تطورات لافتة شهدتها حرب السودان خلال الأيام الماضية، فلم تعد التحذيرات بشأن تدهور الأوضاع الإنسانية مجرد مطرقة تدق بها المنظمات الإنسانية ناقوس الخطر، بل لتعلن الحصيلة المتوقعة حسب المؤشرات الموجودة على الأرض. فقد حذر برنامج الأغذية العالمي من أن الحرب الدائرة في السودان "قد تخلف أكبر أزمة جوع في العالم" في بلد يشهد أساساً أكبر أزمة نزوح على المستوى الدولي.
مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك، قال خلال كلمته أمام مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في جنيف، خلال اجتماعه الأخير: "إن السودان أصبح كابوساً حقيقياً، والمنع المتعمد على ما يبدو لوكالات الإغاثة من الوصول الآمن ومن دون عوائق إلى داخل السودان يشكل انتهاكاً خطراً للقانون الدولي، وقد يرقى إلى مستوى جريمة حرب". إزاء هذه التحذيرات لم يجد مجلس الأمن غير تأييد نص قرار اقترحته بريطانيا يدعو جميع أطراف الصراع في السودان إلى وقف فوري للأعمال العدائية قبل شهر رمضان.
يأتي ذلك في ظل تدهور اقتصادي أقر به وزير المالية السوداني في تصريحات صحفية في فبراير الماضي، بأن البلد فقد 80% من إيراداته وأن الجنيه إنخفض في مواجهة العملات الأخرى، بالإضافة إلى فشل حصاد الموسم الشتوي وعدم قدرة الحكومة على توفير احتياجات الموسم الشتوي، وهو ما يعني أن السودان سيدخل في نفقاً مظلماً.
حلم بعيد المنال
لما كان قرار مجلس الأمن غير ملزم ويحق للسودان الانسحاب من البروتوكول الاختياري في أي لحظة، لم يجد الترحيب الكافي من القوات المسلحة السودانية وحكومة الأمر الواقع، حيث اشترطت وزارة الخارجية السودانية تنفيذ قوات الدعم السريع مخرجات اتفاق جدة حتى توافق على القرار، بينما سارع مساعد القائد العام للجيش الفريق ياسر العطا إلى إعلان رفض الجيش للقرار خلال مخاطبته حشداً عسكرياً لحركة العدل والمساواة التي يتزعمها وزير المالية د. جبريل إبراهيم.
في المقابل وجدت الحركة الإسلامية السودانية ضآلتها في رفض الجيش للهدنة المقترحة من مجلس الأمن، فصرح أمينها العام علي كرتي من مخبئه لصحيفة "الشرق الأوسط" في العاشر من مارس الحالي، برفض حركته للهدنة، ثم عاد ونفى التصريح وكذَّب الصحيفة.
الدعم السريع وجد الفرصة سانحة أمامه في ظل الاتهامات التي تواجهه بارتكاب جرائم في ولاية الجزيرة ومناطق أخرى يسيطر عليها، فسارع إلى الترحيب بقرار الأمم المتحدة معلناً استعداده الكامل لتنفيذ الهدنة.
حمدوك في القاهرة
من التطورات اللافتة على المستوى السياسي، الدعوة التي وجهتها الحكومة المصرية لتنسيقية القوى المدنية الديمقراطية (تقدم) برئاسة الدكتور عبد الله حمدوك لزيارة القاهرة، ورغم محاولة بعض الإعلاميين التقليل من شأن هذه الزيارة، فإن اهتمام القيادة المصرية بوفد "تقدم" أكد بجلاء أن عملاً مختلفاً تتبناه مصر تجاه حرب السودان قد بدأ يتبلور.
ومن الواضح أن تغييرَ الموقف المصري وراءَه أيضاً زيارةُ القائد العام للجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان لطرابلس، ولقاؤه عبد الحميد الدبيبة ومرشد الإخوان في ليبيا الصداق الغرياني، وكذلك تحسن العلاقات المضطرد بين السودان وإيران الذي وصل حد دعم إيران الجيش السوداني بالطائرات المسيرة، في الوقت الذي يهدد فيه حلفاؤها الحوثيون الملاحة في مضيق باب المندب، وهو ما قلل عبور السفن من قناة السويس.
تحرير الإذاعة ونيات الإسلاميين
في اليوم الثاني للهدنة المقترحة من مجلس الأمن، حقق الجيش السوداني انتصاراً على قوات الدعم السريع وأعاد سيطرته على مباني الإذاعة والتلفزيون، وأدّت المسيَّرات الإيرانية (المهاجر-6) دوراً مهماً في حسم المعركة لصالح الجيش، وأظهرت مقاطع فيديو بثها مؤيدو الجيش بعد انتهاء المعركة حضوراً لافتاً لعناصر كتيبة البراء بن مالك الجهادية ومجاهدي الحركة الإسلامية.
لقد بدا الغرض من ذلك واضحاً، هو نسب الانتصار للحركة الإسلامية وتأكيد سيطرتها على الجيش وأنها وراء رفض الهدنة، وهو ما جعل البرهان يعجل زيارة المناطق المحررة وسلاح المهندسين لأول مرة منذ اندلاع الحرب.
من الواضح جداً أن الإخوان عملوا على تضخيم الانتصار في الإذاعة، والذي يعد هو الأول للجيش منذ اندلاع المعركة في 15 أبريل العام الماضي، وتحاول قيادات الحركة الإسلامية من خلال ذلك الضغط على الدعم السريع للقبول بتسوية سياسية تستبعد منها القوى الديمقراطية أو مواصلة الحرب.
عملية تحرير الإذاعة أخرجت نيات العسكريين إلى العلن، ففي 16 مارس أعلن عضو مجلس السيادة ومساعد القائد العام للجيش السوداني الفريق أول ياسر العطا، أن الجيش لن يسلم السلطة لقوى سياسية أو مدنية أو أحزاب من دون انتخابات. وأضاف العطا، في كلمة مصورة بثها تلفزيون السودان، أنه لا بد من فترة انتقالية يكون فيها القائد العام للجيش "رأسَ الدولة، ومشرفاً عليها"، تشارك فيها الأجهزة الأمنية وعلى رأسها الجيش والشرطة والأمن. العطا دعا للحفاظ على ما يسمى بالمقاومة الشعبية، في إشارة إلى المستنفرين الإسلاميين في صفوف الجيش.
أثار هذا الكلام ردود فعل غاضبة من قادة "الحرية والتغيير" الذي نددوا بالاستهداف الصريح الموجه ضدهم. واتفق كل من ياسر عرمان وخالد عمر في تصريحين منفصلين على أن حديث العطا كشف عن الباعث الحقيقي لهذه الحرب، وهو استعادة العسكر كاملَ السلطة بين يديهم، وعزل القوى المدنية المطالِبة بوقف الحرب والرافضة الانحيازَ لأحد الطرفين.
ونادى عرمان بضرورة تركيز الجهود لوقف الحرب أولاً ودون ربطها بالعملية السياسية في هذا التوقيت، وبمشاركة فاعلة من المدنيين وقوى التغيير وليس كما جرى في المنامة ومنبر جدة بمعزل عنهما، فيما شدد خالد عمر يوسف على أن أحد أهداف الحرب هو قطع الطريق أمام آمال التحول المدني الديمقراطي.
قبل ذلك بيوم نددت أحزاب "الأمة" و"البعث العربي الاشتراكي" و"الشيوعي" بمشروع تسوية سياسية قالوا إنه غير معلن يفضي إلى تقسيم السلطة بين أطراف النزاع، وأعلنوا رفضهم له. وقد عقد حزب الأمة القومي والحزب الشيوعي وحزب البعث العربي، لقاء في القاهرة، بحث فرص بناء تحالف سياسي وتطورات الأوضاع في السودان.
وقالت الأحزاب الثالثة في بيان مشترك، إن هناك "معلومات عن إعداد مشروع تسوية سياسية تؤسس لشمولية، يتم فيها تقاسم السلطة لمدة 10 سنوات بين الجيش والدعم السريع وأرتال من الحركات المسلحة وتنظيمات مدنية". وأعلنت رفضها القاطع لهذه التفاهمات، متعهدة باستعراضها وتبيين خطورة التماهي معها أو الصمت عليها.
أشار البيان إلى أن التدخلات الخارجية، التي تعمل على فرض شراكة مع العسكر، تحتم على القوى السياسية الوطنية تسريع بناء الكتلة السياسية الوطنية بالعمل مع القوى الرافضة للتسوية وللحرب وممارسات أطرافها.
على رقعة شطرنج
في سياق اهتمامها بالحرب في السودان، عينت الولايات المتحدة توم بيرييلو مبعوثاً خاصاً للسودان، ودانيال روبنستاين قائماً بالأعمال، وبحسب مقال للمحلل السياسي محمد جميل أحمد، نشر في "إندبندنت عربية"، ستجتهد واشنطن لإنهاء الحرب في السودان في إطار محاولات الرئيس جو بايدن تحقيق إنجاز قبل الانتخابات وقلق واشنطن من تجدد علاقات السودان مع إيران وتزويد الأخيرة لحكومة البرهان بمسيَّرات.
كلك ستشهد العاصمة الفرنسية في أبريل المقبل مؤتمراً خاصاً لمساعدة المتضررين من حرب السودان، يهدف إلى تسليط الضوء على هذه الأزمة الخطِرة للغاية، والتي يجب ألا ينساها المجتمع الدولي.
وقال مصدر مقرب من وزير الخارجية ستيفان سيجورنيه لصحافيين بينهم مراسل وكالة الصحافة الفرنسية: نحن نواجه أزمة هائلة على المستويين الإنساني والجيوسياسي.. تفكك السودان ستكون له عواقب كارثية على المنطقة بأكملها. وأضاف: في سياق الأزمات الدولية المتزايدة، نعتزم تسليط الضوء على هذه الأزمة الخطِرة للغاية والتي يجب ألا تذهب طي النسيان.
سيناريوهات متضاربة
رغم تعدد سيناريوهات الحل في السودان، فإن أبرزها:
- أن يسند الأمر بعد الحرب إلى حكومة مدنية ديمقراطية، وهذا الرأي تتبناه الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها في المحيط الإقليمي للسودان، وانضمت مصر إليه مؤخراً، ويعد السيناريو الأكثر حظوظاً الآن.
- نجاح الإخوان في الضغط على الدعم السريع بقبول حل ثنائي، خاصة أن هذا المقترح مدعوم من فرنسا وقطر وتركيا ودول أخرى ترى أن الحل في استقطاب الإخوان بأن يكون جزءاً منه.
- أن تستمر الحرب ويستقطب الإخوان مزيداً من الدعم الإيراني وكذلك الدعم من التنظيم العالمي حتى يحققوا النصر على الدعم السريع ويفرضوا الحل على طريقتهم، خاصة أنهم أظهروا قدراتٍ على تحريك أذرعهم كما حدث في تشاد مؤخراً، وإن فشلت المحاولة فهذا لا يعني أن حلفاءهم سينصاعون لمحمد ديبي وأن إنجمينا لن تهدأ ما دامت تقف في الحياد، وربما يتحرك الإخوان أيضاً للسيطرة على إفريقيا الوسطى لقطع طريق الإمداد عن الدعم السريع وإن كانت هذه الخطوة لن تجد التأييد من حليفهم الروسي.
كل هذه التقاطعات الإقليمية والدولية تشير إلى أن حلول الأزمة السودانية باتت خارج حدود السودان، وتحتاج توحيد المبادرات المختلفة وصولاً إلى وقف إطلاق النار.. في وقت تتدهور فيه الأوضاع الإنسانية في السودان وتتراجع كل يوم إلى حد بلغت فيه المعاناة أن يموت طفلٌ كل ساعتين في مخيم زمزم للنازحين بمدينة الفاشر حاضرة ولاية شمال دارفور.