يراقب حزب الله اللبناني بدقة وحذر تطورات ما يجري من مواجهات مسلحة بين إسرائيل وحركة حماس في قطاع غزة، عقب العملية التي شنتها "كتائب القسام" – الذراع العسكرية لحماس – داخل إسرائيل في 7 أكتوبر 2023. ورغم أنه كان حريصاً على الانخراط في مواجهات محدودة ومحسوبة مع إسرائيل، بالتوازي مع اتجاهها إلى استخدام الخيار العسكري للرد على عملية "طوفان الأقصى"، إلا أنه لم يعد يستبعد اتساع نطاق الحرب في قطاع غزة لتشمل دولاً وأطرافاً أخرى.
حرص الحزب على عدم استبعاد هذا الخيار يمكن تفسيره في ضوء عاملين رئيسيين: أولهما، أن المستوى العملياتي الذي وصلت إليه عملية "طوفان الأقصى" سوف يدفع إسرائيل إلى رفع سقف الأهداف التي تسعى إلى تحقيقها من خلال عملية "السيوف الحديدية" التي تشنها حالياً في قطاع غزة. فالمسألة لم تقتصر على حدوث اختراق أمني واسع وغير مسبوق داخل إسرائيل، وإنما تمتد إلى ارتفاع أعداد القتلى والمصابين والمحتجزين الإسرائيليين والأجانب لدى حماس.
ثانيهما، أن الهدف المعلن لعملية "السيوف الحديدية" هو القضاء على القدرات العسكرية لحركة حماس، وهو هدف قد لا يتأتى بحصر المواجهة الحالية في قطاع غزة، باعتبار أن الحركة أسست مواقع ومكاتب لها في دول أخرى، مثل لبنان، التي انطلق منها ثلاثة عناصر تابعين للحركة قاموا، في 14 أكتوبر الجاري، بتفجير جزء من السياح الحدودي بين لبنان وإسرائيل والاشتباك مع القوات الإسرائيلية قبل مقتلهم بغارة جوية نفذها سلاح الجو الإسرائيلي، (الشرق الأوسط، 15 أكتوبر 2023).
من دون شك، فإن هذا الهدف لا ينفصل عن التهديدات التي أطلقها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في أول رد فعل له على عملية "طوفان الأقصى"، عندما قال، في 9 أكتوبر الجاري، إن "رد إسرائيل على حماس سيغير الشرق الأوسط ووجه المنطقة لعقود، (سكاي نيوز عربية، 9 أكتوبر 2023)، وهى تهديدات توحي بأن إسرائيل ربما لن تحصر المواجهة الحالية في نطاق قطاع غزة، وإنما قد تمددها لتشمل دولاً وأطرافاً أخرى.
معضلة التوقيت
رغم أن الحزب أعلن على لسان نائب أمينه العام نعيم قاسم، في 13 أكتوبر الجاري، أنه "مستعد متى يحين وقت العمل للتحرك ضد إسرائيل، (روسيا اليوم، 13 أكتوبر 2023)، إلا أنه يمكن القول إن اندلاع الحرب الحالية في قطاع غزة جاء في وقت غير مواتٍ بالنسبة للحزب، وذلك لاعتبارات ثلاثة رئيسية:
الأول، أن الحزب حافظ على معادلة الردع مع إسرائيل التي كرسها الطرفان منذ انتهاء حرب عام 2006، حيث لم تزد المواجهات بين الطرفين على مناوشات محدودة سرعان ما تنتهي بعد أن يكون كل طرف قد وجه للآخر رسائله عبر تلك المناوشات.
وبالطبع، فإن ما زاد من حرص الحزب على الحفاظ على تلك المعادلة هو انخراطه بشكل واسع في الصراع المسلح داخل سوريا، منذ بدايته في عام 2011. وقد انتهك الحزب بهذا الانخراط مبدأ أساسياً اعتمدت عليه السياسة الخارجية اللبنانية، وهو مبدأ "النأي بالنفس" الذي قضى بعدم التدخل في الصراع السوري، تجنباً للتعرض لتداعيات سلبية عديدة سوف تمس أمن واستقرار لبنان في الصميم.
ومع أن توازنات القوى تغيرت داخل سوريا لصالح نظام الرئيس السوري بشار الأسد، في ظل الدور الذي مارسته روسيا وإيران والمليشيات الموالية لها، إلا أن وجود الحزب داخل سوريا ما زال ملموساً، ولا يبدو أنه سوف يتراجع على الأقل في المدى المنظور، خاصة أنه يوفر للحزب القدرة على تمرير الأسلحة من سوريا إلى لبنان، رغم كل الضربات العسكرية التي تشنها إسرائيل باستمرار للحيلولة دون ذلك، ولمنع إيران من ترسيخ نفوذها داخل سوريا.
كان آخر تلك الضربات تلك التي تعرض لها مطار حلب، في 14 أكتوبر الحالي، للمرة الثانية خلال يومين، (الأنباء الكويتية، 15 أكتوبر 2023)، والتي استهدفت من خلالها إسرائيل الرد على إطلاق صاروخين من الأراضي السورية باتجاهها في إطار دعم حماس في الحرب الحالية، وتوجيه رسالة ردع لإيران بالتوازي مع الزيارة التي كان يقوم بها وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، إلى بغداد وبيروت ودمشق والدوحة، والتي كانت الحرب في غزة هي عنوانها الرئيسي.
الثاني، أن الحزب يتعرض لضغوط قوية داخلية وخارجية، بسبب اتهامه بالمسؤولية عن ما آلت إليه التطورات السياسية في لبنان، بعد تفاقم أزمة الفراغ الرئاسي، عقب انتهاء ولاية الرئيس السابق ميشال عون في 31 أكتوبر 2022. فرغم مرور نحو عام على هذه الأزمة، إلا أنه لا توجد مؤشرات تدعم من احتمالات الوصول إلى تسوية قريبة لها.
إذ ما زال الحزب مصراً على تعطيل عملية انتخاب الرئيس، وعلى تسميه مرشح بعينه، هو رئيس تيار المردة سليمان فرنجية، في مقابل إصرار القوى السياسية المناوئة لها على تسميه مدير إدارة الشرق الأوسط ووسط آسيا في صندوق النقد الدولي جهاد أزعور مرشحاً رئاسياً.
من هنا، فإن الحزب لا يستطيع بسهولة في المرحلة الحالية أن يغامر بفتح جبهة جديدة في الصراع مع إسرائيل، خاصة أن ذلك كفيلاً بمضاعفة الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها لبنان ولم تستطع الإجراءات التي اتخذتها حكومة تسيير الأعمال احتواء تداعياتها على المستويين الاقتصادي والاجتماعي.
وإذا كان الحزب قد غامر بالانخراط في حرب مع إسرائيل في عام 2006، فإن المسألة تبدو مختلفة حالياً. إذ لم تكن الأزمة الاقتصادية في البلاد قد وصلت إلى هذا المستوى غير المسبوق، فضلاً عن أن الظروف الإقليمية والدولية في هذه المرحلة أتاحت للبنان الحصول على مساعدات اقتصادية وبدء مرحلة من إعادة إعمار ما خلفته تلك الحرب، وهو ما لا يبدو متوافراً في المرحلة الحالية.
إذ أن قوى دولية عديدة، مثل الولايات المتحدة الأمريكية، ما زالت ترى أن تبني أي مقاربة جدية لمساعدة لبنان على احتواء الأزمة الاقتصادية الحالية لن يتأتى في ظل استمرار انخراط حزب الله في الملف السوري، وفي ظل تصاعد حدة أزمة الفراغ الرئاسي، التي قاربت على افتتاح عامها الثاني في بداية نوفمبر القادم.
لقد كان موقف حزب الله الداعم للوصول إلى اتفاق لترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل برعاية أمريكية، في 27 أكتوبر 2022، (بي بي سي، 27 أكتوبر 2022) نابعاً من رغبته في تقليص حدة الضغوط الداخلية والخارجية التي يتعرض لها بسبب انخراطه في الصراع السوري، عبر إتاحة المجال أمام الدولة للتنقيب عن النفط والغاز في مياهها الإقليمية، بالتالي تعزيز قدرتها على مواجهة تداعيات الأزمة الاقتصادية. يعني ذلك أنه ليس في وارد أن يخاطر مرة أخرى بالدخول في مواجهة عسكرية مع إسرائيل في الوقت الحالي يبدو غير مستعد لتحمل تكلفتها.
الثالث، أن الولايات المتحدة الأمريكية دخلت بثِقلها في الحرب الحالية إلى جانب إسرائيل، وهو ما يمثل بدوره متغيراً يضعه حزب الله في حساباته إزاء التداعيات المحتملة التي يمكن أن تفرضها تلك الحرب.
صحيح أن إدارة الرئيس جو بايدن حرصت على عدم توجيه اتهام مباشر لإيران بالتورط في الحرب الحالية، حيث قال المتحدث باسم مجلس الأمن القومي جون كيربي، في 9 أكتوبر الجاري، أن "إيران متواطئة رغم أن الولايات المتحدة ليس لديها معلومات مخابرات أو أدلة تشير إلى ضلوعها في الهجمات، (موقع الحرة، 10 أكتوبر 2023)، لكن الصحيح أيضاً أنها في الوقت نفسه حرصت على توجيه رسائل لردع إيران وحزب الله عن الانخراط في الحرب.
إذ أرسلت واشنطن حاملة الطائرات "يو إس إس جيرالد آر فورد" إلى منطقة شرق المتوسط، تبعها حاملة الطائرات "يو إس إس دوايت أيزنهاور، (الجريدة الكويتية، 15 أكتوبر 2023). ومثّل ذلك ترجمة للتحذيرات التي وجهها الرئيس جو بايدن لكل من إيران وحزب الله من عواقب محاولة توسيع نطاق الحرب الحالية.
هنا، تبدو الرسالة واضحة ومفادها أن اتجاه هذه الأطراف إلى تبني هذا الخيار كفيل بدفع الولايات المتحدة الأمريكية للتدخل مباشرة في الحرب للحيلولة دون ذلك، ولرفع كلفة أي خطوات إجرائية تتخذ في هذا السياق.
وتوازى ذلك مع ظهور تلميحات بإمكانية اتجاه الإدارة الأمريكية إلى تجميد العوائد المالية التي من المفترض أن تحصل عليها إيران – من أموالها المجمدة لدى كوريا الجنوبية وقدرها 6 مليارات دولار – وفقاً لصفقة تبادل السجناء، في حالة ما إذا توافرت أدلة تتيح توجيه اتهام لإيران بالمشاركة في الإعداد لعملية "طوفان الأقصى"، خاصة أنها أسفرت عن سقوط قتلى أمريكيين واحتجاز البعض الآخر من جانب "كتائب القسام".
المتغير الحاكم
من هنا، يمكن القول إن الحزب لا يسعى إلى التورط في مواجهة جديدة واسعة مع إسرائيل على غرار حرب عام 2006. وانطلاقاً من ذلك، يمكن تفسير اتجاه الحزب إلى الانخراط في مناوشات محدودة مع إسرائيل، بالتوازي مع شن عملية "السيوف الحديدية" داخل قطاع غزة. فالهدف هو تحذير إسرائيل من مغبة توسيع نطاق الحرب الحالية وعواقب الإصرار على اجتثاث حركة حماس داخل القطاع عبر شن عملية برية في المرحلة القادمة.
إذ أن هذا الخيار قد يُعرِّض الحزب بالفعل لضغوط قوية من جانب المحور الذي ينتمي له، والذي بات بدوره حريصاً على توجيه رسائل مضادة بأن التدخل البري قد يكون كفيلاً بتغيير الحسابات الحالية وتبني خطوات تصعيدية أكبر في مواجهة إسرائيل.
فقد قال وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، في 12 أكتوبر الحالي، إن "استمرار الجرائم بحق الفلسطينيين سيلقى رداً من بقية المحاور، وستكون إسرائيل مسؤولة عن العواقب"، (فرانس 24، 13 أكتوبر 2023). وأكدت بعثة إيران في الأمم المتحدة، في 15 من الشهر نفسه، أنه "إذا لم تتوقف الجرائم والإبادة الجماعية فقد يخرج الوضع عن نطاق السيطرة ويؤدي إلى عواقب واسعة النطاق"، (سي إن إن، 15 أكتوبر 2023).
بدورها، وجّهت المليشيات الموالية في دول مثل العراق وسوريا واليمن رسائل مماثلة بأنها لن تقف مكتوفة الأيدي في حالة تصاعد حدة الحرب واتساع نطاقها، خاصة مع تزايد الوجود العسكري الأمريكي بالقرب من ساحة المواجهة.
من هنا، يواجه الحزب مأزقاً صعباً. إذ أنه لا يريد التورط في حرب قد لا يكون توقيتها مناسباً بالنسبة له، لاعتبارات داخلية وإقليمية في المقام الأول. لكنه قد يضطر إلى تبني هذا الخيار في حالة توافر شروط أو تبلور ظروف معينة، رغم أن كلفة هذا الخيار قد تكون أعلى بكثير مما دفعه الحزب في حرب 2006.
يعني ذلك في النهاية أن شعار "وحدة الساحات" الذي كان الأمين العام للحزب حسن نصر الله أول من رفعه، كدلالة على التماهي الواضح بين المليشيات التي تنضوي تحت لواء ما يسمى بـ “محور المقاومة" أصبح أمام اختبار حقيقي، فإما أن يتراجع الحزب أمام التهديدات الإسرائيلية والأمريكية ويفقد بالتالي قسماً لا يستهان به من رصيده داخل هذا المحور، وإما أن يتورط في الحرب ويدفع بالتالي جزءاً كبيراً من فواتيرها المحتملة.