مقالات تحليلية

الحرب الإسرائيلية في لبنان: عملية عسكرية شاملة، أم حرب استنزاف؟

23-Sep-2024

يهيمن الحديث عن عملية عسكرية إسرائيلية برية مرتقبة في جنوب لبنان على مناقشات المحافل الدولية المختلفة، وعزز ذلك استعداد بنيامين نتنياهو لعزل وزير الدفاع يوآف غالانت إذا استمر في معارضة توقيت توسيع الحرب في الشمال. وكانت الخلافات بين الاثنين قد كثرت في الشهور الماضية بعد ما أصبح وزير الدفاع هو الطرف الذي تثق به الإدارة الأميركية وتفضل التنسيق معه. وعندما وصل المبعوث الأميركي آموس هوكستين إلى تل أبيب في 16 سبتمبر، بدأت الأخبار تتداول بأن نتنياهو يتأهب لتعيين جدعون ساعر رئيس حزب اليمين الوطني وزيرا للدفاع، على الرغم من أنه من غلاة المتطرفين، الأمر الذي من الممكن أن يوقف المفاوضات مع حماس إلى أجل غير مسمى (مونت كارلو الدولية: 17 سبتمبر).

ويبدو أن إحساس غالانت بقرب إقالته هو ما جعله يراجع موقفه ويعلن عن أن العمل العسكري في لبنان بات هو السبيل الوحيد المتبقي لإعادة سكان الشمال الإسرائيلي إلى منازلهم. وعلى الرغم من التحذيرات الأميركية من أن ذلك سوف يعرض إسرائيل كلها للخطر، لكن نتنياهو صمم على موقفه وتداول مع قيادات عسكرية حول إمكانية احتلال شريط أمني في جنوب لبنان وجعله منطقة عازلة تبعد قوات حزب الله وتهديداتها، وتزيد الضغط للتوصل إلى حل دائم، ويرى مسئولو الدفاع أن الظروف الحالية مواتية لبدء العملية، لأن السكان نزحوا بالفعل عن المنطقة الحدودية، ما يجعلها مسرحا مناسبا للمعركة لا يتعرض فيه الأهالي للخطر (هيئة البث الإسرائيلية: 19 سبتمبر).

إسرائيل تمارس حرب استنزاف

في الواقع، لقد شنت إسرائيل الحرب على لبنان فعليا، بشكل أو بآخر، وقد يكون سيناريو الاجتياح البري مؤجلا إلى حين التوصل إلى صيغة تفاوضية تؤمن بها أسراها في غزة. لكن تل أبيب بدأت في ضربات استباقية لإضعاف قدرات حزب الله، البشرية والعسكرية على المقاومة، بدأتها بتفجير أجهزة البيجر والووكي توكي الخاصة بعناصر الحزب ومعاونيه في لبنان، ما أسفر عن إصابة ومقتل العشرات. وأعقب ذلك بضربة صاروخية مركزة على مواقع إطلاق الصواريخ في جنوب لبنان، حيث أعلنت إسرائيل أنها دمرت أكثر من 100 منصة إطلاق.

ولم تكتف إسرائيل بذلك، بل قامت بغارة جوية استهدفت معقلا لقيادات الحزب في الضاحية الجنوبية قرب بيروت، قتلت بها القيادي إبراهيم عقيل وبعض العناصر الأخرى. وبدوره رد حزب الله، حسب ما أعلن في بيان رسمي أصدره الجمعة 20 سبتمبر، أنه قصف في شمال إسرائيل مقرا للاستخبارات العسكرية المسؤولة عن الاغتيالات، وأعلنت القناة 12 الإسرائيلية أن أكثر من 200 صاروخ أطلق من لبنان على إسرائيل في اليوم ذاته. فقررت إسرائيل قصف مقر كتائب حزب الله العراقية في دمشق وقتلت القيادي أبو حيدر الخفاجي مساء الجمعة 20 سبتمبر، وتبعت ذلك بعدد من الغارات الجوية على جنوب لبنان مساء السبت. وبطبيعة الحال رد الحزب برشق شمال إسرائيل بالصواريخ، ما دعا، حسب يديعوت احرونوت، السلطات الإسرائيلية إلى إغلاق شواطئ حيفا وعكا ونهاريا وطبريا.

ويتوقع المسؤولون الأميركيون، بحسب صحيفة بوليتيكو الأميركية في 21 سبتمبر، أن تزداد حدة الضربات المتبادلة بشكل كبير بين حزب الله وإسرائيل خلال الأيام المقبلة، وسط تردد إسرائيلي في خوض حربة برية، ومع ذلك عبروا عن تخوفهم من تطور الأمر لحرب شاملة بين حزب الله وإسرائيل.

كل ذلك يضعنا أمام احتمال قوي بأن هناك حدثا عسكريا ضخما سوف تشهده المنطقة، سيكون الجنوب اللبناني مسرحه، قد يكون طويل الأمد، لكن تسبقه حرب استنزاف لقدرات حزب الله العسكرية والبشرية، حيث تشير التقارير إلى أن حزب الله لديه ترسانة متطورة، معظمها من إيران وروسيا، تشمل أكثر من مليون صاروخ من أنواع مختلفة، إلى جانب الأسلحة المضادة للدبابات والطائرات دون طيار. وفي حين أن ترسانة إسرائيل من الصواريخ أكبر بكثير، إلى جانب البنية الأساسية التي تدعمها، فإن الجيش الاسرائيلي لا يزال يعاني من تحديات سياسية واستراتيجية ولاهوتية واقتصادية، تجعل تحديد ساعة الصفر للهجوم البري صعبة.

خطر الحرب على جبهات متعددة

إلى أي مدى تستعد إسرائيل لخوض حرب على جبهتين، وربما ثلاثة، مع تزايد العنف في الضفة الغربية؟ فهناك شكوك جدية حول ما إذا كانت تل أبيب قادرة على الانخراط في صراع كبير كهذا. خاصة وأن العنف المتزايد في الضفة الغربية يشكل تحديا إضافيا لجهاز الأمن الإسرائيلي، حيث تعرضت بنيتها التحتية الأمنية لانتقادات شديدة بعد هجوم السابع من أكتوبر الماضي، إضافة إلى مواجهة الجيش الاسرائيلي ضغوطا متزايدة بسبب أفعاله في غزة، وقتله ما يقرب من 40 ألف شخص وتشريد الملايين، دون أن يحقق أهدافه الرئيسية من المعركة حتى الآن.

ذكر "سيمون مابن" أستاذ العلاقات الدولية في جامعة لانكستر، في يونيو الماضي، أن الضفة الغربية موطن لنحو 3 ملايين فلسطيني، وفي حين تمارس السلطة الفلسطينية قدرا من السيطرة، فإن إسرائيل هي الحكم النهائي في جميع المسائل المتعلقة بالأمن. كما أن الوضع أصبح أكثر صعوبة بسبب وجود ما يقرب من 700 ألف مستوطن إسرائيلي، ينخرطون بشكل روتيني في أعمال عنف ضد السكان الفلسطينيين، ويعتمدون إلى حد كبير على الجيش الاسرائيلي للحفاظ على البنية الأمنية التي تفصل بين المجتمعين. وتساءل آنذاك حول استطاعة إسرائيل تجاهل إمكانية قيام انتفاضة في الضفة خلال حربها في لبنان، خاصة وأنها لم تنه الموقف في غزة بعد (The Conversation: 19 June 2024).

الحقيقة إن أي تحول في المشهد الأمني ​الحالي​من شأنه أن يفرض تحديات خطيرة على الجيش الاسرائيلي، فإذا فُتحت جبهة صراع جديدة في الشمال، فما الذي يضمن ألا تتعرض السلطة الفلسطينية إلى ضغوط متزايدة من الفلسطينيين على نطاق أوسع، ما يؤدى إلى زعزعة الأمن داخل الضفة الغربية، والذي سيؤدي بدوره إلى تفاقم الانقسامات في السياسة الداخلية الإسرائيلية. ومع ذلك، قرر نتنياهو بالفعل اتخاذ زمام المبادرة ضد حزب الله، ولكن لا يوجد ما يضمن أنه سيحقق التأثير المطلوب. كما أن فتح جبهة جديدة من شأنه أن يجعل احتمال أن تحقق إسرائيل أهدافها الثلاثة الأخرى المتمثلة في الإطاحة بحماس وتحرير الرهائن وضمان عدم تعرضها للتهديد من غزة مستقبلا، ضعيف للغاية.

إمكانيات النجاح واحتمالات الفشل

بوسع إسرائيل أن تنفذ هجوما جويا، إما في كامل الأراضي أو تستهدف حزب الله فقط. ولكن مهاجمة البنية الأساسية للدولة اللبنانية من شأنها أن تشكل استمرارا للنهج الإسرائيلي التقليدي في التعامل مع الأعداء من غير الدول، بالضغط على الجهات الفاعلة في الدولة لكبح جماح الإرهابيين داخل حدودها. ومن المعروف أن تل أبيب استخدمت هذا النهج ضد مصر والأردن لوقف هجمات الفلسطينيين من أراضيهما في الخمسينيات والستينيات. وحتى عندما سحب "حافظ الأسد" قواته في عام 2005، سعت إسرائيل وقتئذ إلى استخدام سوريا لوقف الهجمات التي تشنها منظمة التحرير الفلسطينية ثم حزب الله على شمال إسرائيل. ولكن مع ظروف الدولة اللبنانية حاليا، هل يتحقق الهدف؟ الإجابة بالطبع لا، فنظرا للخلل الوظيفي والانهيار الاقتصادي في لبنان، فمن غير المرجح أن تنجح هذه الاستراتيجية. أما بالنسبة إلى إمكانية شن حملة عسكرية ضد حزب الله نفسه باستخدام الطائرات والمدفعية، فمن شأنها أن تشكل استمرارا لثلاثة عقود من العمليات العسكرية الإسرائيلية غير الحاسمة. فاعتماد تل أبيب على القوة الجوية لردع حزب الله وحماس، لم يحقق نصرا حاسما أبدا.

الاحتمال الثالث، أن تتبنى إسرائيل النهج الحالي في التعامل مع غزة، من خلال إغراق لبنان بالقوات البرية، ثم استئصال حزب الله ببطء من القرى والأنفاق. ولكن الواقع يقول إن الجيش الاسرائيلي لم يكمل المهمة ضد حماس، العدو الأصغر كثيرا، فهل يتمكن من تحقيق ذلك مع عدو أكبر تسليحا وأكثر خبرة كحزب الله.

يرى "لازار بيرمان"، مراسل الشؤون الدبلوماسية لصحيفة تايمز أوف إسرائيل، إن الحرب في لبنان ستكون دامية وطويلة، لأن إسرائيل ستخوضها بقوات احتياطية ضعيفة وجبهة داخلية منهكة، الأمر الذي لن يؤدي إلا إلى زيادة الإحباط إزاء إدارة الصراع منذ هجوم السابع من أكتوبر. كما أنها سوف تجلب شهورا أخرى من الهجمات الصاروخية على مجتمع منهك يضم عشرات الآلاف من اللاجئين الداخليين، واقتصاد راكد، وأفراد أسر في حالة حرب منذ ما يقرب من عام. فضلا عن ذلك فإن إعادة القوات الإسرائيلية إلى جنوب لبنان لعدة أشهر، إن لم يكن لسنوات، سيوفر فرصة لحرب عصابات تستنزف الجيش حتى يقرر الخروج من المعركة بأي نتيجة (Times of Israel: 18 September 2024).

الدعم الدولي

لطالما صور بنيامين نتنياهو إيران على أنها تهديد وجودي لإسرائيل، وقد دعمته في ذلك الإدارات الأميركية المتعاقبة. ولكن على الرغم من الدعم الثابت من البيت الأبيض بقيادة بايدن، فقد بدأ هذا الدعم يتضاءل نتيجة للانزعاج الشعبي المتزايد في الغرب من الطريقة التي تدير بها إسرائيل عملية غزة.

لقد قال مسؤولو إسرائيل مرارا وتكرارا إنهم يستطيعون العمل بمفردهم، ولكن مع تزايد انتقاد الهيئات الدولية للحرب الكارثية في غزة، بدأ الحلفاء يترددون في دعمها. وقد أشارت الأصوات في الأمم المتحدة إلى غضب متزايد إزاء سلوك إسرائيل، في حين تحاول الهيئات الدولية استكشاف سبل قانونية لإنهاء معاناة الفلسطينيين.

ومثل حماس، فإن حزب الله منظمة غير شعبية إلى حد كبير، وتُقلق علاقته بإيران صناع السياسات في الغرب، وقد تم اعتباره منظمة إرهابية من قبل العديد من الدول. ومع ذلك، فإنه يحتل دورا مركزيا في السياسة والاقتصاد في لبنان، وأي صراع مع إسرائيل من شأنه أن يؤدي إلى تفاقم أزمة اتفاق تقاسم السلطة الهش في لبنان، ويزيد من الضغوط على الوضع الاقتصادي.

وعلى الرغم من قتامة الوضع، فإن الرغبة الدولية في اندلاع صراع آخر في الشرق الأوسط ضئيلة، لأنه يحمل في طياته إمكانية إحداث المزيد من الخسائر الكارثية في الأرواح، واحتمالات التصعيد على نطاق أوسع.

تقييم الموقف

حتى قبل أن تنفجر الآلاف من أجهزة التواصل في جيوب وأيدي عناصر حزب الله، كان التصعيد إلى مستوى الحرب في جنوب لبنان يبدو مرجحا بشكل متزايد. ولكن إذا نجحت تل أبيب في خوض المعركة، وأنشأت منطقة عازلة بطول الحدود مع لبنان، ومهما كان عمقها، فهل سيحمي ذلك إسرائيل، خاصة مع تجربتها القديمة في إنشاء منطقة عازلة بعد عملية الليطاني منذ عام 1978 وحتى عام 1982، والتي لم تمنع عمليات التسلل من لبنان. وما الذي سيمنع حزب الله وقتئذ من زيادة مدى إطلاق صواريخه ليتخطى المنطقة العازلة إلى قلب إسرائيل.

ولا يمكننا استبعاد أنه إذا قامت إسرائيل بعملية عسكرية في لبنان، ومهما طال أمدها، سوف تنتهي باتفاق وقف إطلاق نار جديد، بقواعد اشتباك جديدة، كما حدث في كل العمليات السابقة. الحقيقة أن هذه المرة وضع نتنياهو نفسه في مأزق من صنعه، بعد أن أهمل القوات البرية لسنوات وصدق نظرية النصر الجوي وتحقيق الأمن بالقبة الحديدية والأسوار. وقد سمح هذا النهج لحماس وحزب الله بالنمو الذي تسبب في الحد من خيارات إسرائيل. خاصة وأن التوفر المحدود للتشكيلات البرية أدى بدوره إلى إبطاء العملية في غزة، وكما تتمركز حماس في الأنفاق، فإن مقاتلي حزب الله موجودون في قلب المناطق الحضرية بطريقة لامركزية، مما يصعب للغاية تحديد موقعهم وتدميرهم، ويسمح لهم بمهاجمة الجبهة الداخلية لإسرائيل بشكل فعال بمرور الوقت.

على أية حال، فخلال الحرب الدائرة منذ عام تقريبا، أحرق الجيش الإسرائيلي مخزونات القذائف والقنابل الدقيقة وصواريخ القبة الحديدية الاعتراضية بشكل مبالغ فيه. وإذا قرر تطوير الضربات المتبادلة الحالية إلى عملية برية ناجحة ضد حزب الله، فإن التوصل إلى اتفاق قريب أو تحرك حاسم ضد حماس لإنهاء الحرب، ربما يمنحه فرصة لاستعادة قدراته وجمع قوات مناسبة لخوض معركة جديدة، ولكن إذا صممت إسرائيل على محاربة حزب الله دون وقف حرب غزة، فسوف يزداد الموقف تعقيدا، وربما يفتح جبهات صراع أخرى غير متوقعة.

13