بالرغم من قدرة النظام الإيراني على نشر أيديولوجيته في الداخل وحمايتها على مدى أكثر من أربعين عاماً على وصوله للسلطة، يشير واقع البلاد إلى أنه يواجه تحدياً مستمراً من قبل المجتمع المدني، بناشطيه ومؤسساته، خاصة فيما يتعلق بالقضايا الاجتماعية والدينية.
وما يزيد من هذا التحدي هو تمسك النظام بأسسه الدينية التقليدية دون إبداء أي استعداد لتقبل الواقع الجديد الذي تؤثر فيه القيم الجديدة من الأجيال الذين عايشوا اجتماعيّاً عالماً مختلفاً عن تقاليد الأجيال الأولى من الثورة الإسلامية في إيران، وهو جيل يتحدى قيم تلك الثورة التي تستند على التقاليد الدينية والاجتماعية.
استخدم النظام الحاكم في إيران المنابر الدينية والسياسية والثقافية لنشر الإسلام السياسي الشيعي، وقام بإحداث التغييرات في محتوى الكتب المدرسية، التي أدت إلى أسلمة الدورات في المدارس والجامعات، والاعتماد على التنشئة الدينية، وانخفاض مستويات التربية الأخلاقية القائمة على الوعي الاجتماعي، في خدمة أجندته الساعية إلى تنمية أخلاقية ذات توجه ديني/شيعي/سياسي في مواجهة تمرد المجتمع. ورغم ذلك، فشل النظام الإيراني في تحقيق هدفه مع تزايد التمرد الاجتماعي ضد القوانين الدينية القسرية للنظام.
تعد قضية رفض الحجاب الإلزامي أحدث مثال على مقاومة المجتمع المدني للإسلام السياسي الشيعي الذي يسعى النظام الإيراني إلى ترسيخه في البلاد. فعلى سبيل المثال، واجهت خطوة النظام إحياء "اليوم الوطني للحجاب والعفة" في البلاد، يوم 12 يوليو الفائت، في إطار حملة أطلقها لإعادة قواعد صارمة على حجاب النساء، حملة مضادة قادها ناشطون حقوقيون وأوساط في المجتمع المدني لتشجيع الإيرانيين على رفض "الحجاب القسري"، وتحدي السلطات بخلع الحجاب في الأماكن العامة، وفق وكالة "رويترز" البريطانية.
وفي حين لم تجذب تلك الحملة المضادة الكثير من الاهتمام الإعلامي في حينها، إلا أنها كانت مؤشراً واضحاً على استمرار نشاط المجتمع المدني في تحدي السلطة الثيوقراطية، وهو ما ظهر بعد نحو ثلاثة أشهر من تلك الحملة، وتحديداً بعد وفاة الشابة وفاة مهسا أميني، التي أشعلت احتجاجات غاضبة قادها نشطاء المجتمع المدني، وبدعم علني من فصائل وشخصيات سياسية معارضة، خاصة داخل المعسكر الإصلاحي.
استراتيجية النظام
بالتزامن مع القوة الناعمة التي يستخدمها، عبر وسائل الإعلام ورجال الدين والمؤسسات الثقافية والاجتماعية، يركز النظام بشكل أساسي على أداة القمع الأمني التقليدية، كلما تعرض للضغط أو شعر أن هناك جهات من شأنها أن تمثل خطراً على استقراره. وتستخدم السلطات الإيرانية تهماً فضفاضة، دون محاكمة عادلة، تتعلق بالأمن القومي والتجسس وغيرها من التهم الجاهزة بالفعل، مثل مخالفة قوانين الجمهورية الإسلامية.
وتعد المرأة في إيران اليوم أحد أبرز أهداف السلطة الدينية، وتمثل مطالبها سواءً في قضية إلغاء إلزامية الحجاب أو غيرها تحدياً كبيراً للسلطة الثيوقراطية في طهران. تقول صحيفة "الغارديان" البريطانية في تقرير نشرته يوم 24 سبتمبر، إن "بعض النساء يتحدين النظام في إيران منذ أن أصبح التدوين على الإنترنت من الأنشطة اليومية للمعارضين فيها منذ حوالي عشر سنوات". وقام الرئيس المتشدد إبراهيم رئيسي "بقمع المعارضة منذ توليه منصبه في عام 2021 مع التركيز بشكل خاص على الحجاب رداً على المقاومة النسائية المنظمة لهذه الممارسة. وتستخدم الأجهزة الأمنية الإيرانية اليوم "تقنية التعرف إلى الوجه لاعتقال ومعاقبة الشابات اللائي يظهرن في مقاطع الفيديو المناهضة للحجاب المنشورة على وسائل التواصل الاجتماعي. وفي وقت سابق من هذا العام، تم اعتقال شابة وضربها لظهورها في أحد تلك الفيديوهات، وأجبرت على الظهور على شاشة التلفزيون للاعتذار عن سلوكها"، حسب تقرير نشرته صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية في 26 سبتمبر.
وبالعودة إلى الاحتجاجات الأخيرة، يمكن كذلك ملاحظة تصعيد النظام اعتقال الصحفيين والنشطاء كجزء من حملته الأمنية ضد المجتمع المدني، الذي يؤدي دوراً بارزاً في تحريض الشارع وتوعيته ضد خطاب النظام ومؤسساته السياسية والدينية. وقد تم سجن عشرين صحفياً منذ اندلاع الاحتجاجات الحالية، وفقاً للجنة حماية الصحفيين، ومقرها واشنطن. كما تم اعتقال العديد من الناشطين والمحامين، بما في ذلك الناشط الحقوقي البارز حسين روناغي الذي تم اعتقاله في 24 سبتمبر. كذلك داهمت القوات الأمنية، مؤخراً، منزل الناشطة والكاتبة غولرخ إيراعي، قبل أن تعتقل هذه الناشطة، المعروفة بحملتها ضد أحكام الرجم في إيران، وقضت معظم العقد الماضي خلف القضبان. ولا يزال الناشط البارز مجيد توكولي، الذي سُجن مراراً في إيران في السنوات الأخيرة بما في ذلك بعد انتخابات 2009 المتنازع عليها، في السجن بعد اعتقاله يوم 24 سبتمبر.
هناك المئات من الأمثلة التي تظهر أن حملة القمع ضد الناشطين والمثقفين المناهضين للسلطات السياسية والدينية والأمنية عملية مستمرة ولا ترتبط بحدث معين، بالرغم من أن الاحتجاجات والحملات المناهضة لهذه السلطة الثيوقراطية تزيد من حدة حملات قمع السلطات للمجتمع المدني في إيران. إذ سبق أن نفذ المحافظون المتشددون حملة لقمع السينمائيين حتى قبل بدء الاحتجاجات الحالية. فبعد وصول الرئيس المتشدد إبراهيم رئيسي إلى سدة الحكم في إيران، زاد القمع الذي يستهدف قطاع السينما، وذلك خوفاً من تأثير الأسماء الإيرانية البارزة، والتي لها تأثير ضد مصالح النظام في الداخل والخارج. فمثلاً، اعتقلت السلطات كلاً من جعفر بناهي ومحمد رسولوف، اللذان يعدان اسمين بارزين على المستوى العالمي، في يوليو الفائت، كجزء من الضغوط المتزايدة التي يخضع لها السينمائيون والفنانون عموماً. وسبق أن حكم على بناهي في 2010 بالسجن 6 سنوات بتهمة "الدعاية ضد النظام". وقبل ذلك تم توقيف العشرات من صناع الأفلام الوثائقية قبل أيام فقط من مهرجان كان السينمائي في مايو الماضي، بينهم مينا كيشافارز وفيروزه خسرافاني.
وبحسب محللين فإن العلاقات بين السلطة والسينمائيين متوترة تاريخياً، إلى حد كبير، في ظل السياق الاجتماعي الحساس، ليس بسبب الغضب المتزايد بشأن الأزمات الاقتصادية فقط، ولكن أيضاً بسبب الضغوط الاجتماعية على الإيرانيين. ففي حين تخشى السلطات من ردود فعل المجتمع الإيراني الذي أصبح أكثر جرأة، يدرك صناع القرار في طهران أن أعمال هذه الموجة من المخرجين التي تندرج ضمن أشكال السينما الاجتماعية، تنتقد بشكل واضح القيود الدينية المفروضة على المجتمع، ما يزيد من تحريض الإيرانيين ضد النظام. وتتناول السينما مظالم النساء، وسوء تعامل المؤسسات الدينية التابعة للنظام الحاكم معها، وهو ما يثير قلق النظام.
وتتزامن حملات القمع والاعتقالات في ظل القيود الشديدة التي تفرضها السلطات على الإنترنت وحجب المواقع بما في ذلك "إنستغرام" و"واتساب"، والتي تهدف إلى سحب أحد أبرز الأدوات التي يستخدمها ناشطو ومؤسسات المجتمع المدني لمواجهة خطاب السلطة السياسي/الديني، وقطع الطريق أمام التخطيط للمظاهرات عبر وسائل التواصل ومنع وصول تفاصيل القمع الأمني إلى العالم الخارجي. وقالت منظمة مراسلون بلا حدود في بيان: "باستهداف الصحفيين وسط قدر كبير من العنف بعد تقييد الوصول إلى واتساب وإنستغرام، فإن السلطات الإيرانية تبعث رسالة واضحة مفادها أنه يجب ألا تكون هناك تغطية للاحتجاجات".
نتائج استراتيجية النظام
يلاحظ المتابع للشأن الداخلي الإيراني أن حملات القمع أسهمت بشكل كبير في الضغط على القوى المدنية والحقوقية والثقافية والنسوية وغيرها من القوى التي تمثل أبرز عناصر المجتمع المدني. لكن بالرغم من ذلك، يُنظر إلى هذا "الانتصار" على انه "تكتيكي" ومرحلي، باعتباره يبقي الضغط على قوى المجتمع المدني، ويبقي المظالم والغضب الشعبي تحت الرماد، والذي يمكن أن ينفجر ويخرج عن السيطرة في أي لحظة. وفي الواقع تزداد قدرات قوى المجتمع المدني وتكسب دعماً أكبر حتى من أطراف شاركت في النظام الإسلامي نفسه.
ما يزيد من قوة المعارضة المدنية المناهضة للسلطة الدينية في إيران هو دعم الشخصيات السياسية الإصلاحية لجهود هذه المعارضة، سواءً في ملفات لها علاقة بالقيود الدينية والاجتماعية أو فيما يخص القضايا السياسية. فمثلاً، دعا حزب "اتحاد شعب إيران الإسلامي" المقرب من الرئيس السابق محمد خاتمي، إلى إلغاء إلزامية ارتداء الحجاب السارية منذ قرابة أربعة عقود، وكذلك إنهاء عمل "شرطة الأخلاق"، وإلى تشكيل لجنة تحقيق "محايدة" في مصرع مهسا أميني. ويعتبر حض الحزب الإصلاحي الأبرز في إيران، في بيان نشره يوم 24 سبتمبر، السلطات على إلغاء إلزامية ارتداء الحجاب، خطوة صريحة لإظهار الدعم القوي والعلني لهذه الاحتجاجات. لكنها من ناحية أخرى، تمنح بعض الدعم المعنوي، على الأقل، للمجمتع بما يمثل ضغطاً على النظام.
وفي مثال آخر، اعتقلت السلطات في يوليو الفائت، مصطفى تاج زاده، نائب وزير الداخلية الإصلاحي السابق الذي تحول إلى ناشط، وذلك بتهمة "العمل ضد الأمن القومي ونشر الأكاذيب لإزعاج الرأي العام"، حسبما ذكرت وكالة مهر للأنباء شبه الرسمية. وقال الإصلاحي تاج زاده، وهو منتقد صريح للحكومة، إن المرشد علي خامنئي يجب أن يتحمل المسؤولية إذا فشلت جهود إحياء الاتفاق النووي.
وهناك الكثير من القوى السياسية المعارضة في الخارج، ولها ناشطون ومؤيدون يعملون في السر داخل إيران. ومن أبرز هذه المنظمات، "مجاهدو خلق"، وكذلك القوى السياسية الكردية والعربية والأذرية، وكذلك حزب "ملت إيران"، وهو حزب سياسي ينشد الديمقراطية العلمانية، وفصل الدين عن الدولة في إيران. والحزب محظور رسمياً في إيران، ويتعرض أعضاؤه باستمرار لمضايقات، ويتم سجنهم في كثير من الأحيان.
تأثير الحراك المدني من الخارج
يستمد المجتمع المدني الإيراني الكثير من قوته من الخارج، حيث ينشط الحراك المدني، الإعلامي والحقوقي والسياسي والتوعوي وغيره، في الخارج بشكل أكبر، حيث هناك الكثير من الخبراء والأكاديميين والإعلاميين والناشطين الحقوقيين ورجال الأعمال الذي يستفيدون من عدم وجود قيود على المنافذ الإعلامية وقنوات التواصل الاجتماعي لمواجهة خطاب السلطة الإيرانية. فخلال الخمسة عشر عاماً الماضية، غادر جزء كبير من الطبقة المثقفة (الطلاب والأساتذة والنخب الثقافية والفكرية) إيران - ما بين 150 و180 ألف شخص سنوياً - حسب بيانات نشرها معهد "الشرق الأوسط" ومقره واشنطن، في سبتمبر 2021. فمثلاً، وفي ردهم على إحياء النظام الايراني "اليوم الوطني للحجاب والعفة" في البلاد في يوليو، دعم إيرانيون خارج البلاد وسماً "هاشتاغ" بعنوان "#حجاب بلا حجاب" على نطاق واسع على وسائل التواصل الاجتماعي على مدى أيام.
وهنا يمكن الاستعانة بمثال الصحافية الإيرانية مسيح علي نجاد، المقيمة في أمريكا، التي حشدت نحو عشرة ملايين متابع على مواقع التواصل الاجتماعي الخاصة بها "ودفعتهم إلى التخلص من أقوى رمز لنظام الفصل العنصري القانوني: الحجاب هو غطاء الشعر الواجب على كل امرأة بالغة". وبحسب صحيفة "نيويورك" الأمريكية "يعيش معظم أتباع مسيح علي نجاد في إيران، مما يجعلها واحدة من أقوى الأصوات في البلاد". وتنقل الصحيفة الأمريكية عن كريم سجادبور، الباحث في مؤسسة "كارنيغي" البحثية، قوله إن "هناك ثلاث ركائز أيديولوجية متبقية للجمهورية الإسلامية. الموت لأمريكا والموت لإسرائيل والحجاب. تفهم مسيح أن الحجاب هو أضعف الأركان الثلاثة. ولن يدافع عنها حتى شركاء طهران في موسكو أو بكين أو بيونغ يانغ أو كاراكاس".
في عام 2014، بدأت مسيح - التي أشارت تقارير استخباراتية أمريكية في عام 2021 إلى أن الأجهزة الأمنية الإيرانية حاولت اختطافها ونقلها إلى فنزويلا - بالضغط على النظام الإيراني من الخارج باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي. في ذلك العام، وأطلقت مسيح حملتها الأولى، بعنوان "حريتي الخفية"، والتي شجعت فيها النساء على تصوير أنفسهن بأشياء محظورة، مثل خلع الحجاب. وبحسب صحيفة "الغارديان" أصبحت أكبر الحركات السياسية المناوئة للنظام في إيران تقودها نساء، مثل حركة "حريتي الخفية"، وهي صفحة اتخذت هدفاً لها يتمثل في الدفاع عن حرية المرأة في إيران بتشجيع الإيرانيات على خلع الحجاب والتقاط صور لأنفسهن ونشرها على الصفحة، ومنذ ذلك الحين، أصبح خلع الحجاب رمزاً لمعارضة النظام الحاكم". وقال سجادبور: "على مدى ثلاثة عقود، عانت المرأة الإيرانية الإهانات اليومية ولم يكن لديها ملاذ. اليوم، يمكنها تصوير المتحرشين والمسيئين إليها وإرسال مقاطع الفيديو إلى مسيح، وسيشاهدها ملايين الأشخاص".
توقعات
بالرغم من الكثير من الجهود التي قادتها حركات مدنية وحقوقية وسياسية لمعارضة النظام الثيوقراطي وقوانينه وأساليبه القمعية، تقول صحيفة "الغارديان" البريطانية إن "الحركة النسائية ولدت في إيران في الشهر الأول من إعلان الجمهورية الإسلامية، وظلت تنضج على مدار عشرين سنة على الأقل. وكانت تلك الحركة تحمل بين طياتها قيماً اجتماعية تقدمية. وينظر الكثيرون في إيران إلى هذه الحركة باعتبارها القوة الاجتماعية المحتملة التالية التي قد تلقي حجراً في المياه الراكدة".
لكن في المقابل، من غير المتوقع أن يغير النظام الايراني استراتيجيته القائمة على نشر الخوف والرعب في صفوف الناشطين المدنيين وقادة الرأي، من خبراء وسياسيين وفنانين وحقوقيين وغيرهم، كوسيلة تعتقد النخبة السياسية والدينية والأمنية في النظام أنها السبب الرئيس في استمرار نظام الجمهورية الإسلامية حتى اللحظة، بالرغم من التحديات الهائلة التي يواجهها هذا النظام في الداخل منذ أكثر من أربعة عقود.