنها تبعد ساعة عن مواقع نووية صينية حساسة، ما يمنحها قيمة كبرى في أي مواجهة استراتيجية مع بكين. بهذا المعنى، يقدم إعادة فتح الملف رسالة جيوسياسية، تلوح بقدرة واشنطن على العودة إلى قلب آسيا للضغط على خصومها متى اقتضت الحاجة.

المحلل الأمني بيل روجيو في تصريح لصحيفة وول ستريت جورنال (19 سبتمبر)، أشار إلى أن ترامب يستخدم ملف باغرام كوسيلة للتأكيد على وجوده كقائد قوي، محليا ودوليا، خصوصا في الصراع مع الصين، لكنه سيواجه عدة عقبات، كفقدان الثقة في قراراته، واتفاق الدوحة، فضلا عن الموقف الداخلي لطالبان. ذكرت الصحيفة أن إعلان ترامب المفاجئ قد يكون جزءا من جهد دبلوماسي لتطبيع العلاقات مع كابل. وأن المحادثات التي يقودها المبعوث الأميركي آدم بوهلر تشمل تبادلا محتملا للأسرى واتفاقية اقتصادية وتفاهمات أمنية.

تحديات تواجه رغبة ترامب

بالرغم من وجاهة الدوافع السياسية والاستراتيجية، إلا أن مشروع العودة إلى باغرام يصطدم بجملة تحديات موضوعية. في مقدمتها الرفض الصريح من أفغانستان لوجود عسكري أميركي جديد. طالبان التي تبني شرعيتها على شعار "إنهاء الاحتلال الأجنبي"، لا يمكنها قبول ذلك بسهولة، خاصة وأنها لا تزال تسعى إلى تثبيت سلطتها والحصول على اعتراف دولي أوسع، وأي تنازلات قد تفسر داخليا بأنها خيانة لمبادئ الحركة، وقد تؤدي إلى انشقاقات واحتجاجات مسلحة.

في تصريحه للعرب نيوز (19 سبتمبر) يبدي عبد الصبور مبارز، الخبير السياسي الأفغاني، تشككا في أن طالبان قد توافق، معتبرا أن التصريحات الأميركية لن تكون أكثر من مفاوضات رمزية، ما لم تقدم واشنطن مقابلا سياسيا واقتصاديا ملموسا. كما صرح منصور أحمد خان سفير باكستان السابق في كابل، لرويترز، أن البعد اللوجستي والتحديات الأمنية، مثل الحاجة لتأمين القاعدة وطرق إمدادها وإعادة بنائها بعد سنوات من الإهمال، كلها عوامل تجعل من استعادتها مهمة مكلفة، وربما تتطلب استخدام أعداد كبيرة من القوات والتزاما مستمرا، وهو أمر قد لا يلقى قبولا لدى كافة الأطراف.

من وجهة نظرنا، قد يواجه المقترح إشكالية قانونية ودبلوماسية معقدة. فطالبان لم تحظ بعد باعتراف دولي كامل، والتفاوض معها بشأن إعادة قاعدة عسكرية قد يثير اعتراضات من القوى الإقليمية التي ترى في أفغانستان مجالا لنفوذها الحيوي، مثل إيران وروسيا والصين. كما أن واشنطن نفسها مرتبطة باتفاق الدوحة 2020، الذي مثل الأساس لانسحابها، وأي عودة قد تعتبر خرقا لذلك الاتفاق، ما يضعها أمام معضلة يصعب تجاوزها.

السيناريوهات المحتملة

أمام هذه التحديات، يمكننا تصور عدة سيناريوهات، كما يلي:

السيناريو  الأول، هو الوصول إلى اتفاق على استخدام غير عسكري للقاعدة، بحيث توظف في أغراض إنسانية أو لوجستية، مثل الاستجابة للكوارث الطبيعية، أو كمركز إقليمي لمكافحة المخدرات والإرهاب. هذا الطرح قد يمنح طالبان فرصة للحفاظ على سيادتها الرمزية، وفي الوقت نفسه يتيح لواشنطن موطئ قدم دون إثارة صدام مباشر. مثل هذا السيناريو قد يُسوق للرأي العام المحلي والدولي باعتباره تعاونا إنسانيا لا يهدد سيادة أفغانستان.

أما السيناريو الثاني، في حالة موافقة طالبان، فإنه يتمثل في وجود عسكري محدود، مثل نشر وحدات صغيرة من القوات الخاصة أو الاستخبارات، أو السماح بتسيير طائرات بدون طيار انطلاقا من القاعدة. هنا ربما تسعى طالبان إلى فرض شروط صارمة، قد تشمل مقابل مالي أو دعم اقتصادي كبير أو تبادل للأسرى. هذا السيناريو يبدو أكثر صعوبة لكنه يظل مطروحا كخيار مؤقت.


تقدير الموقف

إن خيار استعادة باغرام يحتاج إلى معالجة واقعية. فالإدارة الأميركية، إن أرادت السير قدما، عليها أن تحدد بوضوح طبيعة استخداماتها للقاعدة، وجود عسكري مباشر، أم مجرد منصة استخباراتية، أم مركز إنساني؟ كما ينبغي أن تراعي حساسية موقف طالبان الداخلي، وتقدم لهم مكاسب ملموسة، سواء في صورة مساعدات مالية أو وعود باستثمارات، حتى تتمكن من تبرير أي تفاهم للرأي العام الأفغاني. الشفافية النسبية مع المجتمع الدولي ستكون ضرورية لتفادي الاتهامات بخرق الاتفاقات، أو بفرض وصاية جديدة على بلد لم يبرأ بعد من آثار حرب طويلة.

سوف يترك إعادة فتح الملف انعكاسات مهمة على علاقات واشنطن مع الداخل الأفغاني. فمن جهة، قد تؤدي أي خطوة غير محسوبة إلى زيادة التوتر مع طالبان وتعزيز خطابها المعادي لأميركا، مما يغذي احتمالية عودة الحركات الجهادية. ومن جهة أخرى، إذا تم الأمر عبر تفاهمات واقعية فقد تتاح فرصة لفتح نافذة تعاون ولو في حدود ضيقة. هذه الازدواجية تجعل الملف محفوفا بالمخاطر لكنه يحمل فرصا لاستعادة النفوذ الأميركي وتحقيق بعض المكاسب لأفغانستان.

إقليميا، لا يمكن فصل القضية عن التوازنات الدولية. الصين ستنظر إلى عودة أميركا باعتبارها تهديدا مباشرا، خاصة بعد ربط باغرام بالملف النووي الصيني. وقد عبَّر الخبراء الصينيون عن احترامهم لاستقلال وسيادة أفغانستان في مداخلات عبر شبكة أخبار TOLOnews الأفغانية، وأقروا بأن مستقبلها يجب أن يكون بيد الأفغان. وفي حديثه مع الشبكة أكد المتحدث باسم الخارجية الصينية، على أن العودة الأميركية لباغرام سينظر إليها من بكين باعتبارها تهديدا محتملا للاستقرار الإقليمي.

روسيا وإيران كذلك سوف تعتبران الخطوة استفزازا في منطقة تراها كل منهما ضمن مجال نفوذها التقليدي. أما باكستان، التي طالما لعبت دورا محوريا في المعادلة الأفغانية، فقد تجد نفسها في موقف معقد بين علاقتها التاريخية مع طالبان وتحالفها الأمني مع واشنطن. وعلى الصعيد الداخلي الأميركي، قد يستخدم ترامب الملف كورقة لتحقيق مكاسب داخلية، يظهر بها كمن يستعيد القوة بعد انسحاب فوضوي، حتى لو لم تترجم التصريحات إلى خطوات عملية.

على أية حال، يمكن القول إن تصريحات ترامب بشأن باغرام قد تحمل قدرا من الرمزية السياسية أكثر من كونها مشروعا عمليا قابلا للتنفيذ في المدى القريب. لكن مجرد طرح الفكرة يعكس عودة التفكير في أفغانستان كمنصة استراتيجية، ليس فقط لمكافحة الإرهاب، بل لمراقبة الصين وروسيا من خاصرة آسيا الوسطى. وبغض النظر عن إمكانية التطبيق، لكن هذه العودة في الخطاب السياسي الأميركي تعني أن أفغانستان ستظل في قلب الجغرافيا السياسية الدولية، وأن الصراع حولها لم يُغلق تماما بانسحاب 2021.

 

311