وضعت المواجهة الاقتصادية بين الولايات المتحدة والصين، أوروبا في مرمى النيران فيما تهدّد خطة “قانون خفض التضخم" الأميركية لتعزيز الصناعات الخضراء بإحداث أضرار جانبية لحليف رئيسي لها.
نص "قانون خفض التضخم" الذي خصص له 430 مليار دولار، على تقديم إعانات للصناعات الخضراء مثل الشركات المصنعة لبطاريات السيارات الكهربائية والألواح الشمسية، على غرار النموذج الصيني للإعانات على أراضيها، شرط أن تصنع الشركات هذه المنتجات في الولايات المتحدة.
وقال الباحث في المجلس الأوروبي للعلاقات الدولية توبياس غيركه "أحد الأهداف الرئيسية للقانون الأميركي لخفض التضخم هو استبعاد الموردين الصينيين من سلاسل إنتاج الطاقة النظيفة" معتبرا أن الولايات المتحدة فكّرت "أولا وقبل كل شيء" في مصلحتها الخاصة من حيث استحداث فرص العمل والتصنيع وكذلك تقليل اعتمادها على الصين.
وتشكل الصين لاعبا رئيسيا في قطاع السيارات الكهربائية مع سيطرتها على 78 % من الإنتاج العالمي لخلايا البطاريات وثلاثة أرباع المصانع الكبرى لتصنيع بطاريات الليثيوم-أيون، وفقا لدراسة أجراها معهد بروكينغز في واشنطن.
مواجهة شرسة
بالنسبة إلى الولايات المتحدة، لم تطرح مسألة أوروبا في هذا الملف إلا في مرحلة لاحقة، وفق ما أضاف غيركه، كما حصل بالنسبة إلى كوريا الجنوبية أو اليابان، وهما بلدان حليفان تقليديان لواشنطن لكنهما استثنيا من الإعانات، خلافا للمكسيك وكندا.
من جهتها، قالت سيسيليا مالمستروم المفوضة الأوروبية السابقة للتجارة والتي أصبحت الآن عضوا في معهد بيترسون للبحوث في واشنطن لوكالة فرانس برس "أصبحت أوروبا ضحية نوعا ما" في هذا الجهد لتقليل الاعتماد على الصين، مضيفة "لا أعتقد أنه كان مقصودا استهداف الأوروبيين".
فقد بدأت المواجهة الشرسة على المستويين الاقتصادي والتكنولوجي منذ وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. اتّخذ ذلك بداية شكل رسوم جمركية عقابية في وقت مبكر من العام 2018 بقيت سارية بعد انتخاب جو بايدن الذي اعتمد هو أيضا لهجة متشددة تجاه بكين.
بالإضافة إلى ذلك، فرضت واشنطن في تشرين الأول/أكتوبر قيودا على تصدير بعض المكونات الإلكترونية إلى الصين باسم المصلحة الوطنية بتبنيها "قانون الرقائق الإلكترونية والعلوم" (تشيبس آكت) الذي يوفر حوالى 53 مليار دولار لدعم إنتاج أشباه الموصلات في الولايات المتحدة... وصولا إلى "قانون خفض التضخم".
وكتب جون بيتمان من مركز كارنيغي إندومنت للسلام الدولي للبحوث في مجلة فورين بوليسي أن الأميركيين سيسعون "إلى إبطاء الازدهار التكنولوجي للصين بأي ثمن".
سباق إلى الإعانات
تعمّقت مخاوف أوروبا عقب الأزمة الاقتصادية وأزمة الإمداد اللتين تسببت بهما جائحة كوفيد والحرب في أوكرانيا التي وضعت قواعد العولمة محل تساؤل. وتثير هذه الأولوية العالمية مخاوف من حدوث سباق للحصول على الإعانات في الولايات المتحدة وفي الصين، وكذلك في أوروبا حيث تريد المفوضية تسهيل توزيع مساعدات حكومية ردا على سياسيات منافسيها.
يقول باسكال لامي، المدير العام السابق لمنظمة التجارة العالمية، إن على أوروبا "ممارسة الضغط" على واشنطن لأن الخطة "معادية لأوروبا أكثر مما هو معادية للصين". كذلك، يثير هذا الجمود بين الحليفين التاريخيين مسألة الإستراتيجية الأوروبية تجاه الصين وفق توبياس غيركه في حين أصبحت المكونات الصينية في صلب عملية تصنيع السيارات الكهربائية في القارة.
وقال غيركه "كما يحصل في الولايات المتحدة، فإن سلاسل إمداد الطاقة النظيفة في أوروبا تعتمد بشكل خطر على الصين" مشيرا إلى أن "التركيز على هذا الارتهان يصب في المصلحة الاقتصادية للاتحاد الأوروبي وقد يقنع واشنطن بأن أوروبا حليف ضروري في مواجهة الصين".
أوروبا ترفض المساعدات
في حقل في شمال ألمانيا تعصف به الريح، يفترض أن يبنى مصنع ضخم لإنتاج بطاريات كهربائية بهدف تعزيز السيادة الصناعية لأوروبا... إذا لم تنسف خطة المناخ الأميركية الكبرى كل شيء.
تم اختيار الموقع قرب هادي، البلدة المتواضعة على بعد 100 كيلومتر من هامبورغ، في مارس من قبل شركة نورثفولت السويدية لبناء "أنظف" مصنع للبطاريات في العالم. الهدف: تجهيز مليون سيارة كهربائية سنويا وتقليل اعتماد أوروبا على المصنعين الصينيين المهيمنين بشدة في هذا المجال.
لكن الخطة الأميركية "قانون خفض التضخم" التي تنص على استثمارات تزيد على 430 مليار دولار بينها 370 مليارا للحد من انبعاث غازات الدفيئة، قد تعيد خلط الأوراق.
ففي أكتوبر 2022 صرح بيتر كارلسون رئيس مجلس ادارة شركة نورثفولت للصحافة الألمانية أن المشروع "قد يؤجل" لتعطي المجموعة "الأولوية للتوسع في الولايات المتحدة" حيث تنتظر مساعدات سخية الشركات المصنعة للبطاريات التي تنتج على الأراضي الأميركية.
جذب القيمة المضافة
يقول مارتن بيتر المتحدث باسم اتحاد المعادن IG Metall إن "على اوروبا التحرك" معتبرا أن من "الطبيعي" أن يغير العرض الأميركي قرارات المستثمرين. واضاف أن مستقبل ألمانيا "أمة السيارات" وأكبر اقتصاد في أوروبا، رهن بوجود قاعدة صناعية تنتج "المكونات ذات القيمة المضافة الأكثر أهمية" كالبطاريات.
في مواجهة الاحتجاجات، تسعى نورثفولت للطمأنة. وقال متحدث باسم المجموعة لوكالة فرانس برس إن الشركة السويدية ما زالت "ملتزمة بتوسعها في اوروبا". وأكد بيورن يورغنسن المسؤول عن تطوير مجتمع البلديات حول هادي لفرانس برس أن الشركة المصنعة "لم تعلق" المشروع والنقاشات مستمرة حول موقع هادي. مع ذلك بدأت مجموعات عدة مثل نورثفولت بالنظر عبر الأطلسي.
بعض الشركات المصنعة للألواح الشمسية مثل "ثري سان" 3Sun الإيطالية و"ماير برغر" Meyer Burger السويسرية أعلنت عن خطط لتوسيع أو إنشاء مصانع في الولايات المتحدة. لذلك تدعو الصناعة الأوروبية إلى رد قوي من دول الاتحاد الأوروبي ضد الخطة الأميركية، حتى لا تنسف جهودها لعملية التحول البيئي.
يقول أديتيا ميتال رئيس مجلس ادارة "ارسيلورميتال" ArcelorMittal مؤخرا: "أعتقد أن الرد على الخطة الاميركية أمر لا مفر منه". وتنوي مجموعته استثمار 1,7 مليار يورو للحد من الانبعاثات في مراكزها الصناعية في شمال فرنسا. من جهته، حذر غيوم فوري رئيس مجموعة إيرباص مطلع ديسمبر من أن "الوتيرة ستتسارع بقوة في الولايات المتحدة إذا لم يحدث شيء في أوروبا".
صنع في اوروبا
المفوضية الأوروبية قدمت مقترحاتها الأولى للرد على الخطة الأميركية والتي تنص خصوصا على تخفيف القواعد المفروضة على المساعدات العامة. لكنه اقتراح لا يمضي بعيدا بما فيه الكفاية وفقا لبعض الفاعلين في مجال الطاقة المتجددة.
وقالت كارين فيرنييه المديرة العامة في "فرانس اينو انيرجي" التي تمول مشاريع الطاقة لفرانس برس "أحدث الأميركيون قانون خفض التضخم لأسباب تتعلق بسيادة الطاقة، وعلى أوروبا أن تفعل الشيء نفسه". وقال دانيال بور رئيس الاتحاد الفرنسي لصناعة الطاقة الشمسية "انربلان" Enerplan "السؤال السليم الذي يجب طرحه هو ما إذا كان علينا الحد من السلع + المصنوعة في أوروبا +".
وقد أشارت المفوضية الى إمكان إنشاء صندوق جديد للاتحاد الأوروبي لدعم الصناعات الخضراء. لكن الفكرة تعارضها بقوة بعض الدول الأعضاء ولا سيما ألمانيا التي ترفض أي دين مشترك جديد. وكان وزير المال كريستيان ليندنر اعلن مؤخرا "لسنا بحاجة الى ادوات مالية جديدة".
وفيما ترغب في صدور "رد" على الخطة الاميركية، تحذر الصناعة الألمانية التي تعتمد بقوة على السوق الأميركية، أيضا من حرب تجارية بين الولايات المتحدة وأوروبا. في ذلك قال سيغفريد روسورم رئيس اللوبي الصناعي الألماني "نحن بحاجة إلى حوار بين الأصدقاء، فالشراكة عبر الأطلسي أصبحت أكثر أهمية من أي وقت مضى".