لم يكن مستغربا أن تكون زيارة السلطان هيثم بن طارق، سلطان عُمان إلى مصر وإيران في شهر مايو الماضي تنطوي على شق خاص بتعميق التقارب بين القاهرة وطهران. وقد تحدثت وسائل الإعلام العربية عن ترحيب الرئيس "عبد الفتاح السيسي" بذلك (روسيا اليوم: 25 مايو 2023)، ونقلت وسائل إعلام رسمية إيرانية، عن المرشد الأعلى في إيران علي خامنئي، قوله خلال لقائه بسلطان عمان إن طهران ترحب بتحسين العلاقات الدبلوماسية مع مصر. كما رحب وزير الخارجية الإيراني "حسين أمير عبد اللهيان" بنتائج زيارة السلطان إلى مصر قائلا "بلغنا أنباء عن محادثات السلطان مع الرئيس المصري حول تحسين العلاقات مع إيران، وتأكدنا من عدم وجود أي مشكلة بين البلدين، فضلا عن إعجابنا بالمواقف الحكيمة للسلطات المصرية حيال تطورات السنوات الأخيرة في المنطقة، لا سيما مكافحة داعش ومعالجة ملف سوريا" (CNN: 13 June 2023).
كذلك تطلع رئيس الوزراء العراقي "محمد شياع السوداني"، حينما زار القاهرة خلال شهر يونيو الماضي، أيضا إلى معرفة رأي القاهرة حول إمكانية رفع مستوى العلاقات مع طهران، لما فيه من فائدة ستدعم بعض الملفات الإقليمية (وكالة أنباء فارس: 11 يونيو 2023). وكانت العراق تحاول دفع طهران أيضا إلى التفكير في تلك الخطوة، فقبل أن يطرح "السوداني" الفكرة على مصر، أبدى خلال لقائه في الأردن مع وزير خارجية إيران على هامش الدورة الثانية لمؤتمر بغداد للتعاون والشراكة، الرغبة في بدء مباحثات بهذا الشأن، وقد أعرب "اللهيان" عن إعجابه بالفكرة (وكالة أنباء الشرق الأوسط: 24 ديسمبر 2022).
ردود الأفعال المصرية الإيرانية
في غياب ردود فعل رسمية مصرية، قال السفير "محمد العرابي" وزير الخارجية الأسبق، في لقاء تليفزيوني "لا توجد مشكلة قائمة الآن بين مصر وإيران، وهناك قائم بالأعمال بدرجة سفير في كلا البلدين". ولفت إلى أن المحددات التي تحكم العلاقات السعودية الإيرانية تختلف عن تلك التي تحكم العلاقة المصرية الإيرانية، فإيران متداخلة بشكل مكثف في الشأن الداخلي للعديد من الدول المجاورة للسعودية، ولكن الوضع يختلف مع مصر (جريدة المصري اليوم: 21 مايو 2023).
وجاء الموقف الإيراني أكثر وضوحا، فقد أشاد "محمد حسين سلطاني فر" رئيس مكتب رعاية المصالح الإيرانية في القاهرة، بموقف مصر المعارض لمشروع تحالف أميركي ضد إيران. وقال إن التطورات الراهنة تقتضي تطوير العلاقات الثنائية (Iran News Daily: 17 June 2023). كما أشار وزير الخارجية إلى إمكانية عودة العلاقات وتطويرها مع مصر، خلال استقباله سفراء ورؤساء البعثات الدبلوماسية للدول الإسلامية بمناسبة عيد الأضحى. كذلك أوضح رئيس الجهاز الدبلوماسي الإيراني أن من أولويات السياسة الخارجية لحكومة "رئيسي" العمل على تطوير العلاقات والعودة إلى حالتها الطبيعية مع مصر (وكالة أنباء فارس: 29 يونيو 2023). وأكد مستشار قائد الثورة الإسلامية للشؤون الدولية "علي أكبر ولايتي"، على أن تطبيع العلاقات بين البلدين سيضفي توازنا جديدا على المنطقة (فارس: 3 يوليو 2023).
جذور الأزمة
انهارت العلاقات المصرية الإيرانية بعد الانقلاب الإيراني في عام 1953 الذي شهد عودة الشاه "محمد رضا بهلوي" إلى السلطة، واتخاذه نهجا إيجابيا تجاه إسرائيل في عام 1960، ما أثار غضب مصر التي قامت بطرد السفير الإيراني، وردت طهران بالمثل. ومنذ ذلك الحين توترت العلاقات بشكل تصاعدي. وكشف السيناتور الأميركي من أصول إيرانية "سهراب سبحاني" الأستاذ السابق في جامعة جورج تاون في رسالته الجامعية أن الرئيس "جمال عبد الناصر" قام بتمويل "آية الله الخميني" في مايو 1963 للإطاحة بالشاه (Sobhani, Israeli-Iranian Relations, PHD, p.75, 76)، ولكن بعد وفاة "ناصر" عام 1970، قرر الرئيس "محمد أنور السادات" إعادة العلاقات بشكل أكثر انفتاحا، ولكن بعد نجاح الثورة الإسلامية في عام 1979، تحولت العلاقات إلى العداء الشديد بعد شاه إيران في القاهرة وحمايته (راجع: سعيد الصباغ، العلاقات المصرية الإيرانية بين الوصال والقطيعة 1970-1981، القاهرة: دار الشروق 2007).
ولكن في عام 1994 تقرر فتح مكتب لرعاية المصالح الإيرانية في القاهرة، دون تحسن للعلاقات التي اتسمت بالمد والجذر حتى تراجعت تماما خلال حرب غزة 2008. والتي لم تبدأ في التحسن بشكل ملحوظ إلا بعد تخلي الرئيس "محمد حسني مبارك" عن السلطة في فبراير 2011، حيث أكد "نبيل العربي" وزير الخارجية آنذاك على أن إيران ليست عدوا لمصر (المصري اليوم: 25 يوليو 2011).
وبعد فترة وجيزة من زيارة الرئيس "محمد مرسي" لإيران في أغسطس 2012، تقرر إعادة العلاقات الدبلوماسية بالكامل، وتم ترشيح أول سفير لتمثيل مصر في إيران، وبدأت العلاقات تتحسن بشكل مطرد بين البلدين. ولكن بعد الإطاحة بالرئيس "مرسي" انتقدت طهران موقف الجيش المصري الداعم للثورة الشعبية، فتوترت العلاقات بشدة (BBC: 7 July 2013). ولكن في أعقاب الاتفاق السعودي الإيراني الذي تم التوصل إليه بوساطة صينية، بدأ الحديث يزداد بكثافة حول وساطات عربية لرفع مستوى العلاقات، وسط مدح إيراني للقيادة المصرية، وصمت مصري حذر.
لماذا يرغب المصريون في تحسين العلاقات؟
يبدو أن القاهرة تتعامل مع هذه القضية في ضوء محدداتها السياسية، خاصة وأن طهران تسعى للتواصل مع القاهرة على غرار النموذج التركي. وقد اتضح من تصريحات مسئوليها أنها تريد استغلال أي مناسبة لإرسال رسالة مفادها أنها منفتحة على مصر بوجه خاص، وعلى المنطقة كلها عموما، والقاهرة تدرك ذلك تماما. وحتى الآن لا توجد خطوة رسمية نحو هذا الموضوع سوى أحاديث دون تأكيدات عن تشكيل لجان مشتركة لبحث سبل تطوير العلاقات.
ومن المعروف أن العلاقات المصرية الأميركية تأزمت بعد مجيء الإدارة الديمقراطية إلى الحكم، ودعمها لجماعة الإخوان، وتقليصها المساعدات السنوية للقاهرة بمقدار 400 مليون دولار تحت ذريعة حقوق الإنسان، مما أثار غضب الجيش المصري. وأدى ذلك إلى رغبة مصر في عدم وضع كل بيض سياستها الخارجية في السلة الأميركية، فاختارت التقارب مع روسيا والصين، بالتالي فلا مانع من التقرب إلى إيران لأن واشنطن هي التي كانت تعارض إعادة العلاقات مع طهران دائما (فارس: 7 يونيو 2023)
على الصعيد الشعبي، لم يكن هناك توافق حول مسألة قبول الجمهور لقرار تعيين سفير إيراني في مصر، فالأمر كان يحمل نقاشات حول الاختلاف في العقيدة والخوف من محاولة إيران لزج أفكارها الدينية وسط نشاطات تطبيع عديدة، خاصة وأن مصر تحتضن عشرات الأضرحة لآل البيت. ولقياس مدى القبول الشعبي لإيران قامت BBC بعمل استطلاع رأي في عام 2013، كانت نتيجته أن الميول الإيجابية تجاه إيران ضعيفة للغاية، وانخفضت 12 نقطة عن استطلاع عام 2012 لتصل إلى 15٪، في حين أن التصورات السلبية أصبحت مرتفعة بنسبة 48٪ (BBC World Service Poll, 22 May 2013, p.31).
شروط مصرية محتملة
يرى الخبير في الشؤون الإيرانية بمركز الأهرام "محمد عباس ناجي" أن الموقف المصري حتى الآن يمكن وصفه بالمتأني، ولم يتم الإعلان حتى الآن عن أي شروط، فسلوك إيران لابد من أن يوضع في موضع الاختبار بعد اتفاقها مع السعودية، وتقييم مدى استعدادها لتغيير سلوكها والمساهمة في حل الأزمات بدلا من تعقيدها. وفي حالة التأكد من حسن النوايا، يجب أن تطلب مصر مساعدة طهران لها في تحقيق الاستقرار بالمنطقة، إضافة إلى اتخاذ خطوات إيجابية في الملف الفلسطيني، فلا تدعم التصعيد بأي شكل من الأشكال، وكلما كان التغيير في السلوك إيجابيا ستتطور العلاقات (اندبندنت العربية: 26 مايو 2023).
وثمة بعض الشروط المصرية التي تناقلتها بعض المصادر الإعلامية، لكنها حتى الآن دون تأكيدات رسمية، وتتمثل في تخفيف السلوكيات الإيرانية تجاه دول الخليج، والحد من الدور التحريضي لطهران في أزمات المنطقة، فضلا عن منع التدخل الإيراني في الشؤون الداخلية لمصر ودول الجوار، مثل العراق وسوريا واليمن ومصر، والتوقف عن دعم الميليشيات، وتشجيع المد الشيعي، وتصدير الثورة الإيرانية.
تحليل الموقف الإيراني
تولي إيران المصلحة السياسية الناجمة عن تطبيع العلاقات مع مصر أهمية كبيرة، والأمر يندرج هنا في إطار سياسة الجوار التي تتبعها، حيث يمكن أن يشكل هذا ثالث نجاح تسجله السياسة الخارجية بعد الانضمام لمنظمة شانغهاي وإحياء العلاقات مع السعودية. كل ذلك يخفف وطأة الضغوط الغربية والأميركية ضدها. خاصة وأن الغرب وضع كل ثقله خلال العامين الأخيرين لفرض العزلة عليها وحصرها في زاوية لا تستطيع الفكاك منها في مفاوضات إحياء الاتفاق النووي، وبالتالي تسعى طهران لتغيير هذه الأوضاع عبر المبادرات الإقليمية (وكالة أنباء فارس: 7 يونيو 2023).
في حوار أجرته وكالة "نگاه نو" الإيرانية مع "محمد حسين سلطاني فر" رئيس مكتب رعاية مصالح إيران في مصر، ذكر أنه "إذا حدث هذا التقارب، فسوف نشهد تأثيرا إيجابيا على العلاقات العربية الإيرانية. ولا شك أن الاتفاق مع السعودية سيكون له تأثير جيد، لكنه لن يماثل التفاهم مع القاهرة، ولن يأتي في السياق نفسه" (وكالة "نگاه نو" الإيرانية: 1 يونيو 2023).
ترقب دولي
تترقب الكثير من الدول مصير جهود التطبيع بين الدولتين صاحبتي الثقل، تاريخيا وعسكريا وسياسيا، إذ حذر زعيم المعارضة الإسرائيلية "يائير لبيد" من التقارب بينهما، وقال إنه يتعارض مع المصالح الإسرائيلية والإقليمية.
ونقلت الأستاذ المساعد في العلاقات الدولية بجامعة ميرلاند الأميركية "مروة مزيد" وجهة النظر الأميركية، موضحة أن رصد سياسات مصر الخارجية منذ ثورة 2011 يؤكد أن لها استراتيجيات بعيدة المدى في المنطقة تتحقق من خلال حلفاء آخرين صاعدين، مثل السعودية والإمارات. وإن مصر تتحرك في ذلك بشكل بطيء ومتأن. ولذلك فإن التطبيع المصري الإيراني لا يبدو أنه سيتم في المدى القريب جدا، وربما تلعب الصين دورا في تحقيقه.
وترى "مزيد" أن الإيرانيين يبدون حريصين جدا، ويدفعون بإلحاح لإعادة العلاقات، وتقول إنه في حالة نجاح تلك الخطوة ستدفع مصر جهودها نحو "إعادة تأهيل النظام الإيراني"، موضحة أن القاهرة تعطى نموذجا ناجحا لدولة ذات أغلبية مسلمة، بها جيش دفاع قوي، لكن لا تصدر أيديولوجيات تخيف جيرانها وتمثل لهم تهديد (اندبندنت العربية: 26 مايو 2023).
خاتمة
الواضح أن وساطة العراق وعمان أتت ثمارها، وبدأت أروقة السياسة الإيرانية تأمل في أن تتشكل محاور إقليمية جديدة بعد التطبيع مع مصر والسعودية، وبذلك يمكنها تحسين علاقاتها مع الدول العربية الأخرى. فلا بديل عن التفاهم للحد من تكالب القوى الدولية على مقدرات الشرق الأوسط. ولكن قبل البدء في محادثات من شأنها إعادة العلاقات المصرية الإيرانية، يجب على القاهرة تبريد كافة الملفات الساخنة مع طهران أولا. وأن تكون حريصة على اتخاذ خطوات دبلوماسية بطيئة، كي لا تلفت الأنظار إليها بشكل سلبي من واشنطن وتل أبيب.
ولو افترضنا أن الهدف المصري من رفع مستوى العلاقات مع إيران هو تجديد العرض الإيراني القديم لإدارة مرسي بجلب استثمارات إيرانية لتحسين الاقتصاد المصري المرتبك، فضلا عن زيادة أعداد السياح الإيرانيين لدعم قطاع السياحة، وما إلى ذلك، فإن القيادة المصرية إذا كانت تراهن على ذلك، فإنها قد تغامر بعلاقاتها مع الغرب في سبيل الخروج من كبوة يعاني منها العالم كله دون استثناء. وبالتالي يلزم عليها التأني في رسم شكل العلاقات الجديدة، وتحديد الهدف الحقيقي منها، وجعلها أكثر توازنا، وأقل تدخلا في الشئون الداخلية المصرية والعربية.
وأخيرا، يبدو أن الحذر المصري في التصريحات حول المسألة جاء نتيجة القلق من تلك التوترات القديمة التي غلفت العلاقات بين البلدين. أما التعجل الإيراني الواضح في التصريحات، فمن الممكن تفسيره بأنه رغبة ملحة في الخلاص من الضغوط الغربية بتأسيس تحالفات إقليمية جديدة، كنوع من محاور المقاومة. وعلى أية حال، فلا يمكن أن تطمئن القيادة المصرية إلى نوايا إيران ومساعيها إلى المصالحة الشاملة بين يوم وليلة بعد نحو ثلاثة عقود من التوتر.