مقالات تحليلية

مخاوف بايدن تعيد التذكير بمسيرة وتطور الديمقراطية الأميركية

24-Nov-2022

قبل انطلاق انتخابات التجديد النصفي حذر الرئيس الأمريكي جو بايدن من أن فوز الجمهوريين قد يضعف المؤسسات الديمقراطية في الولايات المتحدة ويفسد الكثير من إنجازات رئاسته على مدى عامين ماضيين.

بايدن قال في السابع من نوفمبر 2022، أمام حشد في جامعة بووي الواقعة خارج واشنطن والمعروفة تاريخيا بأنها واحدة من جامعات الأمريكيين من أصول أفريقية: "نمر اليوم بمنعطف خطير نعلم تمام العلم أن ديمقراطيتنا في خطر ونعلم أن هذه هي اللحظة المناسبة للدفاع عنها".

الولايات المتحدة لم تكن عند ولادتها دولة ديمقراطية كما نراها الآن، فقد كان لوقع هذه الكلمة إيحاءات ازدراء تستدعي صور الفوضى. علاوة على ذلك، ومن الناحية العملية، كان عدد قليل نسبيا من سكان الدولة الجديدة قادرين على المشاركة في الانتخابات، لأن عددا ليس بالقليل تم استبعاده من التصويت، من بينهم الأمريكيين من أصل إفريقي، والأمريكيين الأصليين، والنساء، والرجال الذين لم يبلغوا، والرجال البيض البالغين الذين لا يمتلكون أرضا. فقط جزء صغير من السكان أدلوا بأصواتهم في الانتخابات التي رفعت إلى منصب الرئاسة كل من "جورج واشنطن" 1789 و"جون آدامز" 1797.

ميلاد وتصاعد الديمقراطية

عن نظام الحكم الأمريكي في بدايته يذكر "موريس ديفرجيه" في كتابه عن "النظم السياسية، ص 94"، أن واضعي الدستور الأميركي الذين اجتمعوا في فيلادلفيا عام 1787 لم يدعوا مطلقا أنهم قاموا بعمل مبتكر، وإنما أرادوا اقتباس نظام ثبت بالتجربة صلاحيته للحكم، وهو النظام الإنجليزي، الذي اشتقوا منه بعد تحويره. ومن المعروف أن النظام الإنجليزي كان يختلف بشكل كامل عن النظام المتبع اليوم، فلم يكن النظام البرلماني قد استقر بعد، لكنه كان يلاءم طبيعة الحياة في العالم الجديد، فأخذوا عنه، لكنه لم يكن ديمقراطيا بشكل كبير.

ومن المؤكد أن الثقافة السياسية للأمة الأميركية أصبحت أكثر ديمقراطية بين الثورة الأمريكية ومنتصف القرن التاسع عشر. وهو ما نطلق عليه "عصر الثورات الديمقراطية". تلك الحقبة التي شهدت ازدهار "ديمقراطية جاكسون"، وكان ذلك بسبب الاحتياجات الاقتصادية والعسكرية، والتغيرات في البنية الاجتماعية، وظهور الأحزاب السياسية التنافسية. وبحلول عام 1850، كان التصويت نشاطا أكثر شيوعا مما كان عليه في عام 1800، ومع ذلك كانت المكاسب محدودة. وربما كما كتب "ألكسندر كيسار" في كتابه "الحق في التصويت، ص 2"، كان النظام السياسي الأمريكي قد أقيم على مسار ديمقراطي لا لبس فيه خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر. ولكن الولايات المتحدة في منتصف ذلك القرن كانت بعيدة تماما عن الاقتراع العام، لدرجة أنه تم منع بعض الأمريكيين الذين تم منحهم حق الاقتراع في عام 1800 من ممارسة حقهم الديمقراطي بحلول منتصف القرن.

تغيرت وتيرة الحياة بسرعة خلال السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر. نمت المدن، وأصبحت المقاطعات الساحلية أكثر كثافة سكانية، وانتشر ملايين المستوطنين، وتوسعت التجارة، وأصبحت الصناعات التحويلية، خاصة المنسوجات، من السمات البارزة للمشهد الاقتصادي والمادي الأميركي. وعلى حد قول "هارلو شيدلي" في كتابه "قادة ماساتشوستس المحافظون وتحول أمريكا، ص 35" خلقت هذه التغييرات بدورها ضغوطا على الدولة لإجراء مراجعة للنظام الديمقراطي ككل. ولذلك بُذلت الجهود لإصلاح حق الاقتراع، ومنع الفصائل المتحاربة في ولاية فرجينيا من وضع دستور غير مرض للأميركيين. وهكذا تم تسليم الشعلة إلى جيل جديد من القادة السياسيين مجهزين بأفكار مختلفة ومضطرون لمواجهة الظروف التاريخية المتغيرة بشكل كبير.

تراجع وانزلاق جانبي

نادرا ما يتحرك التاريخ في خطوط بسيطة ومستقيمة، وتاريخ الديمقراطية الأميركية ليس استثناءً. حيث كان الدافع الرئيسي للتغير الديمقراطي هو زيادة عدد الناخبين، وليس ضبط منظومة العمل في مؤسسات الدولة، فقد حصرت الديمقراطية الأمريكية المؤسسات في أبراج عاجية منفصلة تنفيذا لمبدأ الفصل بين السلطات، دون التفكير في إيجاد حل لمواجهة ما قد ينشأ بينها من منازعات، كما تم تمرير القوانين التي شددت متطلبات التصويت (ديفرجيه: ص 99).

خلال السنوات الأولى من القرن العشرين تصاعد الصراع حول حق التصويت بشكل كبير، مما شكل تراجعا للجهود التي بُذلت في هذا الشأن طوال القرن التاسع عشر. وكانت القضية التي تصدرت المناقشات هي منح حق التصويت للأمريكيين من أصل إفريقي، بالإضافة إلى حرمانهم من الحقوق لجيل لاحق. كذلك خاض المدافعون عن حق المرأة في الاقتراع معركة كبيرة. ونفس الشيء مع حقوق العمال والمهاجرون، والأمريكيون الأصليون، والفقراء، والأميون.

ولكن مع ذلك الاصطفاف الحزبي الذي اتسمت به الولايات المتحدة مع بداية القرن العشرين، تغيرت نبرة الحياة السياسية خلال المناقشات عن تلك النبرة التي سادت خلال القرن التاسع عشر، خاصة مع تمت تسوية مصير الجنوب، وسيطرة الحزب الجمهوري بأمان على جزء كبير من الشمال الشرقي والغرب الأوسط في البلاد. وأصبح الطريق إلى الديمقراطية الشاملة يتسم بلغة أكثر تفاؤلا. وسعى الإصلاحيون التقدميون إلى ترويض سلطة الشركات، واستخدام الدولة لاحتواء الصراع الاقتصادي، وإضفاء البيروقراطية على أدوات الحكم. وتطهير السياسة من الفساد، وتقليل نفوذ الأحزاب، وجعل الإدارة العامة أكثر كفاءة. لتظهر بذلك السمات الرئيسية للدولة الأميركية الحديثة بحلول عام 1920، لكنها كانت ديمقراطية منقوصة وانزلقت النقاشات حولها إلى مواضيع جانبية عديدة. (كيسار: ص 119).

مزيد من الإصلاحات الديمقراطية

مع نهاية الحرب العالمية الأولى، بدأت حقبة جديدة في تاريخ الديمقراطية الأميركية، حيث تم تعديل الدستور وإنهاء النضال الطويل من أجل حق المرأة في الاقتراع، ما أدى إلى مضاعفة حجم الناخبين، وتلاشت موجات الحركات والحركات المضادة، والمناقشات الدستورية المتكررة، وبدأ الكونجرس يراجع التشريعات المعقدة التي استهدفت السود والمهاجرين والعمال. ولكن مع الضغوط التي تصاعدت منذ الحرب العالمية الثانية والمعززة بالتغير الاجتماعي والاقتصادي والمناخ الأيديولوجي للحرب الباردة، تم النظر بشكل أوسع في معالم الديمقراطية الأميركية خلال حقبة الستينيات. وبحلول أوائل السبعينيات، كان لدى واشنطن شيء قريب جدا من حق الاقتراع العام. (جون إيلي: الديمقراطية وانعدام الثقة، ص 74)

ومنذ السبعينيات تغيرت الأسس الديمقراطية بشكل غير مسبوق، في سلسلة متتالية من تشريعات الكونغرس وقرارات المحاكم، فتم إلغاء جميع القيود الرسمية تقريبا على حقوق التصويت للمواطنين البالغين، وتولت الحكومة الفيدرالية المسؤولية الكاملة لحماية وضمان هذه الحقوق، وبعد قرن من المناقشات تم فرض حق الاقتراع العام والوطني ليصبح قانون البلاد. 

وأصبح بالنسبة لملايين الأميركيين، لهذه التغييرات القانونية عواقب ملموسة بسيطة بقدر ما كانت عميقة. فقد أصبح للسود الفقراء الذين لم يكن باستطاعتهم الذهاب إلى صناديق الانتخاب للتصويت، التقدم مع بداية حقبة الثمانينيات لانتخاب مرشح أسود، أو أي مرشح آخر يقتنعون ببرنامجه السياسي، وممارسة استحقاقاتهم الديمقراطية كاملة دون انتقاص. (كيسار: ص 257).

ونشرت صحيفة "نيويورك تايمز" في 18 مارس 1993، أنه لاكتمال الهيكل الديمقراطي وقع الرئيس "بيل كلينتون" عام 1993 على قانون تسجيل الناخبين الوطني. وتمت الموافقة على مشروعه بأغلبية مجلسي النواب والشيوخ بعد طرح عدة حلول وسط رئيسية أنهت أسابيع من الجدل الحزبي الحاد. وطلب هذا القانون من الولايات توفير مجموعة من الإجراءات للتسجيل في الانتخابات الفيدرالية، ومنها تزامن طلب الحصول على رخصة القيادة مع التسجيل كناخب، وأيضا التسجيل بالبريد، وتقديم المساعدة والخدمات العامة لذوي الاحتياجات الخاصة.

عودة إلى الفوضى الديمقراطية

على الرغم من إصلاحات "كلينتون"، لكن نسبة المشاركة في الانتخابات التي أجريت عام 1996 كانت ضئيلة، فقد بقي نصف الناخبين في منازلهم، حتى أن نسبتهم كانت أقل مما كانت عليه في أي انتخابات رئاسية منذ عام 1924 (نيويورك تايمز: 21 سبتمبر 1996). ولم تكن انتخابات الكونجرس لعام 1998 بأفضل حال، ما أزعج القيادة السياسية بشكل كبير. حتى أن مستوى الإقبال لم يتحسن كثيرا خلال السنوات التالية، فكانت نسبة الإقبال على التصويت في انتخابات التجديد النصفي لعام 2014 مثيرة للشفقة، حتى أنها بلغت 36٪، وهي أقل نسبة مشاركة حدثت منذ عشرات السنين، مما يدعونا إلى القول بأن ذلك العام كان يمثل أزمة تشريعية حقيقية للنظام السياسي الأمريكي، فضلا عن كونه نقطة تحول للديمقراطية نفسها. وقد دعت مجلة National Review آنذاك الحزب الجمهوري في 2 ديسمبر عام 2014 إلى عدم التركيز على حل قضايا السياسة العامة، وبدلا من ذلك، يجب أن يركز على خلق مناخ ديمقراطي ملائم لانتخاب رئيس جمهوري في عام 2016.

وبسبب الأزمة الديمقراطية المزمنة في واشنطن آنذاك اتجه المواطنون، وخاصة الشباب، إلى طرق أخرى لتحقيق التغيير بدلا من الاستسلام، حيث انضم الملايين منهم إلى حركة Avaaz وهي عبارة عن تجمع إلكتروني ضخم يضم أعضاء من مختلف أنحاء العالم، حاولوا من خلاله إيصال السياسات التي يدعمها المواطنون إلى دوائر صنع القرار في بلادهم. وبذلك يقومون بدور ضاغط لحل المشاكل في مجتمعاتهم خارج العملية الديمقراطية، وكأنهم يخبرون النظم السياسية أن الديمقراطية كما يعرفونها أصبحت غير مناسبة ويجب أن تتطور، وأن النظام السياسي الأميركي أصبح مختل بشكل منهجي وفاسد بشدة.

وفي خضم معركة التجديد النصفي للكونغرس الأميركي لعاد 2022، قالت "لورا ميريفيلد ويلسون، أستاذ مساعد العلوم السياسية بجامعة إنديانابوليس، في مقابلة مع "دويتشه فيلا  يوم 8 نوفمبر، إن قضية الانتخابات هذا العام لا تتعلق فقط بالحزب الذي سوف يمتلك أغلبية في الكونغرس، وإنما يتجاوز ذلك إلى دعم العديد من مرشحي الحزب الجمهوري الذين يتنافسون على مناصب سياسية محلية أو مقاعد مجلسي النواب والشيوخ، صراحة ادعاء الرئيس السابق "دونالد ترامب" بأن الانتخابات الرئاسية عام 2020 قد "سُرقت" منه، حيث يزعم أنه كان سيفوز على "بايدن" لولا التلاعب في نتائج الانتخابات، رغم عدم صحة مثل هذه المزاعم من وجهة نظرها. ما دعا الرئيس "جو بايدن" إلى التصريح بأن الديمقراطية الأميركية في أزمة وتحتاج إلى إنقاذ.

ولم تكن تلك المرة الأولى التي تمت الدعوة فيها إلى إنقاذ الديمقراطية، فقد سبق أن كتب "دون تابسكوت"، الأستاذ المساعد في كلية جوزيف إل روتمان بجامعة تورنتو، لموقع "المنتدى الاقتصادي العالمي" في 14 ديسمبر عام 2014، يناشد من خلاله السياسيين الأميركيين أن يستبدلوا النموذج الديمقراطي القديم بآخر جديد مبني على التشاركية التي يمكن تأسيسها على ستة مبادئ رئيسية، هي: 1- التكامل وتبني النزاهة 2- المساءلة أمام الناخبين  3- منع المانحين الأثرياء من التأثير على الانتخابات بفرض ضوابط صارمة على تمويل الحملات الانتخابية 4- الاعتماد المتبادل بين القطاع العام والقطاع الخاص والمجتمع المدني 5- التواصل مع المواطنين ومشاركتهم والتعلم منهم 6- الشفافية. ويبدو أن الأمر لم يختلف كثيرا بين عامي 2014 و2022، فأزمة الديمقراطية في الولايات المتحدة هي نفسها وتتفاقم، والحلول مطروحة تنتظر الالتفات إليها.

خاتمة

في 17 يناير عام 1990 كتب "ماثيو هوفمان" مقاله في "الإندبندنت" بعنوان "درس في حقوق الإنسان من أوروبا الشرقية"، جاء فيه أن "الديموقراطية لها صلة بالعملية التي صُممت للتأكيد على أن الحكومة مسئولة عن إرادة الشعب. وحرية الأفراد لا تأتي من الديموقراطية، وإنما تأتي من تقييد الديموقراطية"، وأنه "مهما كانت الاستعدادات المتخذة في الولايات المتحدة من أجل إيجاد حكومة ديموقراطية، كالتفويض أو التنازلات عن السلطة التي تقوم بها الحكومة الفيدرالية لسلطات الولايات، وحرية الحصول على المعلومات وانتخاب أعضاء مجلس الشيوخ ومراجعة الكونجرس لأنشطة وكالة الاستخبارات ومكتب التحقيقات الفيدرالي والفرص التشريعية المتساوية، فإن بعض الأميركيين يخشون من التأثيرات السلبية للترتيبات الأمنية على الحماية التي تقدمها وثيقة الحقوق للمواطنين". 

وقد وضع "جيفري ساكس" أصابعه على أساس المشكلة الديمقراطية في الولايات المتحدة، حينما قال "إن هناك ثمن للحضارة، ونحن بحاجة إلى حكومة قوية وجيدة. عندما يقول السياسيون إن أفضل دور للحكومة هو الابتعاد عن الطريق، فإنهم يتهربون من مسؤولياتهم".

وقد أصاب "ساكس" بكلامه كبد الحقيقة، فقد خلقت الحقبة الأولى من الديمقراطية مؤسسات تمثيلية، ولكن مع تفويضات ضعيفة جعلت المسئولين يبتعدون ويرفعون أيديهم عن كثير من الأمور، وجعلت المواطنين والسياسيين بدورهم يدينون بالفضل للممولين الأقوياء والمصالح الخاصة. فكانت مسألة وقت فقط قبل أن يأخذ النموذج الديمقراطي الأميركي في الضعف. وبالتالي فإنه لاستعادة الشرعية والثقة، تحتاج الولايات المتحدة إلى حقبة ثانية من الديمقراطية القائمة على النزاهة والمساءلة، ومؤسسات أقوى وأكثر انفتاحا، ومواطنة فاعلة، وثقافة الخطاب والمشاركة العامة.

451