مقالات تحليلية

مخاوف دولية من توسع حرب الطاقة بسبب حادث نورد ستريم

30-Sep-2022

رُصد تسرّب للغاز في موقع رابع من خط أنابيب نورد ستريم في بحر البلطيق الخميس المُستهدف بعمليات تخريب "غير مسؤولة" وفق حلف شمال الأطلسي، في حين دعت موسكو إلى إجراء "تحقيق".

تقول فرانس برس: يأتي التسرّب الواسع في هذه المنشآت الاستراتيجية التي تربط بين روسيا وألمانيا على خلفية الصراع في أوكرانيا والمواجهة المستمرة بين الغرب وموسكو.  وكشف خفر السواحل السويديون عن التسرّب الرابع في الجانب السويدي ليضاف إلى تسربات في ثلاثة مواقع أخرى سبق أن كُشف عنها في البلطيق أحدها في الجانب السويدي أيضاً واثنان منها في موقعين في الجانب الدنماركي.

حدثت التسرّبات بعد انفجارات مشبوهة الاثنين في المياه الدولية قبالة جزيرة بورنهولم الدنماركية، ولكن في المنطقتين الاقتصاديتين الخالصتين التابعتين للدولتين الإسكندنافيتين. وتظهر التسرّبات على سطح الماء مع وجود فقاعات كبيرة.

ومع تدفق الغاز تحت بحر البلطيق لليوم الثالث بعد اكتشافه لأول مرة، لم يتضح بعد من الذي قد يكون مسؤولاً عما يقال إنه "تخريب" لخطوط أنابيب "نورد ستريم"، وهي الأنابيب التي أنفقت روسيا وشركاؤها الأوروبيون مليارات الدولارات على بنائها.

على الصعيد الأمريكي، كرر الأمريكيون وجهات نظر ألمانيا والدنمارك والسويد، حول أن التخريب محتمل، إلا أن مسؤولاً عسكرياً أمريكياً كبيراً، قال لـ “رويترز" إن واشنطن التي قادت جهود معاقبة موسكو بشأن الحرب، تعتقد أنه من السابق لأوانه استنتاج أن هناك تخريباً. وهو نفس توجه تصريحات وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، ووزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن، حيث تجنب الوزيران الإشارة المباشرة إلى روسيا، رغم أن المناخ الأوروبي العام يتهم موسكو بشكل غير مباشر بعملية التخريب.

في الواقع لا تنفي أمريكا احتمالية التخريب لكنها لا تقول بها بشكل مطلق، إذ أن مصادر إعلامية أمريكية ذكرت بالتزامن مع حوادث التسريب الحالية، بأن واشنطن كانت قد حذرت من احتمالية حدوث خلل، وتحديداً تسرب للغاز من أنابيب "نورد ستريم" التي تحتاج للصيانة. من جهتها شركة "غازبروم" الروسية، كانت قد انتقدت العقوبات الأمريكية والكندية قائلة إن هذه العقوبات أعاقت عمليات الصيانة الضرورية جداً لأنبوب "نورد ستريم1".

إلا أن التحقيقات المبدئية، وبعض المؤشرات التي تم تجميعها من هنا وهناك من قبل الأوروبيين تصر على أن التسربات التي تكاد تكون كارثية على الصعيد البيئي، والتي تسببت في زيادة مباشرة بأسعار الغاز الأوروبية مفتعلة، أو كما يسميها الأوروبيون "أعمال تخريبية"، ويشيرون إلى روسيا بذلك. موسكو من جهتها، ورغم إعلانها أن أنابيبها العابرة للبلطيق باتجاه أوروبا كانت تحتاج إلى الصيانة، توافق الأوروبيين على أن التسربات في "نورد ستريم1" ناتجة عن "عمل تخريبي"، وتتهم المخابرات الأمريكية بذلك.

وقالت وزارة الخارجية الروسية يوم الخميس، في مقابلة مع برنامج "سولوفييف لايف" إن التصدعات في خط أنابيب "نورد ستريم" التي تسببت في تسرب الغاز قبالة سواحل الدنمارك والسويد حدثت في منطقة تخضع للسيطرة الكاملة لوكالات المخابرات الأمريكية. وقالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، إن واشنطن لديها سيطرة كاملة على المياه حول الدنمارك والسويد حيث تم الكشف عن أربع تسربات في خط أنابيب "نورد ستريم1" و"نورد ستريم2"، اللذين يعبران قاع بحر البلطيق. بين روسيا وألمانيا. وأضافت: "حدث ذلك في المناطق التجارية والاقتصادية في الدنمارك والسويد.. إن هناك دولاً مركزية للناتو.. إنها دول تسيطر عليها بالكامل أجهزة المخابرات الأمريكية".

وقالت البعثة الفرنسية التابعة للأمم المتحدة، التي تتولى رئاسة المجلس المكون من 15 عضواً في سبتمبر، إن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة سيجتمع يوم الجمعة بناء على طلب روسيا لمناقشة الأضرار التي لحقت بخطوط الأنابيب.

وتعليقاً على هذا الطلب، أوضحت السفارة الروسية في واشنطن أن موسكو طلبت عقد الاجتماع لأنها تصر على ضرورة إجراء فحص شامل وموضوعي لظروف الهجمات غير المسبوقة على خطوط الأنابيب الروسية. كما اتهمت السفارة، في بيان في وقت مبكر من يوم الخميس على قناتها على "Telegram"، الولايات المتحدة بمحاولات "إخراج روسيا من سوق الطاقة من خلال أساليب غير سوقية وعقوبات".


أضرار التسربات الاقتصادية والبيئية

تم إيقاف خطوط أنابيب "نورد ستريم1"، ولم يبدأ "نورد ستريم2" حتى كانت جميعها تحتوي على غاز طبيعي مضغوط، والغالبية العظمى منه عبارة عن غاز الميثان. وقالت وكالة البيئة الفدرالية الألمانية إن حسابها لكمية الميثان المنبعثة كان يستند إلى حالة الملء المقدرة ومعلومات الحجم من خطي الأنابيب. وقالت الوكالة في بيان: "لا توجد آليات احتواء على خطوط الأنابيب، لذا من المرجح أن تتسرب محتويات الأنابيب بالكامل".

وتقدر ألمانيا 300 ألف طن متري من غاز الميثان المتسرب، ويعتقد العلماء أنه يمكن أن يكون أحد أسوأ التسربات على الإطلاق.. هذا وتشير بركة المياه الفوارة التي يبلغ عرضها 700 متر في بحر البلطيق والناجمة عن تمزق خطوط أنابيب الغاز "نورد ستريم" إلى كارثة مناخية.

وفيما يتعلق بمستقبل أداء هذه الأنابيب، قال جينس شومان، العضو المنتدب لشركة شبكة خطوط أنابيب الغاز "Gasunie Deutschland"، إنه "متفائل نسبياً" بإمكانية إصلاح الضرر. وقال شومان: "هناك فرق جيدة في المكان للتعامل مع حوادث خطوط الأنابيب، وهناك مخزونات طارئة للأنابيب وخبراء في البر والبحر". لكن وكالات الأمن الألمانية تخشى أن يصبح "نورد ستريم1" غير قابل للاستخدام إذا تدفقت كميات كبيرة من المياه المالحة إلى الأنابيب وتسببت في التآكل، حسبما ذكرت صحيفة " "تاغس شبيغل" الألمانية، نقلاً عن مصادر حكومية.

على الصعيد الاقتصادي، فقد نقلت التقارير، أن أسعار الغاز الأوروبية قد ارتفعت بعد أنباء التسربات. حيث قفز السعر القياسي لشهر أكتوبر تشرين الأول بنسبة 11٪ إلى 204.50 يورو/ميجاوات ساعة يوم الأربعاء. ورغم أن الأسعار لا تزال أقل من قمم هذا العام، إلا أنها تبقى أعلى بنسبة 200٪ مما كانت عليه في أوائل سبتمبر 2021. 

ومن الجدير بالذكر أنه في حين لم يكن أي من خطي الأنابيب ينقل الغاز إلى أوروبا في ذلك الوقت، إلا أن الحوادث أعاقت أي توقعات متبقية بأن أوروبا قد تتلقى الوقود عبر "نورد ستريم1" قبل الشتاء. فرداً على العقوبات الأوروبية والأمريكية على روسيا، أوقفت شركة "غازبروم" توريد الغاز عبر "نورد ستريم1" إلى ألمانيا في أغسطس الماضي، لكن الآمال كانت باقية بأن يتم التوصل إلى حل مع الشركة الروسية قبل الشتاء القريب في ألمانيا.

لقد خفضت روسيا إمدادات الغاز إلى أوروبا عبر "نورد ستريم1" قبل تعليق التدفقات بالكامل في أغسطس، وألقت باللوم على العقوبات الغربية في التسبب بصعوبات فنية، إذ قالت موسكو إن هذه العقوبات قد أعاقت أعمال الصيانة اللازمة لهذا الأنبوب. من جهتهم يقول السياسيون الأوروبيون إن ذلك كان ذريعة لوقف إمداد الغاز. بالمحصلة أثرت هذه التسربات على أسعار الغاز في أوروبا، لاسيما وأن القارة على أعتاب فصل الشتاء الذي يشهد الاستهلاك الأكبر للغاز، وأن "غازبروم" تقول من جهتها إنها لا يمكن أن تعطي موعداً محدداً لإصلاح الضرر الحاصل على مستوى "نورد ستريم1".


الاستجابة الجيوسياسية لحادث "نورد ستريم

يتخذ الاتحاد الأوروبي منحى أكثر "عدائية" في التعاطي مع حادث التسربات، على عكس رد فعل أمريكا، الذي يبدو أكثر تأنياً، وأقل رغبة في التصعيد أو الاتهام، ولعل ذلك يأتي لتأثير الحادث في الأمن الطاقوي الأوروبي، مثلما أسلفنا أعلاه. حيث كانت أوروبا تأمل في الحصول على الغاز من "نورد ستريم1"، وهو ما جعل بروكسيل أكثر تشدداً في ردها بالمقارنة مع أمريكا. روسيا من جهتها دعت إلى جلسة طارئة لمجلس الأمن، إلا أنها تعمدت كذلك إضفاء بعض الغموض على موقفها.

فالحادث يجعل الأوروبيين أكثر قلقاً على مصادرهم الآمنة من الطاقة، كما يسرع من عمليات الصيانة التي يحتاجها أنبوب "نورد ستريم1"، ويمهد لاتخاذ قرارات تستثني أعمال الصيانة، وكل ما يتعلق بها من العقوبات، الأمر الذي سيجنب البنى التحتية الآثار التصنيعية التي تترتب على العقوبات. فبسبب تعثر أعمال الصيانة بشكل غير مباشر نتيجة العقوبات، وبسبب التوقف الطويل تتضرر البنى التحتية المرتبطة بالطاقة.

بشكل عام ترغب روسيا في خلق حالة من الهلع، ومن انعدام الأمن الطاقوي، وتعزيز هذا الشعور أوروبياً، إلا أن هذا لا يعتبر دليلاً دامغاً على أن موسكو قامت بتفجيرات أو بعمليات أياً كان نوعها تسببت في أربع تسربات لأحد أهم الأنابيب الروسية الناقلة للغاز.

وبالعودة إلى أوروبا، ذكرت صحيفة "دير شبيغل"، في وقت سابق أن المخابرات الأمريكية حذرت هذا الصيف الحكومة الألمانية من هجوم محتمل على خطوط أنابيب الغاز في بحر البلطيق. ونقلاً عن مصادر مطلعة على الموضوع، قالت المجلة الإخبارية إن وكالة المخابرات المركزية أصدرت مثل هذا التحذير قبل أسابيع قليلة فقط.

ومتحدثاً نيابة عن الدول الأعضاء الـ 27، قال مسؤول السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي يوم الثلاثاء إن التسربات من خطي أنابيب للغاز تحت البحر بين روسيا وألمانيا هذا الأسبوع لم تكن مصادفة، وسيتم الرد عليها برد فعل قوي ومشترك.

هذا ونشر وزير خارجية لاتفيا، إدغار رينكوفيس، على وسائل التواصل الاجتماعي أنه يبدو أننا ندخل مرحلة جديدة من الحرب المختلطة، دون أن يذكر من يعتقد أنه مسؤول. وأضاف: "يجب تصنيف أعمال التخريب في خطوط أنابيب نورد ستريم1 و2 على أنها أخطر الحوادث الأمنية والبيئية في بحر البلطيق".

وبرد فعل أقل عدائية، قالت وزيرة الدفاع الألمانية، كريستين لامبرخت: "لقد أوضح العمل التخريبي المفترض على خطوط أنابيب بحر البلطيق مرة أخرى مدى اعتمادنا على البنية التحتية الحيوية بما في ذلك تلك الموجودة تحت الماء". لكنها حثت على توخي الحذر عند تحديد الجناة أثناء إجراء التحقيقات.

من جهتها قالت وزيرة الداخلية الألمانية يوم الأربعاء إن البلاد يجب أن تستعد لتهديدات "لم يكن من الممكن تصورها" من قبل لأمن الطاقة بعد تسرب خط الأنابيب. وأضافت نانسي فريزر: "علينا التكيف مع السيناريوهات التي لم يكن من الممكن تصورها في السابق". وهذا يتطلب سلطات أمنية قوية تتمتع بالموارد والصلاحيات اللازمة.

أما المعارضة السياسية في ألمانيا، فقد كانت أكثر صراحة. إذ قال رودريش كيسويتر، عضو البرلمان عن الاتحاد الديمقراطي المسيحي المحافظ، لصحيفة "الغارديان" إن هجوم خط الأنابيب يحمل بصمات نهج الحرب المختلطة الذي اتبعته روسيا على مدار العقد الماضي، بهدف تقسيم الاتحاد الأوروبي. ليس بالجيش، بل بالوسائل الاجتماعية والدبلوماسية.

وأضاف الأخير: "روسيا، لديها مصلحة في إرسال إشارة إلينا... أن تهددنا بأنها قد تسبب أضراراً مماثلة لخطوط الأنابيب بين الجزائر وفرنسا، أو لخطوط الطاقة أو كابلات الألياف الضوئية البحرية... أعتقد أنه من المحتمل أن روسيا كانت وراء هذا الهجوم".

خلاصات واستنتاجات

يقول سياسيون في الاتحاد الأوروبي إن انفجارات "نورد ستريم" قد تبشر بمرحلة جديدة من الحرب المختلطة، النرويج مثلاً ستظهر الجيش في منشآت النفط والغاز في شكل جولات تكتلية على روسيا للاشتباه في عمل تخريبي. وقال رئيس الوزراء النرويجي يوناس غور ستور إن جيش بلاده سيكون أكثر حضوراً في منشآت النفط والغاز. وذلك بعد أن حذر سياسيون في جميع أنحاء أوروبا من أن التخريب المشتبه به لخطي أنابيب "نورد ستريم" قد ينذر بمرحلة جديدة من الحرب المختلطة التي تستهدف البنية التحتية للطاقة الضعيفة من أجل تقويض الدعم لأوكرانيا.

وأضاف يوناس غار ستور في مؤتمر صحفي، أن بلاده ستعزز الوجود العسكري في المنشآت النرويجية بعد أن أصبحت البلاد أكبر مورد للغاز الطبيعي لأوروبا. مضيفاً أن أي هجوم على المنشآت البحرية لعضو "الناتو" سيتم التعامل معه بالاشتراك مع حلفائه.

من الجدير بالذكر كذلك، أن النرويج كانت قد أعربت عن قلقها بشأن عدد من المشاهدات الأخيرة لطائرات بدون طيار أو طائرات مجهولة الهوية داخل مناطق حظر السلامة التي تحيط بمنشآت النفط والغاز. كما قال وزير الطاقة النرويجي، تيرجي أسلاند، يوم الثلاثاء إن أوسلو تنسق مع القوات المسلحة والشرطة ومشغلي صناعة النفط والغاز النرويجية بشأن القضايا الأمنية. 

هذه التصريحات والبيانات من النرويج، تدل على أن الأوروبيين يتوقعون أن يتم استهداف مصادر الطاقة الأكثر أمناً بالنسبة لهم، وأوسلو تعتبر من أبرز هذه المصادر. وهو ما يؤشر على حالة من القلق الدائم ستكون عنوان الشتاء المقبل في أوروبا، وهو قلق سيوسع الهوة بين أوروبا وروسيا. وقد يخلق بعض الخلافات بين الدول الأوروبية نفسها، وخلافات داخل الدولة الواحدة نظراً لتضارب الدوافع الأخلاقية مع الحاجات الضرورية، وهنا نشير إلى ألمانيا تحديداً.. هذا كله سيلقي بثقله على أسعار الغاز التي قد ترتفع بتأثر من كل هذه العوامل، وفي أحسن الحالات ستبقى الأسعار غير ثابتة.


51