مدخل:
في خضم تدحرج الصراع بين إسرائيل وحركة حماس في قطاع غزة وامتداد تداعياته إقليمياً، ودخول مليشيا الحوثي المسيطرة على مناطق واسعة من اليمن على خط الأزمة، أصبح أمن الملاحة في البحر الأحمر ومضيق باب المندب الإستراتيجي على المحك؛ الأمر الذي حدا بشركات شحن عالمية كبرى إلى التفكير في مسارٍ أكثرَ أمناً يمر عبر رأس الرجاء الصالح، رغم ما يكتنف ذلك الخيار من تأخير في سلاسل الإمداد، وما يستصحب من زيادة في تكاليف نقل البضائع، وبالتالي إلحاق أضرار كبيرة بالأسواق العالمية.
ارتباطاً بهذا المتغير الأمني الجديد، تخطط الولايات المتحدة الأمريكية لتسيير مهمة أمنية أُطلق عليها اسم "حارس الازدهار" من أجل حماية الملاحة في الممر المائي الحيوي الذي يربط بين البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي وبحر العرب، عبر حشد تحالف واسع النطاق. وفي هذا السياق قال تيم ليندركينج المبعوث الأمريكي الخاص إلى اليمن إن واشنطن تريد تشكيل "أوسع تحالف بحري ممكن" لحماية السفن في البحر الأحمر، وإرسال إشارة للحوثيين بأنه لا تسامحَ مع المزيد من الهجمات. (رويترز 14 ديسمبر 2023).
التوجه الجديد للولايات المتحدة يثير مجموعة من التساؤلات بشأن السياق العام الذي تأتي فيه عملية "حارس الازدهار"، وبشأن ما إذا كان إطلاقها كفيلاً بردع التهديدات التي تواجه الملاحة الدولية، وأيضاً لجهة الدلالات التي تكشف عنها هذه الخطوة وما إذا كانت تعكس انقلاباً في سياسة واشنطن المتبَعة خلال السنوات الماضية والتي تفضل عدم الانغماس المباشر في الصراعات بالشرق الأوسط؛ من أجل التفرغ من جهة لمنافسة الصين في فضائها الجيوسياسي المباشر في المحيطين الهندي والهادئ، ومن جهة أخرى محاولة إلحاق هزيمة إستراتيجية بروسيا عبر حشد الدعم الغربي ضدها في أوكرانيا.
السياق العام:
تستهدف مهمة "حارس الازدهار" وضع حد للتهديدات الحوثية المتصاعدة للملاحة في البحر الأحمر، والتي كانت في البداية موجهة ضد السفن الإسرائيلية أو المملوكة لإسرائيليين، ثم تم رفع السقف ليشمل السفن المتجهة إلى إسرائيل بغض النظر عن هوياتها، وربط ذلك من طرف المليشيا بتطورات الحرب في غزة. وتم الكشف بشكل رسمي عن المبادرة خلال زيارة يقوم بها وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن إلى المنطقة هذه الأيام، حيث قال خلال مؤتمر صحفي بإسرائيل: "أعلن إطلاقَ عملية حارس الازدهار، وهي مبادرة أمنية جديدة مهمة متعددة الجنسيات تحت مظلة القوات البحرية المشتركة وقيادة فرقة العمل 153 التابعة لها، والتي تركز على الأمن في البحر الأحمر (..) التصعيد الأخير في هجمات الحوثيين المتهورة القادمة من اليمن يهدد التدفق الحر للتجارة، ويعرض البحّارة الأبرياء للخطر، وينتهك القانون الدولي.. البحر الأحمر ممر مائي بالغ الأهمية وضروري لحركة الملاحة وممر تجاري رئيسي يسهل التجارة الدولية". (CNN 18/12/2023). ويأتي الإعلان عن المبادرة في ضوء مجموعة من التطورات المتسارعة تشهدها المنطقة ومن أبرزها:
• أولاً، إعلان الحوثيين توسيع نطاق استهداف السفن ليشمل كل الناقلات المتجهة إلى الموانئ الإسرائيلية، وهو أمر من شأنه أن يلحق تداعيات كبيرة بالتجارة الدولية عبر مضيق باب المندب، الذي يمر من خلاله نحو خُمس استهلاك العالم من النفط. وارتباطاً بهذا المتغير أعلنت شركات شحن دولية كبرى أن سفنها لن تمر عبر البحر الأحمر، وستلجأ إلى الإبحار حول إفريقيا وصولاً إلى رأس الرجاء الصالح، وهو طريق طويل من شأنه أن يزيد تكاليف الشحن ويؤدي إلى تأخير في سلاسل التوريد، الأمر الذي ينذر بأزمة عالمية على غرار ما حصل إبان جائحة كوفيد-19.
• ثانياً، بدأت تلوح في الأفق تداعيات التوتر في البحر الأحمر على الاقتصاد العالمي، حيث ارتفعت أسعار التأمين على البضائع المنقولة بحراً بشكل كبير، الأمر الذي ينعكس بشكل مباشر على الأسواق العالمية. وفي هذا السياق يقول دنكان بوتس، وهو نائب أميرال سابق في البحرية الملكية البريطانية: "إن هجمات الحوثيين تحمل في طياتها القدرة على أن تصبح تهديداً اقتصادياً إستراتيجياً عالمياً أكثر بكثير من مجرد تهديد جيوسياسي إقليمي". (رويترز 17 ديسمبر 2023).
• ثالثاً، سيخلق إغلاق البحر الأحمر أمام حركة التجارة الدولية مجموعة تداعيات لا يمكن تحملها، وبالتالي تكون الولايات المتحدة التي هي أكبر قوة على مستوى العالم مطالبة بالتحرك لحماية مصالحها ومصالح حلفائها. ولمعرفة حجم التداعيات التي قد تترتب على مثل هذا الوضع يكفي أن نشير إلى أن حادثة جنوح السفينة "إيفر غيفن" في قناة السويس في مارس/آذار 2021 تسببت بخسارة للتجارة العالمية بلغت نحو 10 مليارات دولار يومياً.
الدلالات:
تمكن قراءة القرار الأمريكي بالانخراط العسكري مجدداً في الشرق الأوسط من خلال عملية "حارس الازدهار" على ضوء مجموعة من الملاحظات أهمها:
• أولاً، تريد الولايات المتحدة أن تُظهِر بما لا يدع مجالاً للشك أنها ملتزمة بأمن إسرائيل، وبالتالي لن تدع الحوثيين يستهدفونها بينما تنشغل في حرب مستعرة في قطاع غزة، حتى لو كلفها ذلك عكس سياساتها السابقة القائمة على عدم الانخراط في صراعات جديدة بمنطقة الشرق الأوسط. وقد كانت الإدارة الأمريكية واضحة بهذا الخصوص في معظم خرجاتها الإعلامية، منذ هجوم السابع من أكتوبر الماضي.
• ثانياً، من خلال هذه الخطوة تعمل الولايات المتحدة من جهة على حماية مصالحها ومصالح حلفائها الغربيين الاقتصادية، ومن جهة أخرى على طمأنة دول الشرق الأوسط بشأن التزامها بأمن الممرات المائية الحيوية في المنطقة، خاصة أنها اتبعت في السابق سياسة كانت في بعض الأحيان مهادنة تجاه الحوثيين ومحل تحفظ بعض الدول.
• ثالثاً، بقيادة مهمة أمنية كبيرة في البحر الأحمر تجدد أمريكا تأكيد مركزها القيادي على مستوى العالم، وهو تأكيد مهم في هذا التوقيت، خاصة بالتزامن مع الحديث عن تأثر دور واشنطن على المستوى العالمي في ظل مواقفها الداعمة بشكل واضح لإسرائيل في صراعها الحالي مع حركة حماس.