انتهى الفراغ الرئاسي في إيران الذي فرضته وفاة الرئيس السابق إبراهيم رئيسي في حادث سقوط مروحية في 19 مايو 2024، بعد أن أُعلِن فوزُ المرشح الإصلاحي الدكتور مسعود بزشكيان بالجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية التي أجريت في 5 يوليو 2024، على المرشح المحافظ سعيد جليلي ممثل المرشد الأعلى للجمهورية في المجلس الأعلى للأمن القومي.
ورغم أن المؤيدين لبزشكيان الذين تجاوز عددهم حاجز 16 مليون ناخب في الجولة الثانية سعوا عبر ذلك لإعادة الإصلاحيين إلى مؤسسات الحكم وتقليص حدة الضغوط التي تنتجها الأزمة الاقتصادية فضلاً عن تخفيف القيود المفروضة على الحريات الاجتماعية حسب تعهُّد بزشكيان خلال حملته الانتخابية، فإن ذلك في مجمله لا ينفي أن الرئيس الجديد سوف يواجه تحديات لا تبدو هينة في سبيل تحقيق ما تعهد به.
شخصية توافقية
يبدو الرئيس الجديد مدركاً حجمَ التحديات التي تنتظره من اليوم الأول له في الرئاسة، حيث سيتولى منصبه رسمياً في بداية أغسطس القادم. ومن هنا، فإنه حرص على توجيه رسائل مبكرة لطمأنة حلفائه وخصومه في آن واحد.
فمن مرقد الخميني، ألقى بزشكيان أول خطاباته بعد إعلان فوزه بالرئاسة، حيث قال إنه "لم يكن هنا لولا حكمة المرشد خامنئي"، مجدداً العهد بـ"مواصلة طريق شهداء إيران"، وداعياً إلى "الاتحاد من أجل الوطن" (سكاي نيوز عربية، 6 يوليو 2024).
هذه التصريحات تطرح دلالاتٍ رئيسيةً ثلاثاً:
الأولى، أن بزشكيان يدرك تماماً أنه سيواجه خصماً سياسياً صعباً ممثلاً في تيار المحافظين الأصوليين الذي نجح في تعزيز سيطرته على معظم المؤسسات الرئيسية في النظام، بداية من مجلس الشورى، مروراً بمجلس صيانة الدستور ومجلس تشخيص مصلحة النظام، وانتهاءً بمجلس خبراء القيادة.
وهنا، فإن هذه الصعوبة لا تكمن فقط في اختلاف التوجهات السياسية بين الطرفين، رغم أهمية ذلك بالطبع، وإنما تكمن أيضاً في أن بزشكيان نجح في الفوز بالانتخابات الرئاسية على حساب اثنين من أبرز أقطاب تيار المحافظين الأصوليين، وهما رئيس مجلس الشورى في دورته الحالية محمد باقر قاليباف الذي خرج من الجولة الأولى، وممثل المرشد الأعلى للجمهورية في المجلس الأعلى للأمن القومي سعيد جليلي الذي تنافس معه في الجولة الثانية.
والثانية، أن بزشكيان يرى أن التماهي مع التوجهات العامة التي يتبناها المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي وعدم العمل على الاصطدام بها قد يكون إحدى الآليات الرئيسية التي يمكن من خلالها تمرير مشروعاته وتنفيذ برامجه، لاسيما أن تجربة الرؤساء السابقين الذين حاولوا تحدي سلطات المرشد، في بعض الأحيان، لم تكن ناجحة، بل أنتجت عواقبَ وخيمةً بعد ذلك.
ويبدو الرئيس الأسبق محمود أحمدي نجاد مثالاً على ذلك، إذ قرر إقالة وزير الاستخبارات حيدر مصلحي من منصبه (الذي يحظى باهتمام خاص من جانب النظام لأسباب أمنية ودينية)، فما كان من المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي إلا أن أصدر قراراً بإعادة الوزير إلى منصبه في 17 إبريل 2011 (بي بي سي، 17 إبريل 2011).
هذا الخلاف تحديداً كان أحد أسباب التوتر الذي اتسمت به العلاقة بين خامنئي وأحمدي نجاد، وربما يكون السبب الرئيسي في رفض مجلس صيانة الدستور ملف ترشح الأخير لأكثر من انتخابات رئاسية، كانت آخرها التي أجريت على جولتين في 28 يونيو و5 يوليو 2024، وأسفرت عن فوز بزشكيان.
والثالثة، أن الطاقم الحكومي الجديد الذي سيشكله بزشكيان قد لا يكون إصلاحياً بحتاً، في ظل إدراك بزشكيان أن ذلك قد يسبب له مزيداً من الخلافات مع تيار المحافظين الأصوليين قبل أن يبدأ مهمات منصبه، خاصة أن الأخير يتبنى مواقفَ متشددةً تجاه بعض أقطاب الحملة الانتخابية للرئيس الجديد، على غرار وزير الخارجية الأسبق محمد جواد ظريف.
إذ ما زال ظريف يتعرض لحملة قوية من قبل وسائل الإعلام القريبة من تيار المحافظين الأصوليين، بعد أن اتهم الأخير بالمسؤولية عما آل إليه الاتفاق النووي، وبعد أن وجّه انتقادات قوية للمرشح المحافظ سعيد جليلي الذي اتهمه أيضاً بعدم العمل على منع صدور قرارات أممية بعقوبات ضد إيران حين كان أميناً للمجلس الأعلى للأمن القومي وكبير المفاوضين الإيرانيين.
ومن هنا، ربما يعمد بزشكيان إلى تشكيل حكومة أقرب إلى أن تكون حكومة "وحدة وطنية" من أجل تقليص فرص الاصطدام بالمحافظين الأصوليين في مجلس الشورى، وتعزيز قدرته على تنفيذ قسم من وعوده الانتخابية.
خيارات محدودة
لكن حتى في حال إقدام بزشكيان على محاولة الوصول إلى نقطة التقاء مع المحافظين الأصوليين، فإن الخيارات المتاحة أمامه لتنفيذ هذه الوعود لا تبدو متعددة. فعلى المستوى الداخلي، قد ينجح بزشكيان في تخفيف بعض القيود المفروضة على الإنترنت وتقليص التوتر بين السلطات والقوميات، واحتواء مظاهر التشدد في الشارع التي كان لها دور في اندلاع الاحتجاجات القوية التي شهدتها إيران خلال الفترة من منتصف سبتمبر 2022 وحتى بداية يناير 2023، بعد وفاة الفتاة الكردية العشرينية مهسا أميني التي تم توقيفها من قبل عناصر شرطة الأخلاق بعد اتهامها بعدم الالتزام بقواعد ارتداء الحجاب.
لكنه في الوقت نفسه سوف يجد نفسه مقيداً بالالتزام بقانون العفة والحجاب الذي أقره مجلس الشورى الإسلامي في 20 سبتمبر 2023، والذي يحدد قواعدَ صارمةً لارتداء الحجاب، ويفرض عقوبات قوية على غير الملتزمات به، كالسجن عشر أعوام لمن ترتدي ملابس غير لائقة. وقد وصل الأمر إلى حد أن الأمم المتحدة دعت السلطات الإيرانية، في 22 سبتمبر 2023، إلى إلغاء القانون الذي وصفته بأنه "قمعي ومهين" (الشرق الأوسط، 22 سبتمبر 2023).
لكن اللافت في هذا السياق أن هذا القانون كان محور خلافات بين مجلس الشورى الإسلامي ومجلس صيانة الدستور -وهو الهيئة التي تمتلك صلاحية مراقبة تشريعات مجلس الشورى الإسلامي- وهو ما أدى إلى إحالته إلى مجلس تشخيص مصلحة النظام -وهو الهيئة التي تمتلك صلاحية الفصل في خلافات مجلس الشورى الإسلامي ومجلس صيانة الدستور- الذي أعلن، في 25 مايو 2024، أنه وافق على القانون، بما يعني أنه بات سارياً وعلى السلطة التنفيذية ممثلة في الحكومة أن تقوم بتنفيذه.
كما قد لا يستطيع بزشكيان فتح ملف رفع الإقامة الجبرية عن مير حسين موسوي (وزوجته زهرا راهناورد) ومهدي كروبي زعيمي ما يسمى "الحركة الخضراء" التي قادت الاحتجاجات التي شهدتها إيران عام 2009 نتيجة الاعتراض على نتائج الانتخابات الرئاسية التي أسفرت عن فوز الرئيس الأسبق محمود أحمدي نجاد بفترة رئاسية ثانية.
فقد فشل الرئيس الأسبق حسن روحاني في تحقيق هذا الهدف رغم أنه تعهد به خلال حملته الانتخابية. وربما تتزايد صعوبة هذا الملف -الذي يحظى باهتمام خاص من جانب تيار الإصلاحيين- في ضوء المواقف المتشددة التي بات موسوي يتبناها، وكان آخر مؤشراتها رفضه الإدلاء بصوته في الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي فاز بها بزشكيان، رغم أن السلطات عرضت عليه توفير صندوق اقتراع متنقل مخصص لذلك (العربية نت، 28 يونيو 2024).
وعلى الصعيد الخارجي، تبدو المسألة أكثر صعوبة؛ لأن رفع العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران، والتي يرى بزشكيان أنها أحد أسباب تفاقم الأزمة الاقتصادية في الداخل، يقتضي تجديد المفاوضات مع الولايات المتحدة الأمريكية، وهو مسار يعتمد على متغيرين رئيسيين في المرحلة القادمة، لن يكون لبزشكيان دور فيهما.
المتغير الأول، هو نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي سوف تُجرى في 5 نوفمبر 2024، والتي يتنافس فيها -حتى الآن- الرئيس الحالي جو بايدن الذي يطمح لتجديد ولايته الرئاسية رغم التحديات التي تواجهه في هذا السياق، والرئيس السابق دونالد ترامب الذي يسعى للعودة إلى البيت الأبيض من جديد.
هنا، فإن إيران لا تستطيع المجازفة بتجديد المفاوضات مع رئيس أمريكي بقي على وجوده في البيت الأبيض نحو خمسة أشهر قبل إجراء الانتخابات الرئاسية، وليس من المعروف ما إذا كان سيستطيع تجديد ولايته أم لا، ومن ثم فإنها ستفضل الانتظار حتى إجراء الانتخابات واستيضاح مَن سيكون الرئيس الأمريكي القادم، دون أن ينفي ذلك أن طهران وواشنطن قد تواصلان إجراء اتصالات حول ملفات إقليمية في المقام الأول.
والمتغير الثاني، هو التصعيد الإقليمي الحالي في منطقة الشرق الأوسط، والذي بدأ في 7 أكتوبر 2023 بعملية "طوفان الأقصى" التي نفذتها حركة حماس داخل مستوطنات غلاف غزة، على نحو أدى إلى اندلاع الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة، والتي أنتجت بدورها ارتداداتٍ إقليميةً على نطاق واسع في ظل انخراط عدد من المليشيات الموالية لإيران في مواجهات بمستويات مختلفة مع إسرائيل، وفي ظل تطور التصعيد بين الأخيرة وإيران ووصوله إلى مستوى المواجهة العسكرية المباشرة، وإن كانت محدودة، كما حدث في الفترة من 1 إلى 19 إبريل 2024، بعدما قصفت إسرائيل القنصلية الإيرانية في دمشق، على نحو أسفر عن مقتل 7 من كوادر الحرس الثوري من بينهم قائد فيلق القدس في سوريا ولبنان محمد رضا زاهدي، وهو ما دفع إيران، في 13 من الشهر نفسه، إلى الرد عبر شن هجمات ضد إسرائيل، التي نفذت بدورها هجمات ضد إيران بعد ذلك بستة أيام (فرانس 24، 19 إبريل 2024).
خلاصات
من هنا، فإن بزشكيان لن تكون لديه خيارات كثيرة فيما يتعلق بالعمل على محاولة تحقيق ما وعده به؛ لأن زمام المبادرة ينتقل في هذه الحالة من رئيس الجمهورية إلى مؤسسات أخرى تمارس الدور الأهم في تحديد اتجاهات السياسة الخارجية، وعلى رأسها المرشد الأعلى للجمهورية والحرس الثوري الذي يدير العمليات الخارجية لإيران.
ومن دون شك، فإن هذا التصعيد الإقليمي بدوره سوف يقيد حرية الحركة المتاحة أمام بزشكيان لتنفيذ وعود أخرى سبق أن أطلقها، مثل جذب 200 مليار دولار من الاستثمارات وضم إيران إلى اتفاقية العمل الدولية لمكافحة تمويل الإرهاب وغسل الأموال "FATF". فقد تسببت هذه الاتفاقية تحديداً في خلافات واسعة داخل إيران في عهد الرئيس الأسبق حسن روحاني، الذي تبنى الموقف نفسه، ورأى أن إيران لا تستطيع استقطاب استثمارات أجنبية أو تعزيز تعاملاتها التجارية مع الخارج وربما دعم فرص نجاح المفاوضات مع الولايات المتحدة الأمريكية لإعادتها إلى الاتفاق النووي دون الانضمام إلى هذه الاتفاقية.
لكن جهود روحاني في هذا الصدد قوبلت برفض من جانب مجلس الشورى الإسلامي وصيانة الدستور، في ظل تخوف تيار المحافظين الأصوليين من أن الانضمام إلى هذه الاتفاقية قد يفرض قيوداً على الدعم الذي تقدمه إيران لحلفائها ووكلائها في المنطقة، وهو المصير الذي قد يواجه محاولات بزشكيان في هذا الصدد.
على ضوء ما سبق، يمكن القول في النهاية إن مهمة الرئيس الإيراني الجديد ليست سهلة، فالتحديات على كل منحنى في الطريق إلى الرئاسة. وحتى في حال ما إذا كانت لدى بزشكيان رغبة في الالتقاء مع خصومه في منتصف الطريق، فإن ذلك لا ينفي أن هناك متغيرات أخرى قد تؤثر في مقاربته في هذا الصدد.