ردا على الغارة الإسرائيلية على القنصلية الإيرانية في دمشق، أعلن جيش الدفاع الإسرائيلي مساء 13 إبريل أن عشرات المسيرات الإيرانية انطلقت من إيران لمهاجمة إسرائيل في ثلاث موجات متتالية، أعقبها نبأ عن إطلاق صواريخ كروز في اتجاه تل أبيب أكدته وسائل الإعلام الإيرانية، وتصدت لها وسائل الدفاع الجوي في كل من الأردن وإسرائيل وقوات التحالف.
وكانت تل أبيب تقف خلال الأيام الماضية في حالة تأهب قصوى تحسبا لهذا الهجوم من طهران. فعلى الرغم من أنها انخرطت مع إيران في مواجهات محدودة لعدة سنوات، إلا أن الضربة الإسرائيلية في دمشق كانت مؤلمة بشكل خاص، حيث قضت في ضربة واحدة على القيادة العسكرية الإيرانية في سوريا.
ومن المعروف أن إيران تقوم بإدارة حرب بالوكالة تستهدف إسرائيل والمصالح الأميركية، تدعم من خلالها الجماعات المسلحة، كحزب الله في لبنان، وحماس في غزة، ومؤخرا جماعة الحوثي في اليمن. وتتهمها إسرائيل بأنها تستخدم الأراضي السورية لشحن الصواريخ والأسلحة الأخرى إلى حزب الله في لبنان، حتى أنها نفذت العديد من الغارات الجوية في سوريا لوقف تدفق الأسلحة، وقد صرح مسئول إسرائيلي لشبكة NBR الأميركية في 12 إبريل الجاري، بأن الجنرال الإيراني الذي قتل في غارة القنصلية كان شخصية رئيسية في تلك السلسلة اللوجستية.
إسرائيل كانت تتوقع الهجوم الإيراني
أثارت الغارة الإسرائيلية انتقادات غاضبة في إيران، وهدد المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي تل أبيب خلال خطبة عيد الفطر قائلا: "سنجعلهم يندمون على ارتكاب هذه الجريمة والقيام بأفعال مماثلة". ونشرت وكالة "إيران برس" وصف الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي للهجوم بأنه "عمل غير إنساني وعدواني ولن يمر دون رد". وفي اتصال هاتفي مع نظيره السوري، وصف وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان الهجوم بأنه انتهاك لجميع الالتزامات الدولية والاتفاقيات. كذلك نقلت الوكالة عن الممثلة الدائمة لإيران لدى الأمم المتحدة أنه كان على مجلس الأمن أن يدين العدوان الإسرائيلي، ولو أنه قام بذلك لكان من الممكن أن تزول ضرورة معاقبة إسرائيل. ونشرت مونت كارلو الدولية تحذير يحيى رحيم صفوي، مستشار المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية والقائد السابق للحرس الثوري الإيراني، في 7 فبراير، من أن سفارات إسرائيل "لم تعد آمنة".
كل تلك التهديدات الإيرانية وضعت إسرائيل في حيرة وقلق، خاصة أن وسائل الإعلام الإيرانية، كانت تثير الرأي العام الإيراني ضد إسرائيل بعد هجوم دمشق وتبرر لرد الفعل مهما كانت عواقبه، حيث نقلت صحيفة "كيهان" الأصولية في 9 إبريل عن الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله أن إسرائيل سوف تخرج ذليلة من غزة والرد الإيراني حتمي. وفي مقال له في صحيفة "وطن امروز" الأصولية في 9 إبريل، أشار الكاتب الإيراني مهدي بختياري، إلى أن إسرائيل تخشى رد إيران بغض النظر عن شكل ومستوى هذا الرد، أو متى سيتم تنفيذه.
ويظهر تحليل صحيفة معاريف الإسرائيلية لمحتوى شبكات التواصل الاجتماعي خلال الفترة من 5 - 12 إبريل، أن الخوف من إيران أصبح يهيمن على الخطاب الإسرائيلي بشكل واضح. وترى الصحيفة أن الإيرانيين فازوا بالفعل، وأنهم حققوا بالفعل ما أرادوا، فهم يتمكنون من تغيير أنماط سلوك سكان إسرائيل بسهولة. وتساءلت كاتبة التقرير "ليراز مارجاليت": "كيف تمكنوا من التأثير علينا بهذا الشكل؟
موقف واشنطن
نقلت الجارديان في 12 إبريل تصريحات "جون كيربي" المتحدث باسم الأمن القومي بالبيت الأبيض للصحفيين، بأن احتمال وقوع هجوم إيراني على إسرائيل لا يزال يمثل تهديدا قابلا للتطبيق، بعد جهود منسقة بذلتها إسرائيل وبلاده لردعه. وإنهم على اتصال مستمر مع الإسرائيليين للتأكد من قدرتهم على الدفاع عن أنفسهم ضد هذا النوع من الهجمات. كما أكد أن قائد القيادة المركزية الأمريكية، الجنرال "إريك كوريلا"، موجود في إسرائيل ويتحدث مع مسؤولي الدفاع الإسرائيليين حول كيفية استعدادهم بشكل أفضل.
ويبدو أن الشكوك حول موقف الولايات المتحدة ونواياها تسربت إلى الساسة في إيران، فكشف موقع "أكسيوس" في 11 إبريل أن طهران أرسلت رسالة للبيت الأبيض عبر دول عربية تحثها على ضرورة البقاء بعيدة عن المواجهة مع إسرائيل، محذرة من أن مشاركة الجيش الأميركي في القتال سيعرضه للهجوم في المنطقة.
كذلك هناك أيضا وجهة نظر إسرائيلية حول طبيعة رد الفعل الأميركي، عبر عنها المحلل السياسي والإعلامي الإسرائيلي "ناداف إيل" في "يديعوت أحرونوت"، 12 إبريل، تفيد بأن الولايات المتحدة تحاول منع الهجوم الإيراني، ولكن ليس من المؤكد أن محاولاتها ستنجح. وتتمثل فكرته في أن واشنطن أصبحت تجد صعوبة في إثبات قوتها ووقوفها إلى جانب حلفائها، وهذا لا ينطبق على إسرائيل فقط. وقال يبدو أن إسرائيل اعتقدت أن طهران لن تفعل شيئا غير معتاد ردا على عملية الاغتيال في دمشق، لكننا حينما نعود إلى أحداث سابقة مشابهة، فإننا نعترف بأن هذا كان تقييما معيبا.
العواقب المحتملة للهجوم الإيراني
على الرغم من الأثر الواضح للهجوم الإيراني على إسرائيل، إلا أن طهران واجهت في أثناء تجهيزها لهذا الهجوم معضلة كيفية الرد لحفظ ماء الوجه والحفاظ على ما يشبه قوة الردع دون استفزاز المجتمع الدولي، وإثارة صراع أوسع من شأنه أن يضع طهران والشرق الأوسط في حالة حرب، ما جعل المحللون يتساءلون عما إذا كانت إيران سترد بالقوة أو لن ترد على الإطلاق.
لم يكن من الممكن أن تتوقف إيران عن إطلاق النار لأن العواقب ستكون وخيمة، فإن تقاعست عن الرد، أو كانت استجابتها ضعيفة، خاصة بعد كل هذه التصريحات شديدة اللهجة من جانب القيادة العليا في طهران، فمن الممكن أن يؤدي ذلك إلى إلحاق الضرر بالتماسك السياسي الداخلي للنظام الإيراني، نظرا لأن الحرس الثوري الذي يهيمن على السياسة الخارجية الإيرانية، دعا إلى رد قوي، حتى لا يتعرض الردع الإيراني لضربة قوية، الأمر الذي قد يؤدي إلى المزيد من الهجمات الإسرائيلية مستقبلا وهم آمنون من أن طهران لن ترد بالمثل. كذلك الأمر بالنسبة لصورة إيران كزعيم لمحور المقاومة، كما يراها حلفاؤها في المنطقة.
ولم تكن احتمالات شن هجوم عسكري على إسرائيل بعيدة عن تحليلات الخبراء، فقد كتب بلال يوسف صعب، الزميل المشارك في برنامج الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في تشاتام هاوس، على موقع المعهد في 12 إبريل، أن "إيران يمكن أن ترد بشكل غير مباشر على جبهات مختلفة، نظرا لشبكة الميليشيات المرنة والمسلحة جيدا والجاهزة للقتال في جميع أنحاء المنطقة. ويمكنها أيضا أن تضرب مواقع إسرائيلية سرية وعلنية في المنطقة. كما أنها قد تضطر إلى النظر في المعاملة بالمثل في ردها، لإرسال رسالة واضحة قدر الإمكان إلى القيادة الإسرائيلية وفرض تكلفة أعلى على إسرائيل، فالانتقام بقدر الخسارة. وهذا يعني أنها قد تضرب أهدافا عسكرية مباشرة في إسرائيل، ربما باستخدام مجموعة من الصواريخ الباليستية وصواريخ كروز بعيدة المدى الموجهة بدقة، بالإضافة إلى المسيرات".
وقد سبق إطلاق المسيرات والصواريخ الإيرانية باتجاه إسرائيل في اليوم نفسه خبر يفيد بأن إيران احتجزت سفينة شحن مرتبطة بإسرائيل في مياه الخليج. وذكرت وكالة الأنباء الرسمية "ارنا" تفاصيل العملية، مشيرة أن السفينة "إم إس سي أريس" المحتجزة تم قطرها باتجاه المياه الإقليمية الإيرانية. موضحة أنها كانت ترفع العلم البرتغالي وترتبط بشركة "زودياك ماريتايم" التي يملكها الملياردير الإسرائيلي "إيال عوفر". ويبدو أن هذه العملية لم تكن إلا للفت انتباه إسرائيل عن العملية التي كان يتم التجهيز لها بالفعل، وإيهامهم بأن خطف السفينة هو الرد على عملية دمشق.
وبافتراض أن هجوم طهران على النحو الذي شهدناه محدود بهدف حفظ ماء وجه النظام الإيراني، وأنها لن تطور الهجوم، وإذا امتنعت إسرائيل عن الرد بقوة مفرطة، فمن غير المرجح أن تكون التداعيات على الأمن الإقليمي مدمرة. لا شك في أن المخاوف من نشوب حرب واسعة النطاق سوف تسود، وهو ما من شأنه أن يؤدي إلى زيادة حالة عدم اليقين في أسواق الطاقة العالمية، وربما ارتفاع أسعار النفط، حتى ولو بشكل مؤقت.
الواقع العملي يؤكد أن إيران أقل تركيزا على إيذاء إسرائيل، وأكثر تركيزا على حماية مكاسبها الاستراتيجية الحقيقية والمتصورة في المنطقة. ويشمل ذلك نفوذها السياسي في أماكن مثل العراق وسوريا ولبنان واليمن، وعلاقاتها المعززة مع دول الخليج وروسيا والصين، التي لا يرغب أي منها في رؤية صراع عسكري واسع النطاق في المنطقة وسط توقعات بتداعيات اقتصادية وخيمة. وأبرز دليل على ذلك إعلان البعثة الإيرانية في الأمم المتحدة على موقع X أن العمل العسكري الإيراني، الذي تم تنفيذه كان بناء على المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة المتعلقة بالدفاع المشروع، ويمكن اعتبار الأمر منتهيا.
تقييم موقف
لم يكن الهجوم على القنصلية الإيرانية في دمشق هجوما على الدولة الإيرانية نفسها فحسب، بل كذلك على القيادة العليا لفيلق القدس التابع للحرس الثوري. كما أنه يمثل خسارة كبيرة للفيلق الذي يعمل بالفعل على تنسيق ونقل الأسلحة والخبرات التقنية إلى حزب الله في لبنان. وكان لزاما من وجهة نظر إيران الرد على إسرائيل بالشكل الذي شهدناه، حتى لا تفقد الجبهة الداخلية تماسكها.
على أية حال، إذا تصاعدت الأحداث، وردت إسرائيل على الهجوم الإيراني، حسب ما أعلنته هيئة البث الإسرائيلية، بأنه سوف يكون هناك جولات من الردود العسكرية المتبادلة لأيام، فإن الآثار الاقتصادية والجيوسياسية ستكون وخيمة على الاقتصاد العالمي، فعلى سبيل المثال، فإن حجم مرور السفن في قناة السويس انخفض بنسبة ٤٤% في الشهور الماضية وإذا اتسعت الحرب قد تنخفض أكثر مما يزيد الأزمة الاقتصادية العالمية وارتفاع أسعار النفط والسلع، فضلا عن انقطاع سلاسل التوريد.
في اعتقادنا أن انتقام إيران بعد الضربة الإسرائيلية في دمشق يتوازن مع حاجتها إلى تجنب صراع أوسع، هذا إذا افترضنا أن إسرائيل لن تقوم برد فعل عنيف بفتح جبهة حرب جديدة قبل الخلاص من مأزق غزة. فقد كانت معضلة طهران في إيجاد رد يحافظ على موقعها في محور المقاومة، لكنه لا يعجل بتصعيد دراماتيكي قد تخسره على الأرجح.
ولم يكن أمام إيران أي مجال للتقاعس عن الرد، أو الاستجابة الضعيفة، خاصة بعد مثل هذه التصريحات شديدة اللهجة من القيادة العليا في طهران، التي يديرها نظام عازم على الهيمنة الإقليمية وإخضاع جيرانه الأضعف، لكنه نادرا ما تصرف بطريقة انتحارية، ويعرف حدوده أمام القوة العسكرية الإسرائيلية واستعدادها لاستخدامها. ومن غير المرجح أن يؤدي التصعيد الإيراني الأخير، رغم أنه غير مسبوق، إلى تغيير جذري في الحسابات الاستراتيجية لإيران وطريقة عملها.