تعيش نيجيريا في بيئة أمنية معقدة منذ مطلع القرن الحادي والعشرين؛ بسبب تمرد مجموعة بوكو حرام وعنفها الدموي، والتقلبات التي شهدتها الظاهرة الإرهابية في الدولة الإفريقية ذات العدد السكاني الأكبر في القارة، وما صاحبها من انتشار جماعات عابرة للحدود، تختلف استراتيجياتها وتكتيكاتها وأساليب عملها، لكنها تتفق في أجندتها العالمية، وهدفها النهائي المتمثل في إقامة دولة "الخلافة"، تحت سيطرتها ووفق تفسيرها الخاص للشريعة الإسلامية.
أبرز فصيلين ناشطين على الساحة النيجيرية خلال السنوات الماضية هما: جماعة "بوكو حرام" التي أطلقت شرارة العمل المسلح ضد الحكومة، في العقد الأول من القرن الجاري، وجماعة "ولاية غرب إفريقيا" المنبثقة عنها، وهي فرع تنظيم داعش في البلاد. وقد شهدت العلاقة بين الجماعتين منذ 2016 حالة من الشد والجذب والصراع المستمر، انتهت الآن إلى حرب شرسة تدور رحاه منذ أسابيع - بكثافة اعتبرت تقارير إعلامية أنها "غير معهودة" - من أجل السيطرة على معقل المتشددين في شمال شرق نيجيريا.
المعركة المستعرة، والتي تدور تحت أنظار الجيش النيجيري، وجيوش دول حوض بحيرة تشاد، المتضررة من الجماعات المتشددة، تثير أسئلة عديدة، بشأن بواعث الصراع بين الجماعتين المتشددتين في الوقت الحالي، ومحطاته الرئيسية، والتأثيرات الأمنية المحتملة له ارتباطاً بإمكانية استفادة دول المنطقة منه في تحييد خطر المتشددين، أو تحجيمه على الأقل، فضلاً عن السيناريوهات المتوقعة من سيطرة أي من الجماعتين على الأخرى، وانعكاس ذلك على البيئة الأمنية للمنطقة في النطاق الأوسع.
خلفيات الصراع
لفهم العلاقة المعقدة بين جماعة بوكو حرام، وتنظيم ولاية غرب إفريقيا، لابد من التوقف عند شخصيتين فاعلتين في المشهد الإرهابي في نيجيريا تحديداً، ودول المنطقة بشكل عام، هما أبوبكر شيكاو زعيم بوكو حرام الذي قتل في مايو 2021، وحبيب يوسف المعروف بأبي مصعب البرناوي القيادي البارز في ولاية غرب إفريقيا، وهو نجل مؤسس بوكو حرام محمد يوسف، وقد قتل بدوره بعد شيكاو بحوالي ثلاثة أشهر.
العلاقة التنافسية بين القيادِيَيْن البارزَيْن تلخص العلاقة الجدلية بين الجماعتين، فقد قفز أبوبكر شيكاو إلى واجهة المشهد في نيجيريا وقاد بوكو حرام، التي كانت تعرف بـ"جماعة أهل السنة للدعوة والجهاد"، مطلقاً حملة دموية ضد الحكومة وضد كل من يناصرها، أو على الأصح كل من لا يناصر الجماعة، بعد تصفية قائدها المؤسس محمد يوسف عام 2009 على يد قوات الأمن، بينما كان البرناوي حينها - الذي يرى نفسه الوريث الشرعي لزعامة الحركة - يتحفظ على قيادة شيكاو. ازداد تحفظ البرناوي مع الوقت وزادت بواعثه، بزيادة وحشية شيكاو التي بدأت تخصم من الرصيد الجماهيري للحركة، خاصة إثر تكرار حوادث الاختطاف الجماعي للفتياة، وتفجير الأسواق وحتى المساجد في شمالي البلاد.
الفجوة بين القائدين ظلت تتسع، ومع ظهور تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، وإعلانه في 2014 قيام دولة "الخلافة"، يبدو أن البرناوي وأنصاره رأوا في ذلك طوقَ نجاةٍ محتملاً من وحشية شيكاو، ووسيلة لتقزيم سلطته، فاندفعوا باتجاه بيعة قائد التنظيم حينها أبوبكر البغدادي، وهو ما تم بالفعل، حيث بُث في مارس 2015 شريط صوتي على حساب الجماعة بموقع التواصل الاجتماعي "تويتر"، يؤكد بيعة شيكاو للبغداد، في خضم بيعات مماثلة أعلنتها مجموعات مسلحة في عدد من الدول الإفريقية والآسيوية.
مبايعة بوكو حرام لتنظيم داعش لم تُنهِ الصراع بين جبهتي البرناوي وشيكاو، بل إن الأمور تعقدت بشكل كبير؛ حيث كانت التقارير تشير إلى أن البرناوي وباعتباره متحدثاً باسم الجماعة حينها، عمل على تحييد شيكاو إعلامياً، وحاول إظهار أن مستوى العنف الذي تميزت به الحركة تحت قيادته وخاصة العنف تجاه المسلمين ليس مقبولاً من طرف قيادة داعش الأم، قبل أن ينفصل الطرفان عام 2016، ليخرج إلى العلن تنظيم "ولاية غرب إفريقيا" بشكل مستقل عن بوكو حرام، ثم يبدأ صراع دموي بين الطرفين، أسفر بعد محطات عديدة عن مقتل شيكاو، وسيطرة البرناوي شبه المطلقة على بوكو حرام، قبل أن يقتل هو أيضاً في عملية غامضة، بدا أنها ثأر من طرف أنصار شيكاو الذين لم يعترفوا بقيادة البرناوي، وتكتلوا خلف باكورا مودو القائد الجديد للحركة، الذي توعد بعد أيام من توليه القيادة بالانتقام لمقتل شيكاو واصفاً إياه بـ"الإمام".
استمرار الصراع
لم تضع الحرب بين الإخوة الأعداء، جماعة بوكو حرام، وصنوها، تنظيم ولاية غرب إفريقيا، أوزارها بمقتل أبوبكر شيكاو ثم أبو مصعب البرناوي خلال عام 2021، بل استمرت سجالاً، وتحول ما كان يعتبر عداء شخصياً وربما اختلافاً أيديولوجياً بين الرجلين، إلى مستوى آخر من الصراع أكثر عمقاً، تجسد في محاولة الهيمنة وبسط النفوذ من طرف الفصيل التابع لتنظيم داعش، والتشبث بالبقاء وإثبات الوجود بالنسبة للفصيل المحلي الأم، بوكو حرام.
معارك الطرفين، التي لا تهدأ إلا لتعود مجدداً، تمتد في عدة ملاذات من غابة سامبيسا الشهيرة معقل أبوبكر شيكاو قبل مقتله، والتي تبلغ مساحتها 6,000 كيلومتر مربع، والممتدة عبر شمال وشرق نيجيريا، إلى منطقة غوزا الجبلية قرب الحدود مع الكامرون، ثم إلى غابة ألاجارنو الكثيفة، وحوض بحيرة تشاد الذي تمتد شواطئه بين نيجيريا والنيجر والكاميرون وتشاد، ويشمل مساحة شاسعة من المياه والجزر الصغيرة والمستنقعات، وهي مناطق تسمح السيطرة عليها بقطع الطريق السريع الرئيس المؤدي إلى مايدوجوري، عاصمة ولاية بورنو النيجيرية.
الجولة الحالية من الصراع تصاعدت في 19 فبراير الماضي، حين اقتحم مقاتلون من بوكو حرام معسكرات لتنظيم والية غرب إفريقيا، في تومبون غيني، بعد أن أطلق أبوبكر قناي، وهو أحد كبار قادة بوكو حرام بمساعدة اثنين من أعوانه، هجوماً على جزيرتين يسيطر عليهما داعش، واقتحموا سجناً وأفرجوا عن العديد من المعتقلين والرهائن، الأمر الذي أدى إلى مقتل المئات، لاسيما في قريتي جيرير وجمعة تورو قرب الحدود مع النيجر، وأجبر في النهاية الفصيل الموالي لداعش على التخلي عن بعض مواقعه، في ظل استقدام المهاجمين تعزيزاتٍ عسكريةً من معقلهم الواقع على جانب النيجر من بحيرة تشاد. في المقابل نفذت ولاية غرب إفريقيا هجماتٍ داميةً على معسكرات بوكو حرام قرب غابة سامبيسا، ما أسفر عن سقوط قتلى وفرار بعض المقاتلين، حيث استسلم المئات منهم رفقة عائلاتهم للجيش النيجيري، فضلاً عن استسلام بعضهم وانضمام البعض الآخر لداعش خوفاً من التصفية.
هذه العمليات تتم تحت أنظار جيوش دول المنطقة التي تراقب الوضع عن كثب. وبهذا الخصوص نقلت وكالة الأنباء الفرنسية، في السابع عشر من مارس 2023 عن مصدر في الاستخبارات النيجيرية قوله: "نحن على علم بالمعارك الدائرة بين الإرهابيين، وهو أمر جيد بالنسبة إلينا، وبالتالي نراقب لنرى كيف سيتطور الوضع (..) من الصعب إعطاء حصيلة تشمل الجانبين، لكن الأرقام هائلة. نتحدث عن أكثر من 200 قتيل، فقط في جمعة تورو".
على الطرف الآخر من الحدود تمارس النيجر ضغوطاً متزايدة على الجماعات المتشددة، حيث أعلنت في الثاني والعشرين من مارس قتلَ وتوقيفَ العشرات من عناصر بوكو حرام، في إطار عملية على الحدود مع نيجيريا تهدف إلى قطع خطوط الإمداد، بعد أن أعلنت قبلها توقيفَ ما مجموعه 1121 شخصاً يشتبه في أنهم أفراد من بوكو حرام، بينهم نساء وأطفال، وتسليمَهم إلى السلطات في نيجيريا.
سيناريوهات
ارتباطاً بالنقاش السابق، يمكن استشراف مستقبل الصراع المحتدم بين جماعة بوكو حرام، وفصيل ولاية غرب إفريقيا المنشق عنها في نيجيريا، وتأثيراته على البيئة الأمنية في المنطقة، وفق السيناريوهات التالية:
السيناريو الأول، القضاء على الجماعات المتشددة:
يقوم هذا السيناريو على افتراض أن المعركة بين بوكو حرام وفصيل ولاية غرب إفريقيا ستنهك الطرفين، ثم يتحرك الجيش النيجيري، والقوات المشتركة لدول حوض بحيرة اتشاد؛ من أجل الإجهاز على ما بقي من قوة لدى الجماعتين. هذا السيناريو وإن كان وارداً من الناحية النظرية إلا أنه في الواقع مستبعد، في ظل التجارب السابقة، التي أبانت عن عدم فعالية جيوش دول المنطقة في مواجهة الجماعات المتشددة، فضلاً عن قدرة تلك الجماعات على التكيف مع الظروف الصعبة.
السيناريو الثاني، تقوية تنظيم داعش:
يقوم هذا على افتراض سيطرة تنظيم ولاية غرب إفريقيا التابع لداعش على معاقل بوكو حرام، وضم من بقي من مقاتليها إلى صفوفه، الأمر الذي سيشكل تهديداً قوياً لدول المنطقة، حيث يمكن لولاية غرب إفريقيا جذب تعاطف محلي في بعض المناطق النيجيرية، من خلال التراجع عن بعض السياسات القاسية التي كانت تتبعها بوكو حرام. هذا السيناريو وإن كان وجيهاً في ظل ميل ميزان القوى لصالح ولاية غرب إفريقيا، إلا أنه ليس مرجحاً، في ظل استماتة القادة المحليين لبوكو حرام في القتال وتمسكهم بالحركة.
السيناريو الثالث، استمرار الوضع الحالي:
في ظل استبعاد السياناريو الأول وعدم ترجيح الثاني، يمكن القول إن المعادلة الحالية في علاقة بوكو حرام وولاية غرب إفريقيا ستستمر دون تغير جوهري، كما سيستمر الوضع في علاقة الطرفين بدول المنطقة، فلا قدرة لأي من الجماعتين المتشددتين على القضاء على الأخرى، ولا دول المنطقة تمتلك الاستراتيجيات والوسائل اللازمة لاجتثاث الحركتين. على الرغم من ترجيح استمرار هذا الوضع في المدى المنظور، إلا أن أي تغيرات في دول المنطقة، قد تؤثر على المعادلة، وتدفع الأحداث في مسارات مغايرة.