مقالات تحليلية

قراءة أولية في ملابسات مقتل قائد مجموعة فاغنر الروسية يفغيني بريغوجين

24-Aug-2023

قالت وزارة الطوارئ الروسية، أن 10 أشخاص قتلوا في سقوط طائرة خاصة في منطقة تفير شمالي العاصمة موسكو، وسط أنباء تفيد بأن قائد مجموعة فاغنر العسكرية الخاصة يفغيني بريغوجين ربما كان على متنها (وكالة تاس، 23 أغسطس). فيما نقلت وكالات 'ريا نوفوستي' و'تاس' و'إنترفاكس' عن وكالة النقل الجوي الروسية "روسافياتسيا" أنّ اسم بريغوجين ورد على قائمة ركاب هذه الطائرة التي كانت متجهة من موسكو إلى سانت بطرسبرغ حين تحطّمت وقضى كلّ من كان على متنها.


دلالات الحادثة ومن يقف خلفها؟

فيما لم يصدر عن الكرملين أي تعليق حتى الآن عن حادثة تحطم الطائرة ومقتل زعيم فاغنر، سارع البيت الأبيض الأميركي لتوجيه أصابع الاتهام إلى الرئيس الروسي بالوقوف خلف هذه الحادثة، حيث أشار الرئيس الأمريكي، جو بايدن، إلى احتمال أن يكون الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلف تحطم الطائرة التي قيل إن يفغيني بريغوجين كان على متنها، قائلًا إنه لم يتفاجأ باحتمال استهداف رئيس فاغنر. قال بايدن لمذيع سي إن إن كيفن ليبتاك: "ربما تتذكر أن هذا السؤال طُرح علي من قبل"، وأردف: " قلت إنني (لو كنت مكانه) سأكون حذرًا من وسائل النقل التي سأستقلها. لا أعرف حقيقة ما حدث، لكنني لست متفاجئًا".

في نفس السياق وجهت أوكرانيا الاتهام إلى بوتين، حيث اعتبر مستشار الرئاسة الأوكرانية ميخايلو بودولياك في منشور على منصّة "إكس" أنّ "التخلّص" من بريغوجين ومن قيادة فاغنر "بعد شهرين على محاولة الانقلاب هو رسالة من بوتين للنخب الروسية قبل انتخابات 2024"، مضيفاً "بوتين لا يسامح أحدا".

وقالت المشرعة البريطانية، أليسيا كيرنز، رئيسة لجنة الشؤون الخارجية بالبرلمان، على منصة "أكس"، إن السرعة التي أكدت بها الحكومة الروسية وجود بريغوجين على متن الطائرة "تخبرنا بكل ما نحتاج إلى معرفته.. بوتين يتحدث بصوت عال للغاية".

يفتح مقتل قائد فاغنر الباب أمام عدة سيناريوهات محتملة حول الأطراف التي يمكن أن تكون متورطة في اغتياله، وبالنظر إلى المعطيات يحتمل الأمر أن يكون هناك عدة أطراف تقف خلف حادثة الاغتيال:

أولاً: الرئيس الروسي فلاديمير بوتين: لا شك أن أول أصابع الاتهام سيتوجه صوب بوتين باعتبار أن تمرد فاغنر أدى إلى إلحاق ضربة بهيبة روسيا ورئيسها وقواتها وسط ظروف حساسة تمر بها روسيا التي تخوض حربا ضد أوكرانيا، فيما هناك عدة عطيات قد تشير إلى أن لبوتين بالفعل يد في اغتيال قائد فاغنر، ومنها:

- وفر النزاع في أوكرانيا لبريغوجين فرصة ذهبية للخروج إلى دائرة الضوء بعدما عمل لسنوات في الظل، ليفرض نفسه لاعبا أساسيا في روسيا. وبالتالي فإن بريغوجين، الذي كان صديقا لبوتين وطباخه وصاحب أسراره، برز بعد التمرد كمنافس له، ونهايته في حادث تحطم الطائرة سيعني نهاية منافس قوي سيزعج بوتين، خاصة إثر تنامي قوة فاغنر وتأثيرها في الداخل والخارج.

-المؤشر الآخر أن الرئيس بوتين كان حاضراً في حفل موسيقي للجيش لحظة تحطم الطائرة التابعة لبريغوجين، بحسب ما أظهرت لقطات مصورة نقلتها وسائل إعلام روسية، حيث ظهر زعيم الكرملين في حفل موسيقي بمناسبة الذكرى الثمانين للانتصار في معركة كورسك، التي تعتبر من المعارك التي حددت مسار ونتائج الحرب العالمية الثانية، ما يرجح أن يكون بوتين قصد اغتيال بريغوجين في هذا اليوم كرسالة بأن الرئيس هو من يرسم مسار انتصار روسيا على كل من يخونها.

-من اللافت أن تحطّم الطائرة حدث في نفس اليوم الذي أعلنت فيه موسكو أنّ الجنرال سيرغي سوروفيكين، قائد القوات الجوية الروسية وأحد أبرز ضباط الجيش، أُعفي من مهامه. وبحسب المعلومات فقد جمعت صلات وثيقة بين الجنرال سوروفيكين الذي اشتهر بصلابته وقسوته، ومجموعة فاغنر. وسرت شائعات منذ أسابيع عن عزله في أعقاب تمرّد المجموعة. بحسب "ميدل إيست أونلاين في 23 أغسطس. 

وقد ذكرت صحيفة "نيويورك تايمز" في تقرير نقلًا عن مصادر في الاستخبارات الأميركية أن سوروفيكين كان على علم مسبق بتمرّد بريغوجين وأنّه قد يكون اعتُقل. لكنّ الكرملين نفى المعلومات الواردة في التقرير، من دون أن يلغي ذلك الغموض الذي يلفّ مصيره، وهذا مؤشر آخر على احتمالية أن بوتين بدأ بتصفية كل من شارك في عملية تمرد فاغنر.

لكن ورغم كل تلك المعطيات إلا أن مراقبين يستبعدون أن يُقدم بوتين على اغتيال قائد فاغنر في هذا التوقيت، وذلك لعدة أسباب ومنها:

-أن روسيا وظفت واستفادت من اسهامات مجموعة مرتزقة فاغنر في تعزيز مشروعها لتستعيد دورها كقوة كبرى للتدخل وتلعب دورا مؤثرا في الأزمات العالمية، خاصة في مناطق حيوية للغرب بعودتها للشرق الأوسط من بوابة سوريا، وتقوية النفوذ الروسي في ليبيا بدعم قوات. كما تلعب مجموعة فاغنر دورا مؤثرا وحيويا تنافس فيه الوجود الفرنسي التاريخي في مستعمراتها السابقة في غرب أفريقيا وتدعم أنظمة انقلابية وسلطوية في مالي وبوركينا فاسو وفي دول جنوب الصحراء الكبرى-في جمهوريات الكونغو الديمقراطية وأفريقيا الوسطى ورواندا وموزامبيق وأنغولا وزيمبابوي ومدغشقر. ما يعزز نفوذ ومشروع روسيا في شمال وجنوب أفريقيا، بالتالي فإن إقدام بوتين على قطع رأس فاغنر سيعني أنه يضع كل مناطق نفوذه تلك في دائرة الخطر.

-يرى المراقبون أنه قبل الحل الدبلوماسي كان من مصلحة بوتين قتل قائد فاغنر، لكن بعد حله لا توجد مصلحة لقتله وأي حديث أو تفكير من قبل موسكو في قتله سيكون تفكيرا ساذجا، لأن بوتين يعلم أن أي عملية اغتيال ليفغيني ستتهم روسيا به، كما أنه ليس من المعقول أن يتم اغتياله فوق سماء موسكو، والذي يعد عملا غير مقبول من الناحيتين الانسانية والوطنية، وسيثير الغضب داخل الشارع الروسي ضد بوتين.

ثانياً: الاستخبارات الأوكرانية: في ظل الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا ونشاط المخابرات والخروقات الأمنية في كلا البلدين، قد تستعين أوكرانيا بأجهزة مخابرات صديقة لتقوم بإسقاط الطائرة الي يستقلها يفغيني ومن معه. يذكر أن أوكرانيا قد أعلنت في وقت سابق أنها سوف تحتفل بعيد الاستقلال، وأنها ستقدم هدية للشعب الأوكراني، وربما يكون مقتل يفغيني هو الهدية التي أعلنت أوكرانيا عنها، فيما توعدت أوكرانيا أكثر من مرة باغتياله كونه المسؤول الأول والمباشر عما حدث في باخموت.

ثالثاً: الاستخبارات الغربية: هناك احتمال آخر بأن تكون الاستخبارات الغربية وراء اغتياله بسبب تزايد نفوذ فاغنر في إفريقيا بعد خسارة الغرب آخر مستعمرة لهم في تلك المنطقة بعد انقلاب النيجر، وخشية الغرب من أن تتمكن فاغنر من سحب البساط من تحت أقدام نفوذ الغرب في عموم إفريقيا، خاصة بعد ظهور يفغيني في 28 يوليو الماضي في قمة "روسيا – إفريقيا" التي عقدت في سان بطرسبورغ، والتي حضرها الرئيس الروسي، بالإضافة ظهوره الإثنين 21 أغسطس الجاري في مقطع فيديو حديث، أعلن فيه إنه موجود مع مقاتلين تابعين له في إفريقيا؛ حيث يعمل من أجل الحفاظ على عظمة روسيا، داعيا إلى التطوع معه. وهو مؤشر على أن بوتين يعتمد على فاغنر في توسيع نفوذه في إفريقيا، وهذا يرجح أن تكون للغرب يد في اغتياله في هذا التوقيت.

وما يرجح ذلك أيضا أن "فاغنر" أضحت بمثابة وسيلة لتأمين النفوذ الروسي في القارة الأفريقية التي تحظى بمكانة مهمة في أجندة السياسة الروسية العالمية، وهو ما دفع موسكو لتمهيد الطريق لها نحو توسيع حضورها في المناطق الاستراتيجية هناك. اشارت صحيفة واشنطن بوست بشروع موسكو في تأسيس اتحاد كونفدرالي أفريقي يضم ثمانِ دول أفريقية على الأقل معادية للسياسات الغربية بما في ذلك بوركينا فاسو وإريتريا وغينيا ومالي والنيجر والسودان، وهو ما يعزز اتهامات الغرب لموسكو بزعزعة استقرار أفريقيا واعتبارها بمثابة استعمار جديد يعززه نشاط "فاغنر" المتنامي هناك.


تداعيات مقتل يفغيني على عمليات فاغنر الخارجية 

إن مقتل قائد فاغنر قد يكون لها تداعيات كبيرة على نشاط وعمليات المجموعة في كافة البلدان التي تنشط فيها، خاصة في إفريقيا، لأن فقدان فاغنر لقائدها، قد يدفع المجموعة لوقف عملياتها في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ما سيخلق فراغاً أمنياً كبيراً، لاسيما في دول أثبتت المجموعة فيها حضوراً جوهرياً مثل ليبيا والسودان، وقد يؤدي رحيل مقاتلي فاغنر إلى إضعاف مواقف الجهات الفاعلة المحلية التي كانت تدعمها المجموعة، وهو ما قد يغير ميزان القوى لصالح الفصائل أو الحكومات المنافسة، وحتى التنظيمات الإرهابية. 

لقد كان واضحا من ظهور يفغيني الأخير في إفريقيا أنه يستعد لخوض معارك أعنف ضد الجماعات الجهادية كداعش والقاعدة وغيرها، حيث قال في مقطع الفيديو: "نمثل "كابوسا" لجهاديي تنظيم الدولة الإسلامية وتنظيم القاعدة"، ودعا إلى التطوع في صفوف مجموعته، "لتحقيق المهام التي تم تحديدها، والتي وعدنا بالوفاء بها"، وبمقتله يتعزز احتمال تراجع دور "فاغنر" من بعض المناطق المضطربة في أفريقيا لا سيما الساحل وغرب أفريقيا وتزيد المخاوف من تنامي النشاط الإرهابي هناك، لاسيما أن تنظيميْ داعش والقاعدة ربما يجدان مساحة حركة أكبر للمناورة وتعزيز نشاطهما بما ينعكس على اتساع رقعة سيطرتهما في المنطقة الذي يرتبط بدوره على تعزيز نفوذهما الجهادي هناك، الأمر الذي يعزز حالة عدم الاستقرار الإقليمي في غرب أفريقيا والساحل. كما قد يترتب على ذلك إضعاف قدرة الجهات المحلية المدعومة من “فاغنر” على مواصلة الاحتفاظ بالسيطرة على الموارد الثمينة. وقد يؤدي أي تفكيك لمجموعة “فاغنر” أيضاً إلى إعادة ترتيب التحالفات، وهو من المحتمل أن يتسبب في نشوب صراعات جديدة أو تفاقم النزاعات القائمة.


التداعيات على هيكلية فاغنر

إن مقتل قائد فاغنر قد يؤثر على معنويات عناصره، وهو ما يجعلنا أمام عدة سيناريوهات محتملة مثل انشقاق بعض العناصر عن الحكومة الروسية، أو انسحاب عناصر أخرى من الدول الأفريقية، أو نزاع قادة المجموعة مع الحكومة الروسية على الموارد التي تحصل عليها، وهو ما قد يترتب عليه تراجع نفوذها في الساحة الأفريقية. كما إن مقتل قائدها سيفقدها الكثير من نشاطها الاقتصادي، حيث استطاع يفغيني تحويل فاغنر من مجرد مجموعة تضم مرتزقة يشاركون في حروب عسكرية إلى جناح عسكري له نفوذ اقتصادي حول العالم.

وفي ظل غياب وجه بديل يمكن أن يحل محل يفغيني، لا يُعرف بعد ما إذا كانت موسكو ستسعى لملء الفراغ وتعيين زعيم جديد لفاغنر وتحتفظ بها كإحدى أوراقها القوية أم ستترك المجموعة تختار زعيما، وهو خيار قد يقود إلى خلافات داخلية. خاصة ومن المنطقي أن تفقد فاغنر بريقها برحيل زعيمها الذي ظهر بشكل قوي في مايو 2023 بعد معارك شرسة ودامية، ليعلن سيطرة فاغنر على باخموت في شرق أوكرانيا محتفيا بانتصار نادر للقوات الروسية على أرض المعركة.

وواحدة من السيناريوهات المحتملة لمستقبل فاغنر هو اندماجها مع شركة عسكرية روسية خاصة أخرى مثل شركة “كونفوي” التي يقودها “سيرغي أكسيونوف” و” كونستانتين بيكالوف”، ما قد يسفر عن تشكيل كيان أقوى. وسيرث الكيان الجديد علاقات المجموعة ومكانتها الموثوق بها، ما يسمح لها بمواصلة تقديم الخدمات شبه العسكرية وتأمين الوصول إلى الموارد الثمينة. إلا أنه قد تنطوي هذه العملية على تداعيات سلبية كبيرة على الدول التي تنشط فيها المجموعة نتيجة التغير المحتمل في استراتيجيات عملها، وتحديات في التعامل مع التغيرات الجديدة وتقييم موثوقية الكيان المندمج.


خلاصات 

لا شك أن مقتل بريغوجين، الذي قد يريح أعصاب بوتين وقادة الجيش من رجل مستفز، وسيطرح تحديات أكبر على روسيا خاصة بعد المكاسب الكبيرة التي حققتها مجموعة فاغنر في أفريقيا وما ينسب إليها من وقوف وراء الانقلابات في مالي وبوركينا فاسو والنيجر ومزاحمتها النفوذ الفرنسي. وقد يستغل الغرب هذه التطورات في محاولة للضغط على الدول الأفريقية للتراجع عن الشراكة مع روسيا والعودة للتعامل مع الغرب.

لكن يظل انسحاب "فاغنر" من أفريقيا قرارًا غير مطروح بالنسبة لموسكو التي لا تريد خسارة موطئ قدمها الاستراتيجي والذي أضحى ساحة استراتيجية للمواجهة مع الغرب. يبرر ذلك رغبة موسكو في الحفاظ على نفوذها المتنامي وحماية مصالحها الحيوية هناك، وعدم ترك مساحة للغرب يستغلها في تعزيز نفوذه والضغط على موسكو والذي قد يفقدها الدعم الأفريقي في المحافل الدولية، لا سيما أن أفريقيا تسهم بشكل كبير في كسر العزلة الدولية المفروضة على موسكو من الغرب وواشنطن بسبب الحرب الأوكرانية، لذلك، فهي لا تريد خسارة بوابتها الاستراتيجية للعالم الخارجي في هذا التوقيت الحرج لها.

علاوة على ذلك، إن أي انهيار لمجموعة “فاغنر” سيكون له تداعيات على نفوذ روسيا في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. لذا قد تفكر موسكو في إعادة بناء الهيكل التنظيمي للمجموعة بحيث تتبع مباشرة الرئيس بوتين، وذلك لضمان عدم تكرار أزمة التمرد الأخيرة، وربما تقدم الحكومة الروسية بعض الإغراءات المادية لعناصر المجموعة لضمان ولائها، واستبعاد فكرة التمرد أو الانسحاب المحتمل من مناطق نفوذها في القارة، لا سيما أنها تستفيد من فاغنر في تأمين الثروات الأفريقية التي تنتقل إلى موسكو وتسهم في تمويل الحرب الروسية على أوكرانيا وفقًا لتقارير دولية.



420