أعلن حلف شمال الأطلسي أن أولى تعزيزاته إلى كوسوفو وصلت يوم الاثنين 5 يونيو الجاري، وذلك بعدما أدت صدامات مع محتجين من الإثنية الصربية إلى سقوط 30 جريحاً في صفوف قوة حفظ السلام. وكان الحلف قد أعلن في وقت سابق أنه بصدد إرسال نحو 700 عنصر إضافي، بعد اندلاع أعمال عنف على خلفية نزاع حول انتخابات محلية في شمال كوسوفو. وجاء في بيانه أن نحو 500 جندي تركي يشكلون النواة الكبرى للتعزيزات، سينتشرون في شمال كوسوفو. (صحيفة الشرق الأوسط: 6 يونيو 2023).
يرجع ذلك إلى أن كوسوفو سيطرت في 26 مايو 2023 على المباني البلدية في شمال البلاد بالقوة، لتمكين رؤساء البلديات المنتخبين من أصل ألباني من تولي مناصبهم، مما أدى إلى احتجاجات مدنية قوبلت بالعنف. ودان الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة استخدام القوة الذي أسفر عن إصابات في صفوف قوة حفظ السلام لحلف الناتو، ما دعا واشنطن إلى اتخاذ إجراءات عقابية ضد كوسوفو، فانتقدت قرارها تنصيب رؤساء البلديات بوسائل قسرية، وحرمتها من المشاركة في التدريبات العسكرية الجارية في أوروبا. (BBC: 31 May 2023).
جذور الأزمة
مع انفصال العديد من جمهوريات يوغوسلافيا في أوائل التسعينات، دعا السكان الألبان في كوسوفو إلى الانفصال، وبدأوا بقيادة "إبراهيم روجوفا" تنظيم أنفسهم لتأمين نفوذهم، ثم انتخبوه رئيساً لجمهورية كوسوفو في عام 1992، فدعا سلمياً إلى إلغاء التمييز. ولكن مع مرور الوقت، هوجمت سياسته السلمية من المتطرفين الذين اتهموه بالسلبية، وتم تشكيل جيش تحرير كوسوفو عام 1996، الذي طالب بخروج القوات اليوغوسلافية من أراضي كوسوفو التي يأملون أن تصبح دولة مستقلة. وفي أوائل عام 1998، تم إرسال قوات صربية لقمع جيش التحرير، وأسفر القتال عن سقوط آلاف القتلى. وأدت مذابح المدنيين الألبان إلى تزايد قلق المجتمع الدولي، فتم تكوين مجموعة اتصال من الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا وروسيا، كما فرضت الأمم المتحدة حظراً على الأسلحة اليوغوسلافية، وهدد الناتو الرئيس اليوغوسلافي "ميلوسيفيتش" باستخدام القوة العسكرية. (Noel Malcolm: Kosovo, A Short History, New York 1999).
في يناير 1999، نظم الناتو محادثات رامبوييه بهدف حمل يوغوسلافيا وألبان كوسوفو على قبول خطة سلام تقضي بتوقيع جيش تحرير كوسوفو على نزع سلاحه في غضون ثلاثة أشهر، وانسحاب القوات اليوغوسلافية من كوسوفو، وأن يضع الناتو قوات في الإقليم لضمان تطبيق الاتفاقية. لكن الحكومة اليوغوسلافية لم تقبل ورفضت التوقيع. وأدى ذلك إلى تحول الناتو إلى طرف ثالث في النزاع، وقام في 24 مارس 1999 بقصف جوي لمنشآت عسكرية يوغوسلافية في كوسوفو وصربيا، وفي المقابل زادت القوات اليوغوسلافية حملتها ضد كوسوفو. تقول الباحثة "نادية محمود" إن تدخل الناتو أفسح الطريق أمام حل قسري من نوع جديد لصراع الأقليات. (نادية محمود: حرب كوسوفا في التوازنات الأوروبية والعالمية الجديدة، مركز دراسات الوحدة العربية، 1999).
وبعد مناقشات مكثفة ووساطات دولية، وافق "ميلوسيفيتش" في يونيو 1999 على إنهاء النزاع وفقاً لشروط الناتو، وأصدر مجلس الأمن قراره رقم 1244، الذي وضع كوسوفو تحت الإدارة الانتقالية والحكم الذاتي داخل جمهورية يوغوسلافيا بإشراف الأمم المتحدة، وأجاز وجود قوة حفظ سلام متعددة الجنسيات يقودها الناتو. (BBC: 17 June 1999). وخلال الفترة (2005 - 2007) بدأت الأمم المتحدة بقيادة مبعوثها الخاص "مارتي أهتيساري" مفاوضات لتحديد مصير كوسوفو، واقترح في تقريره إعطاء الإقليم استقلالاً خاضعاً للإشراف، لكن روسيا اعترضت على ذلك. (Security Council: Comprehensive Proposal for the Kosovo Status Settlement, S/2007/168/Add.1, 26 March 2007).
أدى التعنت الروسي إلى إعلان كوسوفو استقلالها في 17 فبراير 2008، مما أثار جدلاً واسعاً. وظل الخلاف بينها وبين صربيا قائماً مع استمرار معارضة روسية قوية. (DW: 18 Feb. 2008). وقد حاولت أوروبا تحجيم الخلافات بينهما بعدة اتفاقات، من أشهرها اتفاق بروكسل في عام 2013، الذي لم يوضع قيد التنفيذ لعدم اعتراف صربيا رسمياً بكوسوفو. (BBC: 19 April 2013).
لحل مشكلات الأقليات على الجانبين، اضطرت كوسوفو إلى توقيع اتفاقية مع صربيا في عام 2011 تقضي باستخدام لوحات تسجيل صربية للسيارات في شمال كوسوفو لمدة 11 عاماً، تتغير بعدها إلى لوحات محايدة. ولكن بعد انتهاء صلاحية وثائق السيارات، تصاعدت التوترات، وتم إنشاء حواجز في شمال كوسوفو في 31 يوليو 2022، وسرعان ما أزيلت بعد إعلان كوسوفو تأجيل حظر لوحات التسجيل الصادرة عن صربيا. وفي أغسطس 2022، أجريت مفاوضات بشأن اللوحات، وتم إرسال اتفاقية مقترحة في نوفمبر 2023، أطلق عليها الإعلام آنذاك اسم "الاقتراح الألماني الفرنسي". (DW: 10 Nov. 2022). لكن "ألبين كورتي"، رئيس وزراء كوسوفو، رفض تأجيل الموعد النهائي للوحات، وأعلن بدلاً من ذلك تنفيذاً تدريجياً سيستمر حتى إبريل 2023. (Balkan Insight: 28 October 2022). وتفاوضت كوسوفو وصربيا مرة أخرى في نوفمبر 2022، وعقدتا اتفاقاً في 23 نوفمبر 2022 وبموجبه تقرر أن يستمر استخدام اللوحات في شمال كوسوفو. (CNBC: 23 Nov. 2022).
انتخابات المحليات وتفجر أزمة جديدة
كان من المنتظر أن تبدأ انتخابات المحليات في شمال كوسوفو في ديسمبر 2022، لكن صربيا قدمت طلباً إلى كوسوفو لنشر ما يصل إلى 1000 من القوات العسكرية والشرطة الصربية في الشمال، مستشهدة بمحتوى المادة 4 والملحق 2 والمادة 6 من قرار مجلس الأمن رقم 1244، بسبب ادعاءات صربيا أن بعض وحدات الدعم داهمت شمال ميتروفيتشا، ولكن كوسوفو رفضت الطلب، فنظمت الجماعات اليمينية المتطرفة في صربيا احتجاجات تكررت على أوقات متفرقة لدعم صرب كوسوفو، ولذلك قررت تأجيل الانتخابات إلى 23 إبريل 2023. (Balkan Insight: 9 December 2022). ولكن في الموعد المحدد قاطعها السكان الصرب، فأقام مسؤولو الانتخابات حاويات شحن بجوار الطرق واستخدموها كمراكز اقتراع مؤقتة يحرسها أفراد شرطة مسلحون، ولكن تم الإدلاء بـ 1567 صوتاً فقط، أي حوالي 3.47% من جملة الناخبين، وعلى الرغم من ذلك تم الإعلان عن قبول النتائج التي فاز بها رؤساء البلديات من أصل ألباني في جميع البلديات الأربع. (Euractiv: 24 April 2023).
ومن أجل تمكين رؤساء البلديات الجدد تقرر في 26 مايو 2023 السيطرة على مباني البلدية بالقوة، ووقعت احتجاجات مدنية تم التعامل معها بالقوة المفرطة، مما أغضب الاتحاد الأوروبي والمجتمع الدولي، حيث أعلنت صربيا أن قواتها المسلحة رفعت مستوى الاستعداد القتالي واقتربت من الحدود، وقررت كوسوفو أنها سوف ترد بقوة على أي سلوك صربي عدواني. وفي 29 مايو 2023، اندلعت الاحتجاجات في كوسوفو مما أدى إلى إصابات متعددة، بما في ذلك 25 عنصراً من قوات حفظ السلام التابعة للناتو، الذي قرر إرسال دعم عسكري للحول دون تصاعد الأحداث بين صربيا وكوسوفو. (BBC: 31 May 2023).
ومع استمرار الاحتجاجات، وبعد تدخلات أمريكية أوروبية، قالت "فيوسا عثماني" رئيسة كوسوفو لوسائل الإعلام إن بلادها يمكن أن تجري انتخابات جديدة في البلديات ذات الأغلبية الصربية التي شهدت احتجاجات عنيفة، بشرط أن يوقع 20% من الناخبين على التماس يطالب بهذا الإجراء. (فرانس برس: 7 يونيو 2023).
هل ثمة حلول لازمة؟
هناك العديد من الحلول التي من الممكن أن نقترحها لمثل هذه القضايا، مثل إجراء محادثات سلام، واستمرار الحوار بين الحكومة الصربية وحكومة كوسوفو للوصول إلى حل دائم يراعي مصالح الجانبين، أو طرح المسألة للتحكيم الدولي، فتقديم الدعم الأممي لاستقرار البلقان سوف يسهم في إنهاء الأزمة. كما أن توفير حقوق أكبر للجماعات المحلية، بما في ذلك الأقليات العرقية، من الممكن أن يقضي على الأزمة بشكل كبير. كل ذلك إلى جانب تشجيع التعاون الاقتصادي بين البلدين وجعل المنطقة أكثر ازدهاراً، ما قد يساعد في تحسين العلاقات بين الصرب وألبان كوسوفو.
وقد اقترح الاتحاد الأوروبي في ديسمبر الماضي مشروع اتفاقية لا تتطلب اعتراف صربيا بكوسوفو كدولة مستقلة بشكل واضح، ولكن مع عناصر واضحة من الاعتراف الضمني، كعدم معارضة انضمام كوسوفو إلى المنظمات الدولية مثل مجلس أوروبا أو الاتحاد الأوروبي أو الناتو وغيرها، وتقنين جوازات السفر والنشاط الدبلوماسي ولوحات المركبات، وضمان كوسوفو مستوى من الإدارة الذاتية للأقلية الصربية فيها، والتطبيع الشامل للعلاقات بين البلدين. (نص الاتفاقية على موقع الاتحاد الأوروبي: https://icss.ae/short/link/1686131498).
ونلاحظ أن الاتفاقية تشير إلى المساواة في الحقوق، ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة لتنظيم العلاقات بين الدول ذات السيادة، والالتزام بالتسوية السلمية للنزاعات، والامتناع عن استخدام القوة. وبموجب المادة 4 منها ترفع صربيا أي مطالبات بشأن كوسوفو إلى المنظمات الدولية المعنية، وعدم الاعتراض على عضويتها في المنظمات الدولية، والنظر إلى أن كوسوفو تمثل كامل أراضيها في العلاقات الخارجية.
إن الاتفاقية التي تلوح في الأفق، إذا تمت بسلام، سوف تحدث تغيراً هائلاً في الحياة السياسية في صربيا. وستنتهي قضية كوسوفو من الوجود كموضوع سياسي بالطريقة التي تعامل بها الجميع منذ عام 1990 وما بعده. ولن تكون كوسوفو بعد ذلك خزاناً لا ينضب للسياسة الغارقة في الأساطير والانتقام التاريخي والدم. وسوف تتحول الاهتمامات في صربيا وكوسوفو إلى تحسين البيئة السياسية والاقتصاد والصحة وحقوق الإنسان والتنمية الريفية وتعزيز التقاليد والهوية من خلال التعليم والثقافة.
يذكر "أورهان دراغاس" مؤسس ومدير معهد الأمن الدولي في بلغراد، أن سياسة الرئيس الصربي "ألكسندر فوتشيتش" في التوصل إلى حل وسط مع بريشتينا معرضة لمقاومة هائلة من السياسيين في بلاده. وستصل مقاومتهم ذروتها في المناظرات البرلمانية المقبلة، حيث سيتعين عليهم القتال من أجل وجودهم السياسي، إذا تم توقيع الاتفاقية، لأنهم بنوا حياتهم المهنية على المتاجرة بقضية كوسوفو. إن هؤلاء يشكلون قوة لا يستهان بها، ويؤيدهم عدد كبير من الداعمين في الجامعات ووسائل الإعلام والمنظمات المجتمعية، وأجيال من القوميين المحافظين الذين يرون حكم منطقة البلقان حقاً لصربيا فقط. وستكون دعايتهم ضد الاتفاقية قوية، لأنها ستزيل كوسوفو من قائمة المسائل السياسية التي تخدم مصالحهم، لتنتقل القضية إلى المناهج الدراسية. وبالتالي سيتم إنفاق الأشهر التالية في مراقبة محاولات هؤلاء الأشخاص منع صربيا من أن تصبح دولة خالية من النزاعات التاريخية. (Euractiv: 30 Jan 2023).
رأي ختامي
لضمان الالتزام بأية حلول ينبغي للاتحاد الأوروبي التأكيد على أن تظل الاتفاقية ملزمة قانونياً ودولياً للطرفين، وإدخال أكثر من طرف ضامن من المنظمات الدولية المختلفة، وعلى رأسها الأمم المتحدة ومجلس الأمن، فالاتفاقية سلاح قوي يجب استخدامه بأفضل طريقة كي تستقر الأمور إلى لأبد.
ويجب أن نتذكر أن الأزمة بين كوسوفو وصربيا ليست سياسية في المقام الأول، وإنما اجتماعية تاريخية، وهما جانبان تجب معالجتهما بحكمة للحفاظ على علاقات سوية بين الشعبين في المستقبل، نظراً لتاريخهما وتراثهما المشترك والمتجانس، والتعددية العرقية، مثلهما مثل كل دول البلقان. وذلك لكي يتم التعامل بطريقة صحيحة مع تدخلات كل القوى التي ترفع شعارات نصرة الأقليات، وعلى رأسها إيران، فإذا نأت روسيا بنفسها عن المشاركة الفعلية في حل الأزمة، نتيجة انشغالها بحرب أوكرانيا، فستدخل إيران على خط الأزمة، وهو ما لا ترغب فيه القوى الغربية.
ومن أفضل الإجراءات، في حال وصول البلدين إلى اتفاق، إخراج كافة السياسيين المستفيدين من النزاع منذ عشرات السنين من السلطة بشكل نهائي وإحالتهم إلى التقاعد، ثم إعادة هيكلة المؤسسات الأمنية في كلا البلدين، لضمان عدم تفاقم الأمور مستقبلاً.