
شهد موقف الرئيس الأميركي دونالد ترامب من الحرب الروسية الأوكرانية تحولا لافتا في الأسابيع الأخيرة، بدا من الوهلة الأولى متناقضا مع مواقفه السابقة التي اتسمت بالتقارب العلني مع موسكو والتشكيك في جدوى دعم أوكرانيا. غير أن خلف هذا التحول المفاجئ تكمن جملة من الأسباب السياسية والاستراتيجية التي دفعته إلى إعادة حساباته، خصوصا في ضوء التطورات العسكرية والميدانية المتسارعة، وتبدل المزاج داخل حزبه الجمهوري.
تراجع الوعود الانتخابية
خلال العامين الماضيين، بدا ترامب متعاطفا، وإن كان بشكل غير رسمي، مع الموقف الروسي، حتى أنه استخدم ملف أوكرانيا كأداة لمهاجمة إدارة بايدن، متهما إياها بهدر أموال الدولة في نزاع لا يخدم المصالح الأميركية المباشرة، وبنى وعوده الانتخابية بوقف الحرب على افتراض امتلاكه قدرة تأثير في الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، مستندا إلى علاقته السابقة به التي كان يتفاخر بها خلال فترته الرئاسية الأولى.
في أثناء حملته الانتخابية صرح ترامب بأن الحرب ما كانت لتندلع أصلا لو كان في البيت الأبيض، زاعما أن بوتين احترمه ولم يتجرأ على اجتياح أوكرانيا في عهده. هذه الثقة الشخصية مثلت حجر الزاوية في محاولات إقناع ناخبيه، إذ قدم نفسه باعتباره رجل الصفقات القادر على إقناع الطرفين بالمفاوضات دون تنازلات مفرطة من الجانب الأميركي، مع التعهد بعدم تقديم دعم غير مشروط لكييف، وهو ما كان يلقى صدى داخل بعض الأوساط المحافظة في الحزب الجمهوري التي ترى أن أولوية الإنفاق يجب أن تكون للشأن الداخلي الأميركي.
لمس ترامب مشاعر ناخبيه بتصويره الحرب الأوكرانية باعتبارها نزاعا أوروبيا لا يجب أن تتحمل الولايات المتحدة كلفته، ووعد بأنه سيعيد توجيه الجهود نحو تفاهمات كبرى مع روسيا تضمن وقف إطلاق النار وتجميد النزاع فور توليه الرئاسة.
قال بعض الخبراء لوكالة أسوشيتد برس إنهم كانوا يرون هذه الوعود تفتقر إلى تفاصيل عملية، فقد قامت على فرضيات غير واقعية بشأن نوايا موسكو، خاصة بعد انهيار أغلب قنوات التواصل الدبلوماسي التقليدي (AP: 24 April 2025) . كما صرح اثنان من مساعدي ترامب لرويترز، وكانا ممن ناقشوا الحرب الأوكرانية مع ترامب، بأنهما يدرسان جدولا زمنيا لأشهر لحل النزاع، ووصفا وعود اليوم الأول بأنها مزيج من ثرثرة الحملة الانتخابية وعدم تقدير طبيعة الصراع. (Reuters: 15 January 2025) غالبا ما تسقط حقائق الحكم الوعود التي يقدمها المرشحون الرئاسيون. لكن تحول ترامب جدير بالملاحظة، بالنظر إلى ولايته السابقة كرئيس، وتاريخه الطويل مع كل من بوتين وزيلينسكي.
من التودد إلى التهديد
في خطوة غير مسبوقة، بمقاييس أحاديثه السابقة، خفت العبارات الودية تجاه موسكو، واتخذ ترامب قراره في يوليو 2025، بإرسال منظومات باتريوت الدفاعية إلى أوكرانيا، وفرض عقوبات على الدول التي تواصل شراء النفط الروسي. هذا التغير المفاجئ أرجعه البعض إلى شعوره بأن بوتين قد استخف به واستغل حسن نيته دون مقابل ملموس، وذلك بعد أن رفض عروضا أميركية مباشرة للسلام، بالرغم من أن ترامب حاول في البداية، حسب ما سربته مصادر لواشنطن بوست، ترتيب اتفاق ثنائي لا يضم الأوكرانيين ولا حتى الأوروبيين، وهو ما قوبل برفض روسي أوروبي مشترك. (Washington Post: 14 July 2025)
من المفهوم أن خطة ترامب الاقتصادية كانت أحد دوافعه الأساسية لتخفيف دعمه لكييف، حيث سعى إلى عقد صفقة تجارية حصرية مع أوكرانيا للحصول على امتيازات في تصدير المعادن الاستراتيجية، مقابل دعم عسكري مشروط. غير أن الرئيس زيلينسكي رفض تلك الخطة، معتبرا إياها انتهازية، وتفتقر إلى أي ضمانات حقيقية للأمن القومي الأوكراني.
وبحسب تقرير نشره الإصدار الإسباني من هافنغتون بوست، كان هذا الرفض لسياسته من كافة الأطراف سببا رئيسيا في إصابة ترامب بالإحباط، ودفعه لإعادة تقييم جدوى رهانه على المسار الاقتصادي وحده (Huffington Post: 19 July 2025). وهكذا خفتت الأجواء الإيجابية، وتلاشى الثناء، وتصدرت التهديدات المشهد. حيث وجه الرئيس ترامب إنذارا نهائيا للكرملين لإنهاء هجومه في أوكرانيا: "إذا لم تُوقع موسكو اتفاقا مع كييف خلال 50 يوما، ستفرض رسوم جمركية وعقوبات أخرى. إذا لم تقبل روسيا، سيُفرض على اقتصادها رسوم جمركية بنسبة 100%". وبطبيعة الحال، لجأ بوتين إلى الكرملين لمناقشة خطواته التالية.
دوافع تغيير موقفه
يبدو أن التواصل بين ترامب وبوتين كان يمثل محاولة لاستعادة قنوات مباشرة بين واشنطن وموسكو، في ظل وعود واشنطن بإنهاء الحرب سريعا. وقد نتج عن ذلك تهدئة جزئية تمثلت في وقف محدود للضربات على منشآت الطاقة، وفتح الباب أمام مسار تفاوضي غير رسمي. ترامب حاول استغلال هذه الخطوة لتأكيد قدرته على لعب دور الوسيط الفعال، لكنه لم ينجح في انتزاع تنازلات حقيقية من بوتين، الذي تمسك بمطالبه الاستراتيجية، ما جعل نتائج الاتصال رمزية أكثر منها عملية. في المقابل، أثارت هذه المبادرة قلقا داخل أوكرانيا وأوروبا، حيث وُصفت بأنها تجاوزت الأطراف المتضررة من الحرب، خصوصا بعد تجاهل كييف في الترتيبات التمهيدية.
من الممكن مبدأيا اعتبار أن الانقسامات داخل المؤسسة الأميركية نفسها، بين تيار داعم للحوار مع موسكو وتيار يرى في الضغط العسكري الوسيلة الأجدى لإخضاعها، هي الدافع الرئيسي لتغيير موقف ترامب، لأن حالة الانقسام داخل الحزب الجمهوري بشأن الملف الأوكراني تهدد وحدته السياسية، بعد أن أبدى بعض النواب الجمهوريين تحفظهم على موقفه السابق، وطالبوا علنا بدعم أوضح لكييف، بعد أن تكبدت روسيا خسائر في القوات والعتاد، فتحت الباب أمام معسكر داخل الحزب يرى أن انهيار روسيا قد يكون فرصة تاريخية لإضعاف نفوذها الاستراتيجي إلى الأبد. ووفق مصادر لرويترز، هو طرح بدأ يحظى بقبول متزايد داخل الكونغرس الأميركي. (Reuters: 10 July 2025)
أما دوليا، فقد وجدت الولايات المتحدة نفسها أمام معادلة جديدة، تتمثل في دول الناتو، وعلى رأسها بريطانيا وألمانيا وكندا، التي شرعت في تقديم مساعدات عسكرية أكثر تقدما لأوكرانيا، وتبنت سياسات اقتصادية صارمة تجاه موسكو دون انتظار قرار أميركي. هذا الحراك جعل واشنطن في آخر الصف، وفرض على ترامب أن يتخذ موقفا أكثر وضوحا لئلا يظهر بمظهر الضعيف أو المعزول في مواجهة الحلفاء. أكد تقرير نشرته فاينانشيال تايمز أن ترامب بات مقتنعا بأن الاستمرار في الغموض تجاه روسيا لن يخدم صورته العالمية، بل سيُضعف موقفه إلى حد كبير. (Financial Times: 13 July 2025)
وهكذا تداخلت العديد من العوامل لتشكل لحظة تحول حاسمة في خطاب ترامب وسياسته الخارجية تجاه الحرب الأوكرانية. وبينما يرى البعض أن هذا التحول يمثل تصحيحا استراتيجيا متأخرا، يعتبره آخرون خطوة تكتيكية تندرج في إطار إعادة التموضع، خاصة أنه اشتهر بمواقفه المتقلبة التي تتبدل وفق المصلحة واللحظة السياسية. لكن الثابت الآن هو أن ترامب الذي طالما رُبط اسمه بعبارات الثناء على بوتين، أصبح في موقع مختلف تماما، يُملي فيه العقوبات ويرسل منظومات الدفاع، ويتوعد الذين لا يلتزمون بقراراته الاقتصادية.
خلاصات تحليلية
بالنظر إلى التحولات الأخيرة في موقف النخبة السياسية الأميركية تجاه الحرب في أوكرانيا، يمكن القول إن الموقف لم يعد محصورا في ثنائية دعم كييف أو التراجع التكتيكي، بل أصبح يتجه إلى مقاربة أكثر جرأة تقوم على استغلال لحظة الضعف الروسي لإعادة تشكيل التوازنات الاستراتيجية في أوروبا الشرقية. هذا التحول يعكس شعورا متزايدا داخل بعض الأوساط الجمهورية والديمقراطية بأن إطالة أمد الحرب قد يؤدي إلى استنزاف روسيا بصورة شاملة، بما يُضعف قدرتها على التأثير في الملفات العالمية، ويضع حدا لنفوذها التقليدي في محيطها الجغرافي.
غير أن هذا التصور يصطدم بجملة من التحديات، أبرزها الخوف من تداعيات انهيار داخلي مفاجئ في روسيا، وما قد يحمله ذلك من مخاطر فوضى أو فراغ نووي. فالرغبة في إضعاف موسكو تصطدم بمحدودية الأدوات الأميركية على الأرض، فضلا عن تباين وجهات النظر بين الإدارة الحالية وبعض حلفائها الأوروبيين الذين لا يزالون يفضلون سيناريو التسوية السياسية حفاظا على استقرار قارة أوروبا. كما أن الداخل الأميركي نفسه يشهد انقساما حول جدوى الاستمرار في ضخ الدعم العسكري والمالي لأوكرانيا، خاصة مع تصاعد الأصوات الشعبوية التي تضع أولويات الأمن القومي الأميركي فوق أي التزام خارجي.
لقد بدأت ملامح مقاربة أميركية جديدة تتشكل تجاه الحرب في أوكرانيا بعد عودة الرئيس ترامب إلى البيت الأبيض، وأصبح الآن أمام اختبار حقيقي بين شعارات الحملة الانتخابية وضغوط الواقع الجيوسياسي. من جهة، يسعى إلى استخدام علاقاته السابقة مع بوتين كورقة ضغط لتحقيق وقف إطلاق نار سريع، ومن جهة أخرى يواجه مؤسسة أمنية وعسكرية لا تزال ترى في استمرار الضغط على روسيا فرصة استراتيجية. ومع تنامي تيار داخل الكونغرس يعتبر إضعاف موسكو هدفا طويل المدى، يجد ترامب نفسه مضطرا للموازنة بين وعوده الانتخابية ومصالح الدولة العميقة التي لا تشاركه بالكامل رؤيته التصالحية تجاه الكرملين.
أما مستقبل المسألة، فمرتبط بشكل كبير مع حملة ترامب الحالية ضد روسيا، غير أنها تُظهر قدرا من الغموض والمزاوجة بين الرغبة في إنهاء الحرب وبين الانخراط في سياسة العصا والجزرة مع الكرملين. وقد نشهد في المستقبل القريب تحولات مفاجئة في الخطاب كما عودنا ترامب، وربما طرح صفقات أخرى للسلام المشروط، قد لا تحظى بتوافق أوروبي فيتعقد المشهد أكثر.
في المحصلة، تبدو الحرب الأوكرانية وكأنها دخلت مرحلة استنزاف طويلة المدى، حيث لا ينتصر فيها أحد بشكل حاسم، لكن يخسر الجميع بشكل متدرج. مستقبل الصراع قد لا يُحسم في ميادين القتال، بل في صفقات كبرى تُعقد خلف الأبواب المغلقة، وحسابات داخلية لدول كبرى يعاد فيها تعريف المصالح والمخاطر. وبهذا المعنى، فإن أوكرانيا لم تعد فقط ساحة صراع، بل تحولت إلى مرآة تعكس عمق التغيرات في النظام الدولي. وبطبيعة الحال، قد يشهد العالم انعطافة جديدة إذا تغيرت موازين القوى نتيجة تبدلات المصالح التي تفجرها هذه الحرب. لكن مما لا شك فيه أن ترامب، لأول مرة منذ اندلاعها، يرسل إشارات حقيقية بأنه لا يثق بروسيا، ولا ينوي ترك أوكرانيا بمفردها، على الأقل في الوقت الراهن.