خلال عام ونصف منذ أن تولى الرئيس "جو بايدن" منصبه، اشتدت المنافسة بين الولايات المتحدة والصين. وبدلا من تفكيك سياسات الرئيس السابق "دونالد ترامب" المتشددة تجاه بكين، واصل "بايدن" هذه السياسات إلى حد كبير. أكد بايدن أن القوتين تتجهان بالتأكيد إلى فترة طويلة من التنافس الاستراتيجي الحاد والخطير عسكريا. لكن هذا لا يعني أن الولايات المتحدة والصين تتجهان بلا هوادة نحو الأزمة أو التصعيد أو الصراع أو حتى الحرب. فعلى العكس من ذلك، ربما تتلمس بكين وواشنطن مجموعة جديدة من ترتيبات الاستقرار.
وقد ولّد الغزو الروسي لأوكرانيا أول أزمة بين القوى العظمى منذ عقود. فمثل هذه الأزمات نادرة ومرعبة في العصر النووي. لكن بدلا من بذل الجهود لتفاديها، تتعاظم الخلافات يوما بعد يوم بما يهدد استقرار العالم ومستقبل البشرية. فهل يكون اللقاء الذي جرى بين زعيمي الولايات المتحدة والصين على هامش قمة العشرين G20 في بالي بداية لتقريب وجهات النظر وتفادي الخلافات، وتعزيز للدبلوماسية تجاه منطقة آسيا والمحيط الهادئ. وهل ستنجح كل من بكين وواشنطن في اختبار قدراتهما على عكس هذا التدهور الدراماتيكي في العلاقات الأمريكية الصينية؟
على هامش اللقاء
لمدة ثلاث ساعات، اتخذ الرئيس "بايدن" والزعيم الصيني "شي جين بينغ" خطوة مهمة نحو تحقيق الاستقرار، بعد أن أصبحت العلاقات مشحونة بشكل متزايد. واجتمعا سويا لمناقشة العديد من القضايا المعلقة بين البلدين.
وفي تصريحات للصحفيين نشرتها الوكالات بعد لقاء الزعيمين يوم الاثنين 14 نوفمبر، قال "بايدن" إن الزعيمين كانا صريحين للغاية مع بعضهما البعض، بشأن مجموعة من الموضوعات التي تحتاج إلى إجراء مزيد من المناقشات بين كبار المسؤولين. وأضاف إنه لا داعي لقيام حرب باردة جديدة بين الولايات المتحدة والصين. كما اتفقا على ضرورة زيارة وزير الخارجية الأميركي "أنطوني بلينكين" للصين في وقت ما في أوائل العام المقبل.
وفي المقابل كتبت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية "هوا تشون ينغ"، على تويتر، ن الزعيمين وجها معاونيهم للمتابعة الفورية وتنفيذ التفاهمات المشتركة التي تم التوصل إليها بينهما، واتخاذ إجراءات ملموسة لإعادة العلاقات الصينية الأمريكية إلى مسارها الصحيح، بعد أن شهدت تبخر الثقة وتفاقم الخلافات عبر مجموعة من القضايا، من التجارة والتكنولوجيا إلى تايوان. وجاءت تصريحات "شي" التي نشرتها وكالة الأنباء الصينية الحكومية (شينخوا) فور انتهاء اللقاء، تؤكد على ما ذكره "بايدن"، حيث ذكر أنه لا ينبغي أن تكون العلاقات الصينية الأمريكية لعبة محصلتها صفر، يغلب عليها منطق الخسارة والفوز. وأنه مستعد لإجراء حوار صريح لبحث العلاقات الاستراتيجية المهمة بين البلدين، حيث قال "نحن بحاجة لتصحيح مسار علاقاتنا الثنائية".
واتفق الزعيمان على أدرج القضايا العالمية، مثل التجارة والمناخ وتخفيف الديون والأمن الصحي والأمن الغذائي، كمجالات يمكن أن يناقشها كبار المسؤولين في البلدين، للحفاظ على التواصل وتعميق الجهود البناءة.
حول أزمة تايوان
من الواضح أن اختلاف وجهتي النظر بين واشنطن وبكين حول أزمة تايوان استمر أثناء اللقاء. فالصين تعتبر تايوان جزءا لا يتجزأ من الصين، وتأمل في توحيد الجزيرة سياسيا معها. وفي اللقاء أعرب "شي" عن أمله في أن يكون ضم تايوان سلميا، لكنه يستبعد الاستخدام المحتمل للقوة. وأبلغ نظيره الأميركي أن تلك القضية هي الخط الأحمر رقم واحد الذي لا يمكن تجاوزه، فهي قضية يتعين على الشعب الصيني حلها. أما "بايدن" فقد أكد خلال اللقاء أن سياسة الولايات المتحدة لم تتغير تجاه تايوان، وأنها لا تدعم تغيير الوضع الراهن من أي من الجانبين. حسب ما نشره موقع الإذاعة الوطنية الأمريكية NPR. وقال للصحفيين إنه لا يعتقد أنه ستكون هناك أي محاولة وشيكة من جانب الصين لغزو تايوان.
ومن الواضح أن اللقاء لم يحسم المسألة، وهو ما كان يتوقعه الخبراء قبل اللقاء، حيث كتب "ديميتري سيفاستوبولو" في تقريره المنشور في صحيفة "فاينانشيال تايمز"، 12 نوفمبر، أنه من الصعب تخيل كيف يمكن للجانبين التوصل إلى أي حل وسط بشأن تايوان، والتي ظهرت باعتبارها القضية الأكثر إثارة للجدل في العلاقات الأمريكية الصينية.
إن "بايدن" يحاول من خلال لقائه بشي طمأنته بأنه لم يغير سياسة وحدة الصين، والتي بموجبها تعترف واشنطن ببكين باعتبارها الحكومة الوحيدة للصين، لكنها في الوقت ذاته تعترف، دون أن تؤيد موقف بكين بأن تايوان جزء من الصين.
اختبارات جديدة لكوريا الشمالية
وحول كوريا الشمالية، التي اختبرت مؤخرا صواريخها الباليستية، وربما تستعد لتجربة نووية جديدة، أعرب "بايدن" عن تشككه في قدرة الصين على السيطرة على بيونغ يانغ. لكنه اعتقد أن على بكين التزام بمحاولة ثني كوريا الشمالية عما تفعله.
وكانت كل من الولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية قد تعهدوا يوم 13 نوفمبر برد قوي وحازم على أي اختبار نووي قد تجريه كوريا الشمالية، بعد أن أثارت سلسلة التجارب الصاروخية الأخيرة التي أجرتها كوريا الشمالية مخاوف من إجراء اختبار نووي للمرة السابعة قريبا. وحسب ما نشرت روسيا اليوم، أصدر رؤساء الدول الثلاث بيانا مشتركا، أدانوا فيه الاختبار الكوري الشمالي الأخير الذي تخلله إطلاق صاروخ باليستي عابر للقارات. وأكدوا مجددا أن أي اختبار نووي سيقابل برد قوي وحازم من المجتمع الدولي.
وقد وضع "بايدن" هذه المسألة ضمن أولويات النقاط التي ناقشها مع "شي"، وحسب ما نشرت إذاعة NPR، أخبر الرئيس الأميركي نظيره الصيني في قمة العشرين أن الولايات المتحدة ستفعل ما تحتاجه للدفاع عن نفسها وحلفائها، وقد يعني حديث "بايدن" أن بلاده ستكون أكثر صدارة في مواجهة الصين، وأنها يمكن أن ترد على استفزازات كوريا الشمالية من خلال تعزيز الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة، وهو ما يتعارض مع صورة الصين في قارة آسيا ومكانتها.
المسألة الأوكرانية
يبدو أن الحرب في أوكرانيا شغلت جزءا من جدول أعمال قمة العشرين، حيث تم دعوة الرئيس الأوكراني "زيلنسكي" للمشاركة عبر الفيديو. فالحرب في بلاده أثرت على اقتصاد العالم كله بلا استثناء. إلا أن تركيز الرئيس الأمريكي في أثناء لقاءه مع نظيره الصيني ينصب حول عدم تحول المعركة في كييف إلى حرب نووية، ولم يتحدثا عن آليات إنهاء هذه الحرب من الأساس.
وقال البيت الأبيض في بيانه، الاثنين 14 نوفمبر، إنهما أكدا مجددا اتفاقهما على أنه لا ينبغي أبدا خوض حرب نووية لا يمكن الفوز بها أبدا، وأنهما يعارضان الاستخدام أو حتى التهديد باستخدام الأسلحة النووية في أوكرانيا.
علاقات تجارية مضطربة
وحسب ما نشرته أسوشيتد برس في 13 نوفمبر، ترغب بكين في أن ترفع واشنطن الرسوم الجمركية التي فرضها الرئيس السابق "دونالد ترامب" في عام ٢٠١٩، والتراجع عن القيود المتزايدة المفروضة على حصول الصين على بعض المواد التقنية الأمريكية، خاصة وأن "بايدن أضاف قيودا أخرى على الوصول إلى التكنولوجيا الأمريكية، التي يقول مسؤولون في واشنطن إنه يمكن استخدامها في تطوير الأسلحة. وكلها أمور اتفق الزعيمان أثناء اللقاء على تركها كمجالات يمكن أن يناقشها كبار المسؤولين في البلدين خلال الفترة المقبلة.
وكان الخبراء الصينيون متشائمين بشدة خلال الفترة الماضية. حيث قال "وو شينبو" عميد معهد الدراسات الدولية في جامعة فودان لفاينانشيال تايمز في 2 نوفمبر، إن القضايا الأمنية والاقتصادية كانت ركائز منفصلة في العلاقات الثنائية في الماضي، لكن الآن أصبحت القضايا الاقتصادية خاضعة للمخاوف السياسية والأمنية.
خاتمة تحليلية:
يبدو أن "بايدن" خلال اللقاء لم يقدم أي تنازل، أو حتى احتمال أن يفعل ذلك مستقبلا، فقد حاول فقط أن تظهر الولايات المتحدة كقوة عظمى من جديد، بفرض وجهات النظر الأمريكية حول العديد من القضايا، ومحاولة كسب حليف جديد يضمن تحقيقها. فضلا عن محاولته فهم موقف الرئيس الصيني، والسعي إلى تحديد خطوط حمراء واضحة لا تتعداها الصين، ومعرفة ما يعتبره "شي" قضايا تمس المصلحة الوطنية الصينية، وإيضاح ما تعتبره واشنطن مصالح قومية أمريكية. قال "بايدن" للصحفيين فور انتهاء اللقاء إنه لم يجد "شي" أكثر تصادمية ولا تصالحية مما كان عليه في الماضي. وأضاف: "هل أعتقد أنه مستعد لتقديم تنازلات في مختلف القضايا؟ نعم". وهو هنا لم يذكر أن واشنطن مستعدة لتقديم أي تنازلات في المقابل.
لقد خلقت السياسات والتحركات الصينية توترا في العلاقات بين بكين وواشنطن وأوروبا وجيران الصين الآسيويين. وعلى الرغم من موافقة الزعيمين على إجراء مزيد من المناقشات خلال الفترة المقبلة، ولكن بدا أن جزءا كبيرا من الاجتماع كان عبارة عن سلسلة من تبادل وجهات النظر حول المجالات التي يختلف فيها الطرفان، والتي تسببت في حدوث هذا التوتر.
ويبدو أن دعوة "بايدن" لهذا اللقاء كانت تستهدف في الأساس إلى إدارة المنافسة الناشئة بين الجانبين بمسؤولية، لإظهار أن الصين والولايات المتحدة يمكنهما التعامل مع الخلافات، ومنع المنافسة من أن تصبح صراعا، وإيجاد طرق للعمل معا بشأن القضايا العالمية الملحة. ولكن تصريحات "بايدن" بعد اللقاء، لا تظهر أن الجانب الأمريكي مستعد للتنازل عن أي شيء. ويمكننا أن نرجح أن مجرد الحديث بوضوح حول النقاط الرئيسية التي أثيرت أثناء اللقاء بين الزعيمين، وفتح المزيد من خطوط الاتصال الأمريكية مع الصين خلال الفترة المقبلة هو شيء إيجابي من الممكن أن يبطئ هذا التدهور في العلاقات بين البلدين، بما يضمن بعض الاستقرار وعدم التصعيد في العديد من الملفات الدولية الحساسة، كالحرب في أوكرانيا، والمسألة الكورية، فضلا عن أزمة تايوان.