في السابع والعشرين من يناير 2024، عُقدت الجولة الأولى من الحوار الثنائي بين العراق والولايات المتحدة الأمريكية حول إنهاء الوجود الأمريكي ومهمة التحالف الدولي لمحاربة داعش. جرى الحوار وسط تزايد التصعيد بين القوات الأمريكية الموجودة في العراق والمليشيات الموالية لإيران هناك، مما يطرح أسئلة عديدة حول آفاق هذا الحوار وتأثير الانسحاب الأمريكي المفترض في ظل هشاشه الوضع الأمني والسياسي في البلاد نتيجة لتنامي دور المليشيات وبقاء تهديدات تنظيم داعش.
الجولة الأولى من الحوار الأمريكي - العراقي انتهت بالتأكيد على ضمان "سلامة" الجنود الأمريكيين، واتفاق على جدول زمني للانسحاب، وقال بيان حكومي إن "رئيس الوزراء محمد شياع السوداني أشرف على أعمال اللجنة العسكرية العلیا المشتركة بين العراق والتحالف الدولي، بقيادة الولايات المتحدة، لمراجعة مهمة التحالف الدولي لمحاربة داعش"، ووفقاً للبيان من المقرر أن يتولى متخصصون عسكريون إنهاء مهمة التحالف بعد عقد من بدايتها.
دواعي هذا الحوار
هناك عدة دواعٍ ودوافع وراء لجوء الدولتين إلى هذا الحوار حول إنهاء الوجود الأمريكي في العراق، فالدافع الأبرز، هو تزايد الضغط من قبل القوى والمليشيات الموالية لإيران لإنهاء الوجود الأمريكي في العراق، وهذا الضغط كان على جانبين، الأول هو الضغط بشكل عسكري وأمني ميداني من خلال شن هجمات على القواعد الأمريكية ومقارّ قوات التحالف والسفارة الأمريكية في بغداد طوال السنوات والأشهر الماضية.
أما الجانب الثاني فكان عبر الضغط السياسي على الحكومة والمؤسسات العراقية لإكمال هذا المسار الذي تزايد الحديث عنه منذ اغتيال الولايات المتحدة الأمريكية قائدَ فيلق القدس قاسم سليماني والقياديَ في المليشيات الإيراني أبو مهدي المهندس، وهذا الضغط السياسي بدأ يأخذ صداه بشكل أقوى منذ تنامي دور هذه القوى الموالية لإيران بشكل أكبر بعد الانتخابات العراقية التي أعقبها تشكُّل ما يسمى الإطار التنسيقي للحكومة العراقية التي ترأسها محمد شياع السوداني.
ونتيجة لذلك، فإن كافة الأطراف باتت بحاجة إلى هذا الحوار، فمن جهة، ترى إيران وأذرعُها في العراق أن الظروف السياسية والعسكرية تلائم الضغط بشكل مكثف على الوجود الأمريكي في العراق، خاصة أن إيران ترى أن الولايات المتحدة الأمريكية والغرب لن يذهبوا إلى مقاومة كل هذه الضغوط وأخطار وقوع ضحايا في صفوف قواتهم في ظل انشغال الدول الغربية بالحرب في أوكرانيا والانتخابات الأمريكية المنتظرة والمخاوف من توسع حرب غزة.
هذا المسار تعزز بعد اندلاع الحرب في غزة بين إسرائيل وحركة حماس، حيث ترى إيران أن الأجواء في الدول العربية والإسلامية ليست لصالح الولايات المتحدة، فتحاول استغلال تنامي الانزعاج لدى الرأي العام العربي والإسلامي من دعم الغرب لإسرائيل.
في المقابل، ترى حكومة السوداني التي تُعد وفقاً لمراقبين هي الأقل قدرة من بين الحكومات السابقة وخاصة حكومة الكاظمي على إحداث توازن في علاقاتها الخارجية بين الولايات المتحدة وإيران، أنها مضطرة لمسايرة المليشيات والقوى المتشددة لأنها قادرة على تفكيك الائتلاف الحكومي الذي يترأسه السوداني.
أصبحت المحادثات حول مستقبل الوجود العسكري الأمريكي أكثر إلحاحاً وسط عدم الاستقرار الإقليمي على نطاق أوسع، ووسط الدعوات العامة المتزايدة من قبل الحكومة العراقية للولايات المتحدة لسحب قواتها من البلاد. وجاءت هذه الدعوات ردّاً على شن الولايات المتحدة غارات جوية داخل العراق استهدفت المسلحين المدعومين من إيران الذين كانوا يهاجمون الأفراد الأمريكيين هناك، (سي إن إن – 25 يناير2024).
وبدورها ترى الولايات المتحدة الأمريكية أن كل هذه الظروف وخاصة تنامي القوى الموالية لإيران وضعف الحكومة والمؤسسات العراقية في مواجهة ذلك، تشكل عاملاً دائماً يهدد مصير القوات الأمريكية في العراق ومن الممكن أن يجر واشنطن إلى حرب ومواجهة مفتوحة مع المليشيات الموالية لإيران، خاصة أن ذهاب الإدارة الأمريكية إلى هذا الحوار لإنهاء وجود قواتها في العراق يأتي منطقياً في ظل اقتراب الانتخابات الأمريكية التي من المتوقع أن يتنافس فيها الرئيس الحالي جو بايدن والرئيس السابق دونالد ترامب، ومن أبرز الأوراق الرابحة في هذه الانتخابات بحسب ما يتبين، ورقة الحفاظ على سلامة جنود الولايات المتحدة وعدم الانخراط في حروب.
وكنتيجة لمساعي الضغط على واشنطن، تعرضت المواقع العسكرية الأمريكية في العراق وسوريا للهجوم 153 مرة على الأقل منذ أكتوبر من قِبَل الجماعات المسلحة التي دربتها وسلّحتها إيران. ويشير مسؤولو البنتاغون إلى أن حوالي 2500 جندي أمريكي ما زالوا في العراق، وأن 900 جندي منتشرون في سوريا كحاجز عازل لمنع عودة تنظيم داعش، لكنّ المسؤولين العراقيين غضبوا بشكل متزايد عندما ردت الولايات المتحدة بضربات جوية وربطت المليشيات هجماتها بالحرب في غزة وبدعم الولايات المتحدة للحملة الإسرائيلية ضد حماس، (واشنطن بوست - 25 يناير2024).
سيناريوهات متوقعة
هناك عدة سيناريوهات لمسار هذا الحوار وما سيعقبه، ومنها:
السيناريو الأول: أن يستمر الحوار الأمريكي - العراقي وفق خطوات ومراحل وتنفيذ كافة مخرجاته وفق اتفاق مسبق، ويتم تحويل العلاقة بين التحالف الدولي والحكومة العراقية من علاقة عسكرية إلى تعاون أمني عبر تقديم الخبرات، والأسلحة، والدعم الأمني والاستخباراتي.
لكن ذلك لن يحل المشكلة ولن ينهي حالة التوتر، فالخلاف لا يتعلق بشكل الوجود الأمريكي وحدوده، بل إن المشكلة في رغبة إيران ومليشياتها في استثمار ما يرونه إنجازاً عسكرياً لبسط الهيمنة السياسية والأمنية والعسكرية على البلاد، وإبعاد القوات الأمريكية والغربية التي تبقى تهديداً مستمراً للنفوذ الإيراني خاصة في ظل إمكانيات الولايات المتحدة الاستخباراتية والعسكرية والتي تبينت من خلال اغتيال شخصيات وقيادات مؤثرة موالية لإيران في العراق.
السيناريو الثاني: إنهاء جولات الحوار الأمريكي - العراقي بعد انتهاء واشنطن من حسم أمرها بالرد على مقتل جنودها في شمال شرق الأردن نتيجة لقصف من قبل مليشيات عراقية موالية لإيران، وأن تقوم الولايات المتحدة الأمريكية بشن عمليات جوية على المليشيات ويتبع ذلك تصعيد مفتوح.
السيناريو الثالث: استمرار جولات الحوار الأمريكي - العراقي بدون أن تُغير شيئاً على أرض الواقع حتى انتهاء الانتخابات الأمريكية، وحينها سيُقال إن الوجود الأمريكي في العراق ضروري.
السيناريو الرابع: إنهاء جولات الحوار الأمريكي - العراقي نتيجة للتطورات الأخيرة التي تسببت بمقتل جنود أمريكيين، والانسحاب نحو إقليم كردستان العراق.
تأثيرات إنهاء مهمة التحالف الدولي في العراق
في حال تم إنهاء مهمة التحالف الدولي ضد داعش وإخراج الولايات المتحدة الأمريكية من العراق، من الممكن أن يجلب ذلك تداعيات وتأثيرات عديدة، ومنها:
أولاً: سيؤدي إنهاء الوجود الأمريكي والغربي ضمن التحالف الدولي تحت الضغط الميداني والسياسي من قبل أذرع إيران، إلى منح طهران وهذه الأذرع دافعاً معنوياً كبيراً لإكمال سياسة الضغط هذه ضد دول المنطقة التي تختلف معها هذه المليشيات، حيث ستظهر بصورة المنتصر على قوى دولية كبرى وهذا سيقوي هيمنتها على الساحة العراقية بشكل كامل ويدفعها إلى إقصاء خصومها ومنافسيها، وبالتالي إثارة نزاعات طائفية وقومية في العراق، إلى جانب أن هذا الانتصار سيلهم أذرع إيران في الدول الأخرى كسوريا ولبنان واليمن ويشجعها على ممارسة السياسة ذاتها لتحقيق هذه الأهداف.
ثانياً: سيحمل ذلك تحدياتٍ وأخطاراً حقيقية لإقليم كردستان، وفي حال تم انسحاب القوات الأمريكية من العراق وتمركزها في الإقليم فإن ذلك سيدفع المليشيات إلى شن هجمات على الإقليم بالتزامن مع ممارسة ضغوط من قبل الائتلاف الحاكم (الإطار التنسيقي) من الناحية السياسية والاقتصادية.
وأما في حال انسحاب القوات الأمريكية والتحالف الدولي بشكل كامل حتى من الإقليم، فإن ذلك أيضاً سيدفع المليشيات إلى محاولة توسيع نفوذها عبر استخدام قضية السيادة والصلاحيات فيما يتعلق بالنفط والحدود وغيرها.
ثالثاً: سيؤدي ذلك إلى زيادة أخطار عودة "داعش" الذي لا يزال يحاول ممارسة نشاطه عبر الخلايا النائمة، خاصة أن مهمة التحالف الدولي والقوات الأمريكية في سوريا مرتبطة بالمهمة الأساسية في العراق، وبالتالي فإن أي انسحاب من العراق يعني غالباً الانسحاب من سوريا أيضاً، وهذا يزيد خطورة عودة داعش لأنه لا يزال ينشط بقوة في بعض المناطق السورية كما أن هناك مخيماتٍ وسجوناً فيها الآلاف من عناصر داعش الأجانب وعوائلهم، وما زالوا يتمسكون بفكرهم المتشدد.
اختبأ تنظيم داعش إلى حد كبير في العراق وسوريا، لكن الخلايا النائمة لا تزال موجودة في المناطق الريفية وتتركز في السجون ومراكز الاحتجاز. لا تزال شبكات داعش المتفرقة "في وضع البقاء" في العراق وسوريا بعد أكثر من أربع سنوات من هزيمة التنظيم في آخر معاقله على الجانب السوري من الحدود العراقية في مارس 2019، حسبما جاء في تقرير حديث للبنتاغون، وقدر مسؤول عسكري أمريكي كبير للصحفيين مؤخراً أن ما يقرب من 1000 من مقاتلي داعش ما زالوا طلقاء في العراق وسوريا، أفاد المفتش العام في البنتاغون أن الجيش العراقي لا يزال يواجه صعوبات في تنسيق العمليات البرية والجوية المشتركة، وكذلك في نشر المدفعية بشكل فعال، (المونيتور – 24 يناير 2024).
الخلاصة
من خلال ما سبق يتبين أن العراق مر في الأسابيع الماضية بموجة كبيرة من التصعيد هي الأخطر منذ اندلاع الصراع بين القوات الأمريكية والمليشيات الموالية لإيران وكانت الأمور على مقربة من الانزلاق إلى مواجهة مفتوحة وحرب مباشرة، إلا أن تخوف جميع هذه الأطراف من هذا الخيار الذي بات يقترب شيئاً فشيئاً دفعها إلى محاولة تهدئة التوتر، وهذا تبين من سلوك وتصريحات هذه الأطراف عقب مقتل الجنود الأمريكيين. وفي هذا السياق، تأخرت واشنطن عن الرد وبدت وكأنها مترددة كثيراً عن التصعيد.
في الوقت نفسه نفت إيران مسؤوليتها عن هذا الهجوم وقالت إنها لا تريد توسيع الحرب مع الولايات المتحدة، وذلك بالتزامن مع إعلان المليشيات إيقاف العمليات ضد القوات الأمريكية وقيام قائد "فيلق القدس" في الحرس الثوري الإيراني، إسماعيل قاآني، بزيارة سرية وسريعة إلى العاصمة العراقية بغداد، يوم الاثنين 29 يناير، وعقد اجتماعات مع رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني وعدد من قادة المليشيات القريبة من طهران، بهدف احتواء التصعيد الحالي بين الفصائل والقوات الأمريكية.
نتيجة لذلك، فإن الذهاب نحو الحوار الأمريكي - العراقي للحديث عن إنهاء مهمة التحالف الدولي في العراق يعد خياراً لتهدئة هذا التوتر ونزع فتيل الحرب بين هذه الأطراف، ومن المتوقع أن تستمر هذه الجولات وأن تتحول إلى منصة للوساطة بين طهران وواشنطن لضبط قواعد الاشتباك بينهما مجدداً، وهذا ما تبين من خلال ما كشفت عنه مصادر عراقية بأن قائد فيلق القدس طلب من السوداني إيصال رسالة إلى واشنطن مفادها أن إيران لا ترغب في توسيع الحرب مع واشنطن، وعوضاً عن مناقشة الانسحاب الأمريكي في الوقت الحالي سيتركز النقاش حول تهدئة التوتر والبحث عن تطوير عمل المؤسسات الأمنية والعسكرية العراقية، وسيستمر ذلك حتى انتهاء الانتخابات الأمريكية وتبيان نتيجة الحرب في غزة.