مقالات تحليلية

التطلعات الأميركية لإعادة ترتيب أوراق أوراسيا، بين الدبلوماسية والتعقيدات الجيوسياسية

14-Dec-2023

تُظهر قوى منطقة أوراسيا نضجاً أكبر في التفاعل مع المشهد الجيوسياسي المترتب عن العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وذلك عبر قراءة أعمق للتغيرات الإستراتيجية الناتجة والتي ستَنتُج لاحقاً عن هذه الحرب المستمرة، والتي يأتي في مقدمتها ملف الطاقة المرتبط بخطوط النقل وطرق العبور. إن الحرب الروسية الأوكرانية سرّعت التنافس الجيوسياسي الذي كانت الصين قد بدأته رسمياً سنة 2013 عندما أعلنت عن مبادرة الحزام والطريق التي لفتت الانتباه أكثر إلى المكاسب الإستراتيجية سياسياً واقتصادياً الناجمة عن تمحوُرٍ أكبرَ كعقدة أساسية في طُرُق النقل وممرات العبور.

في ظل التنافس الكبير بين قوى المنطقة، وعلى رأسها روسيا التي توظف ورقة الطاقة في حربها مع الغرب، والصين التي تمضي قدماً في بناء طريقها التجاري، والهند التي تتسلق سُلّم الاقتصاد الدولي بتوقعات متفائلة، وتركيا التي تُصِر على عبور أغلب الطرق من خلالها، وإيران التي ترى في تحولها إلى عقدة جيواقتصادية توازناً مناسباً يُجنِّبها ضغط العقوبات الأميركية.. في ظل كل هذه التوازنات تظهر الولايات المتحدة الأميركية على الصورة مجدداً محاولة "إعادة ترتيب أوراق أوراسيا" وفقاً لوصف بعض المعلقين الأميركيين.

هذا الدور الأميركي، تناقلت منابر تحليلية عديدة أنه أسهم وبشدة في التقارب المثير للانتباه بين تركيا واليونان من جهة، وفي بيان التطبيع المفاجئ الذي أصدرته أرمينيا وأذربيجان من جهة أخرى. فرغم أن اللقاءات كانت ثنائية بين القادة في باكو ويريفان، ولم يُعلَن عن طرف ثالث، فإن مصادر كثيرة أشارت إلى "وساطات وراء الكواليس، خاصة أن صدور البيان وقرار إجراء انتخابات مبكرة في أذربيجان، جاء في اليوم التالي لزيارة موفد أميركي لباكو".


الوقود الأحفوري وليس الأرمن 

وفي تعليقها حول هذا التطرف قالت مجلة "التركيز على السياسة الخارجية" الأميركية: "في القوقاز، أولوية الولايات المتحدة هي الوقود الأحفوري، وليس الأرمن. لا يزال المسؤولون الأميركيون متفائلين بشأن فرص إنشاء خطوط أنابيب جديدة للطاقة. ويكثف المسؤولون في واشنطن جهودهم لإنشاء ممر جديد للطاقة يمر عبر القوقاز، وهو طريق عبور رئيسي للتجارة والطاقة يربط بين أوروبا وآسيا".

في هذا السياق قال جيمس أوبراين، المسؤول بوزارة الخارجية، للكونجرس في نوفمبر الماضي: "إن ممر العبور الذي تم بناؤه بمشاركة وموافقة أرمينيا يمكن أن يكون بمثابة نعمة هائلة للدول في جميع أنحاء المنطقة وللأسواق العالمية". كما قال السيناتور جيمس ريش (جمهوري من ولاية آي دي) في بيان العام الماضي: "إن منطقة القوقاز مهمة للغاية لأنها مفترق طرق بين أوروبا وآسيا والشرق الأوسط. إن الاتفاقيات التجارية واتفاقات الطاقة والبنية التحتية والاستثمار، لديها القدرة على دمج المنطقة بشكل أفضل داخل مجتمع عبر الأطلسي".

على السياق نفسه، أضافت المجلة الأميركية "تقع أذربيجان في قلب التخطيط الأميركي. ونظراً إلى موارد الطاقة الواسعة في البلاد، وخاصة النفط والغاز الطبيعي، رأى المسؤولون الأميركيون أن أذربيجان هي المفتاح لإنشاء منطقة القوقاز بقيادة الولايات المتحدة، والتي من شأنها أن تساعد أوروبا على الانتقال بعيداً عن اعتمادها على الطاقة الروسية. جزء من هذه الإستراتيجية هو توصيل المزيد من الغاز والنفط الأذربيجاني إلى أوروبا".

من وجهة نظر الولايات المتحدة، هناك إنجاز جيوسياسي كبير آخر يتمثل في ممر الغاز الجنوبي الذي يجمع بين ثلاثة خطوط أنابيب منفصلة، ويمتد من أذربيجان إلى أوروبا. منذ تسليماته الأولية للغاز الطبيعي إلى أوروبا في عام 2020، كانت للممر أهمية بالغة لإبقاء أوروبا مزودة بالطاقة خلال الحرب في أوكرانيا. إن ممر الغاز الجنوبي مهم للغاية لضمان وجود تنوع في الطاقة لتركيا واليونان وبلغاريا، وربما ألبانيا، وبالتأكيد إيطاليا، وربما إلى غرب البلقان.

علماً أنه في عام 2009، لولا صراع ناغورنو كاراباخ المجمد، لكان من الممكن تمرير خط أنابيب باكو-تبليسي-جيهان عبر أرمينيا، مما يقلل المسافة وتكلفة البناء، ويوفر لأرمينيا مصدراً بديلاً للغاز، فضلاً عن رسوم العبور التي تشتد الحاجة إليها.


تركيا فاعل أساسي في المحاولات الأميركية في القوقاز

الآن بعد أن سيطرت أذربيجان على ناغورنو كاراباخ، يجدد المسؤولون الأميركيون جهودهم لإقناع أرمينيا وأذربيجان بالتوصل إلى اتفاق سلام يمكن أن يكون الأساس لممر جديد للطاقة. إلا أن مشروعات ورؤى كهذه تواجهها عقبات كبيرة، تحتاج إلى مشاركة ملموسة من تركيا، التي يُرى أنها قادرة على ضبط إلهام علييف. في الواقع يتخوف الأميركيون من أن علاقات باكو العسكرية مع تركيا وإسرائيل قد تقودها إلى إطلاق عمليات عسكرية جديدة في أرمينيا، وربما توتير الوضع أكثر حول الشمال الإيراني.

لذا تبدو تركيا مجدداً عقدة أساسية في الإستراتيجية الأميركية، وستستفيد أنقرة بدورها مجدداً من الحاجة الأميركية والغربية الماسة لدورها في ضبط إيقاع المقاربة الأميركية للمنطقة. إن الأسابيع الماضية أثبتت أن أنقرة تفكر بواقعية اقتصادية قد تتماشى فعلياً مع التطلعات الأميركية والأوروبية، وقد تكون نتائجُها أفضل إذا تماشى الأوروبيون والأميركيون مع طرح أردوغان المبني على مبدأ رابح/رابح (Win/Win).

وتعد زيارة الرئيس رجب طيب أردوغان لليونان بعد ست سنوات، من أقوى المؤشرات على دخول العلاقات بين البلدين مرحلة التطبيع. الخطوة التركية تعكس اهتمام أنقرة بمشروع خط الأنابيب عبر قزوين، لذلك فإن مساحة الحوار بين أنقرة وأثينا سوف تظهر من جديد، وسيؤدي المشروع إلى زيادة كبيرة في القدرة التصديرية لدول آسيا الوسطى الخمس للغاز نحو اليونان، عبر تركيا. كما تعد العلاقة المتزايدة مع اليونان خطوة نحو تحسين علاقات تركيا مع الاتحاد الأوروبي، الذي تحاول البلاد الانضمام إليه.


خلاصات

بالنتيجة، تبدو الإستراتيجية الأميركية في تحويل أو تحجيم الخطط الجيوسياسية والجيواقتصادية لممرات العبور الروسية وحتى الصينية، وربما الإيرانية نشطة إلى حد كبير. لكن هذه الإستراتيجية تحتاج إلى تفاعل أطراف التسويات معهم معقدة وصعبة للغاية ولديهم علاقات متشابكة مع منافسي أميركا. في حين أن حلول الخلافات التي تدفع أميركا نحوها سواء بين اليونان وتركيا أو أذربيجان وأرمينيا أو تركيا وأرمينيا، كلها مصالحات سطحية تتجنب حل المعضلات الأساسية التي تسببت بنزاعات معقدة.. قد تراهن أميركا على المكاسب الاقتصادية كحصن لتجنب الانزلاق إلى التوتر مجدداً، إلا أن المكاسب الاقتصادية لم تثبت في أغلب الأحيان أنها حصن منيع ضد عودة التوترات، بل قد تكون محركاً لاحتدام التنافس المتوتر حول طرق العبور، ومهدئاً مؤقتاً لتحالفات هشة في بيئة سريعة التغير. 


32