في 21 ديسمبر 2022 نشر موقع الحكومة البيلاروسية بيانا يفيد بتقييد الوصول لأجزاء من منطقة غوميل في جنوب شرق البلاد على الحدود مع أوكرانيا. وذلك في الوقت الذي سافر فيه "زيلنسكي" إلى الولايات المتحدة، بعد يومين من زيارة "بوتن" إلى بيلاروسيا. بما يجعل الموقف كله يحتاج إلى تفسير وتدقيق.
ويبدو أن مشاركة القوات البيلاروسية والروسية في تدريبات عسكرية مشتركة خلال الفترة الماضية قد ألقت الضوء على مخاوف جديدة من هجوم مشترك وشيك يلوح في الأفق. الأمر الذي دعا وزير الدفاع الأوكراني "أوليكسي ريزنيكوف" إلى التصريح لشبكة سي أن أن في منتصف الشهر الجاري بأن قوات بلاده تستعد لاحتمال غزو بري روسي آخر عبر بيلاروسيا المتحالفة بشكل وثيق مع موسكو، وأجرت تدريبات عسكرية بالقرب من الحدود الشمالية لأوكرانيا في الأيام الأخيرة. وأضاف: "يجب أن نشعر بالقلق.. إن بيلاروسيا ليست جارة صديقة".
زيارة مثيرة للقلق
من المعروف أنه خلال الحرب الدائرة، ظهر الرئيس البيلاروسي "لوكاشينكو" كحليف استراتيجي لروسيا، حيث تتهمه أوكرانيا بدعم الجيش الروسي بالوسائل المادية والتقنية والذخيرة من مستودعاته خلال الحرب، وبإعداد العدة لشن هجوم مشترك مع روسيا ضدها عبر الحدود الشمالية، وهو الأمر الذي تنفيه كل من موسكو ومينسك. ولكن مع زيارة "بوتن" الأخيرة لحليفه في 19 ديسمبر أثيرت العديد من التساؤلات حول مدى تورط بيلاروسيا في الحرب. وهي المرة الأولى التي يلتقي فيها الثنائي في بيلاروسيا منذ ثلاث سنوات ونصف. في العادة كان يذهب "لوكاشينكو" إلى موسكو. فلماذا في هذا التوقيت؟
قبل الزيارة صرح الكرملين بأن زيارة الرئيس الروسي لمنسك هي مهمة عمل تركز على بحث التعاون الاقتصادي، فضلا عن مناقشة الوضع العسكري والسياسي الحالي. وأكد "لوكاشينكو" بدوره هذا التصريح، كما نفى التقارير التي تزعم أن بيلاروسيا قد تسحب استقلالها وتندمج مع روسيا قائلا "سيادتنا واستقلالنا لا يتزعزعان". وبالرغم من تأكيده على أن بلاده لن تدخل الحرب في أوكرانيا، لكنه سمح بنشر وحدات عسكرية مشتركة بطول الحدود مع جارته الجنوبية. (Euro News, 16 Dec. 2022)
يحتمل معهد دراسات الحرب ISW في واشنطن أن يكون اجتماع "بوتين" مع نظيره البيلاروسي للاتفاق على ترتيبات مرحلة جديدة من الحرب. وأكد ذلك تعليق قائد القوات المشتركة الأوكرانية "سيرهي نايف" على الزيارة بأنها تأتي بعد اجتماع "بوتين" في 17 ديسمبر مع القيادة العسكرية الروسية لمناقشة الأهداف الفورية ومتوسطة المدى للحرب. وأفاد أن الحكومة الأوكرانية تعتقد أن موسكو تناقش منسك في مشاركة أوسع للقوات البيلاروسية في العدوان الروسي ضد أوكرانيا، وهو ما يتزامن مع زيارة وزير الدفاع الروسي "سيرغي شويغو" للخطوط الأمامية، وكل ذلك يشير إلى تدشين مرحلة جديدة في عرض وتخطيط وإدارة الحرب، قد تنذر بعمليات هجومية متطورة ضد أوكرانيا في الأشهر المقبلة. (ISW, 19 December)
في تصريحات لقناة "القاهرة الإخبارية" 19 ديسمبر، وصف المحلل السياسي الدكتور "محمود الأفندي" زيارة "بوتين" إلى بيلاروسيا بالأكثر أهمية، بعد طلبه الاستشارات من قياداته العسكرية للمرحلة المتوسطة في حربه ضد أوكرانيا. كما توقع أن يكون هناك تحرك جديد للجيش الروسي عن طريق بيلاروسيا، التي يوجد بها ما يزيد عن 150 ألف جندي روسي تساندهم وحدات بيلاروسية وتتدرب معهم، لافتا إلى أن إجراء أكثر من 6 مناورات عسكرية بين البلدين منذ بداية الحرب حتى الآن، يزيد من احتمالية شن الجيش الروسي هجمات على كييف عبر بيلاروسيا.
من الواضح أن التعجيل بزيارة الرئيس الأوكراني "فولوديمير زيلينسكي" إلى واشنطن، الأربعاء 21 ديسمبر، هو رد طبيعي على زيارة "بوتن" لبيلاروسيا. خاصة وأنها رحلته الأولى خارج بلاده منذ بداية الحرب. وكانت الرسائل التي أرسلها البيت الأبيض تهدف إلى تحجيم أي تحركات محتملة ضد كييف، فقد صرح الرئيس الأميركي "جو بايدن" للصحافيين بأن أوكرانيا لن تقف وحدها أبدا، وأكد على تقديم حزمة مساعدات جديدة بأكثر من ملياري دولار لأوكرانيا، ووعد بمبلغ 45 مليارا إضافيا. BBC, 22 December 2022)). وكانت واشنطن قد أعلنت أنها ستزود أوكرانيا ببطاريات صواريخ باتريوت، مما يزيد بشكل كبير من قدرة الدفاع الجوي للبلاد. BBC, 21 December 2022)) ، وهي رسائل مهمة تعطي مؤشرات خطيرة لمستقبل الصراع، وتزيده تأزما.
إن حديث "الأفندي" وتقارير معاهد الحرب مثل ISW وغيرها من التحليلات، تشير إلى أن موسكو فقدت الأمل في المفاوضات مع الغرب، أو حتى تخلي أوروبا عن أوكرانيا، وهو ما يدعو روسيا إلى الضرب بيد من حديد على كييف. ولكن إذا فعل "بوتن" ذلك بمساعدة منسك، هل سيضمن ذلك عدم توسيع أوروبا للمساعدات العسكرية والتقنية لكييف، مما يزيد الأمر اشتعالا، وربما تلجأ بعض الدول المجاورة للتدخل وتوسيع رقعة العمليات؟ مما يقربنا من حالة أوروبا في الفترة التي سبقت اندلاع الحرب العالمية الثانية.
الهدف البيلاروسي من مساعدة موسكو
حتى الآن وبما أن القوات البيلاروسية لم تشارك بشكل مباشر في الحرب، فإن الدولة ليست طرفا في النزاع المسلح، وليست مسؤولة عن انتهاكات القانون الدولي لحقوق الإنسان من قبل القوات الروسية. لكنها تساعد موسكو بشكل أو بآخر، أيديولوجيا، أو بالتدريب، أو بتقديم تسهيلات مختلفة. ونعتقد أن نشر الجنود البيلاروسيين في حرب كاملة جنبا إلى جنب مع القوات الروسية سيمثل قطيعة جذرية مع أيديولوجية "لوكاشينكو" الأساسية للسلام والمؤيدة للاستقرار.
حسب معظم استطلاعات الرأي التي أجرتها مؤسسات من أبرزها "تشاتام هاوس"، فإن مسألة دعم منسك لروسيا تعارضها شريحة كبيرة من المجتمع البيلاروسي الذي يتردد في معارضة النظام علانية حتى الآن (Chatham House, 14 March 2022) لكن من الممكن أن يختلف الأمر إذا تطور الموقف إلى تدخل فاعل وعملي، ولوكاشينكو يعلم ذلك جيدا.
وبالرغم من علمه بذلك، أعلن الرئيس البيلاروسي في مطلع الشهر الجاري عن خطط لنقل معدات وقوات عسكرية إلى المنطقة الحدودية مع أوكرانيا للتدريب على مكافحة الإرهاب. وأنه سيتم تقييد حركة المواطنين على طول بعض الطرق العامة، وأن الأسلحة المستخدمة مقلدة لأغراض التدريب. وأثارت هذه الخطوة مخاوف عميقة من احتمال قيام روسيا بشن هجوم جديد على أوكرانيا انطلاقا من أراضي حليفتها البيلاروسية. رغم تأكيدات منسك المتكررة بأنها لن تدخل الحرب في أوكرانيا. خاصة وأن "لوكاشينكو" أعلن في أكتوبر الماضي عن نشر روسي جديد لنحو 9000 جندي في البلاد كجزء من تجمع عسكري مشترك جديد بين البلدين. (Euro News, 7 Dec. 2022)
يبدو أن منسك بدعمها موسكو تحاول دفع الأخيرة إلى تحسين قدراتها القتالية تحسبا لأي ظروف طارئة قد تدفعها إلى الدفاع عن نفسها وسط حرب واسعة، وربما مكاسب اقتصادية تخفف عنها وطأة العقوبات الغربية ضدها. لقد أشار الرئيس "بوتين"، حسب بي بي سي، إلى أن بعض الطائرات العسكرية البيلاروسية أصبحت مجهزة لتحمل صواريخا نووية، وأن روسيا تساعد في تدريب أطقمها. وفي المقابل، شكره الرئيس "لوكاشينكو" على تزويد بيلاروسيا بنظام دفاع جوي من طراز S-400 ونظام صواريخ إسكندر الباليستية. (BBC, 20 December 2022)
إن ذلك يجعل تقييمنا للموقف يتأرجح بين أمرين، فربما يحاول الزعيم الروسي الضغط على بيلاروسيا للانضمام إلى هجوم بري جديد محتمل في أوكرانيا. وقد يكون كل هذا في الواقع مجرد حيلة من موسكو لجعل كييف تتوقع هجوما بيلاروسيا، وبالتالي ربط الجنود الأوكرانيين في الشمال، بما يجعل العمليات الروسية في مختلف الجبهات الأخرى أكثر يسرا. خاصة وأن التدريبات البيلاروسية الروسية تجبر أوكرانيا على نشر قوات بعتاد كامل على طول الحدود استعدادا لاحتمال وقوع هجوم.
خاتمة
إن الخط الحدودي الوحيد مع أوكرانيا الذي من الممكن في حال تحالف دولته تحالفا كاملا مع روسيا أن يقلب موازين المعركة هو الحدود البيلاروسية. فهو مع الحدود الروسية يشكلان رقعة كبيرة من الممكن أن توسع من دائرة المعارك بما يحقق أهداف "بوتن". ولكن هل من الممكن أن يوافق الرئيس البيلاروسي على تلك المغامرة، خاصة وأنه يعرف أن قدرات جنوده في المعارك أضعف بكثير من قدرات الجنود الأوكرانيين، وأن مشاركته الفاعلة في العمليات ربما تكلفه حياة كل جنوده، وبالتالي إثارة غضب المعارضة. نعتقد أن الأمر لن يكون بتلك السهولة مهما زين له "بوتن" ذلك.
لقد صرح "مارك كانسيان"، العقيد المتقاعد من مشاة البحرية الأمريكية لـ Business Insider في 14 ديسمبر، بأن القوات المسلحة البيلاروسية "صغيرة وضعيفة"، وأن الجيش البيلاروسي "سيؤكل حيا" إذا غزا أوكرانيا. ومن رأيه أن البيلاروسيين حريصين للغاية على عدم إشراك قواتهم في المعركة.
كما أن قدرة الجيش الروسي، حتى مع تعزيزها بالجنود البيلاروس، على إعداد وتنفيذ عمليات هجومية فعالة واسعة النطاق في الأشهر القليلة المقبلة تظل موضع شك. وتؤكد ذلك ملاحظة المحلل السياسي الفرنسي "ديديه لوراس" (Barron's, 16 December 2022) بأن القوة البشرية التي تولدها روسيا من جنود الاحتياط الذين تم حشدهم لن تكون مدربة بشكل كاف لإجراء حسم سريع وفعال في المعارك، حتى لو تم دعمهم بقوات منسك.
نرجح أنه في حالة شن "بوتين" لهجوم مشترك عبر الحدود البيلاروسية، فإنه سوف يكرر نفس الأخطاء الاستراتيجية التي وقعت فيها القيادة السوفيتية خلال الحرب العالمية الثانية، حيث إنه يكافح حاليا للحفاظ على قدرات القوات التي تقاتل في أوكرانيا خلال شهور الشتاء، بتجهيزها بالدبابات والمدفعية والضربات الصاروخية بعيدة المدى، فضلا عن المحروقات وغيرها من الأمور الأساسية للبقاء في عمليات تجرى في هذا المناخ الصعب. وهكذا فإنه من غير المرجح أن يتم تجهيز قوة جديدة كبيرة لعمليات هجومية هذا الشتاء، حتى لو دعمته بيلاروسيا بالجنود، فهذا الأمر سيبقى موضع شك.
ومع ذلك، ووفقا لتقديرات معهد ISW فقد يأمر "بوتين" بتجديد العمليات الهجومية واسعة النطاق في وقت لاحق من هذا الشتاء، ولكن من المهم عدم المبالغة في تقدير القدرات المحتملة للقوات الروسية أو الروسية البيلاروسية المشتركة لتنفيذها بنجاح.
وعلى الرغم من كل ذلك، لا يزال من غير المحتمل أن تهاجم القوات البيلاروسية أوكرانيا، حتى مع الفحص السريع للجاهزية العسكرية البيلاروسية بعد دعم روسيا العسكري لها. ولا يبدو أن التدريبات المشتركة تمثل احتمالية لهجوم مشترك. سوف تتحرك القوات العسكرية الروسية منفردة، لكن مع تسهيلات بيلاروسية، سواء بانطلاق الصواريخ والطائرات المسيرة الروسية من قواعدها، أو حتى اقتحام الجنود الروس للأراضي الأوكرانية عبر أراضيها، ليس أكثر من ذلك، فبوتن يهمه أيضا أن يبقى حليفه البيلاروسي في السلطة وتجنب غضب المعارضة في منسك.