مقالات تحليلية

تجربة حماس في مواجهة خصومها في غزة

11-Sep-2025

اعتمدت حركة "حماس" بعد سيطرتها العسكرية على قطاع غزة، سياسةً حادّة في تعاملها مع خصومها ومنتقدي سياساتها من الأفراد والجماعات على حدٍّ سواء، بدءاً من حركة فتح ومنظمة التحرير والسلطة الفلسطينية، مروراً بالحركات الإسلامية والجماعات المسلحة، والنشطاء والحقوقيين والطلبة، ووصولاً إلى الرافضين لأدائها الحكومي من المشاركين في الاحتجاجات ضدها. لقد واجهت الحركة هؤلاء بأقصى أدوات العقوبات ما بين عمليات الاغتيال السياسي، والتعذيب، والملاحقة والاعتقال، وحظر الأنشطة الحزبية والنقابية، وغيرها من إجراءات مواجهة الخصوم التي عرفتها "حماس" على امتداد سنوات سيطرتها على غزة.

 

تسليط الضوء على الانتهاكات

يهدف هذا المقال إلى تسليط الضوء على الانتهاكات التي ارتكبتها "حماس" بحق فلسطينيي غزة، ومحاكمة سياساتها مع اقتراب مغادرتها المشهد السياسي ضمن ما أنتجته الحرب الإسرائيلية من اشتراطات دولية وعربية وفلسطينية. ومن الضروري التأكيد ابتداءً على أن السطور الآتية لا تتضمن توثيقاً حصرياً، وإنما مُقتطفات من أبرز مشاهد الاعتداءات وفي حدود ما نُشر وسُمح بتوثيقه ضمن قائمة طويلة ولا نهائية من اعتداءات الحركة على فلسطينيي القطاع ومؤسساتهم الوطنية.

 

مواجهة "المنظمة والسلطة وفتح"

أرّخت أحداث الاقتتال الداخلي في أثناء وبعد انقلاب "حماس" العسكري على النظام السياسي الفلسطيني لجولة ممتدة من الاعتداءات على العاملين في منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية والمنتمين لحركة فتح، من مداهمة المقرات والمؤسسات التابعة لها وحظر أنشطتها الرسمية والحزبية في القطاع. ورغم توصل هذه الأطراف إلى عشرات اتفاقات التهدئة برعاية عربية وفلسطينية ودولية، إلا أنها انهارت مع تهديدات "حماس" المتتالية، والتصريحات التي أطلقها قادتها بأن "لا رجعة عن الحسم العسكري"، كذلك مع الممارسة العملية بتنفيذ "كتائب القسام الجناح العسكري لحماس" هجوماً مُنظماً على قوات ومواقع أجهزة الأمن الفلسطينية في جميع أنحاء القطاع، ثم الاستيلاء في الرابع من يونيو 2007، على كافة المقرات الأمنية في سياق التنازع على الصلاحيات والصراع السياسي على السلطة، وما خلفه من شرخ حاد بين مؤسستي الرئاسة ورئاسة الوزراء في السلطة الفلسطينية بعد الانتخابات التشريعية في يناير 2006. وقد شكّلت هذه الأحداث انتكاسة حقيقية لعملية التحول الديمقراطي التي وُئدت في مهدها. (صفحات سوداء في غياب العدالة، المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، يونيو 2007)

 

 اعتداءات واسعة

دفعت سيطرة "حماس" على القطاع إلى اعتداءاتٍ واسعة على قيادة وكوادر وأعضاء فتح ومنظمة التحرير وفصائلها المختلفة، قُتل وأصيب خلالها المئات منهم في هجماتٍ وعمليات عسكرية مُنظمة وملاحقة المنتمين للحركة والعاملين في اُطر المنظمة والاعتداء عليهم. ووثقت المؤسسات الحقوقية المئات من حوادث الاعتداءات على امتداد هذه السنوات. وتركزت ممارسات الحركة ضد خصومها في عمليات "الإعدام الميداني خارج إطار القانون" وبلا محاكمة للفتحاويين وبعض المشتبه بتخابرهم وتعاونهم مع إسرائيل وفق ما بررته الحركة، التي عادةً ما كانت تُوظّف أحداث الفوضى الناتجة عن الهجمات الإسرائيلية في تنفيذ عمليات الاعدامات الميدانية الواسعة مع ما تقوم به شرطتها وأجهزتها الأمنية من تنفيذ عمليات للاعتقال والتعذيب والضرب المبرح ضد مجاميع من فتحاويي قطاع غزة وموظفي السلطة وأجهزتها الأمنية، فضلاً عن سياسة الاعتقال المنزلي وفرض الإقامة الجبرية على مئات الأفراد المنتمين لحركة فتح (المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، يناير 2009). وبعدما تتوقف الهجمات الإسرائيلية تقوم باستدعائهم والتحقيق معهم وتجديد مدة اعتقالهم المنزلي.

 

حظر الأنشطة الحزبية

وفي مقابل ذلك كله، حظرت "حماس" الأنشطة الحزبية والنقابية والطلابية، بما فيها حظر إحياء المناسبات الوطنية كذكرى الرئيس ياسر عرفات، وإلغاء انتخابات الهيئات المحلية والنقابية وانتخابات مجالس الطلبة ونقابات العاملين في جامعات غزة. وقد شهدت فترة ما بعد عام 2007، اعتداءات مباشرة على التجمعات الشعبية، كلما أرادت المنظمة وفتح أن تُحيي مناسبة أو أن تُنظم فعالية وطنية أو مجتمعية، وفي مقدمتها الاعتداءين السنويّين الأبرز في شهري يناير وفبراير من كل عام  على منظمي فعاليات احياء ذكرى تأسيس الثورة الفلسطينية، واحياء ذكرى الرئيس ياسر عرفات، مع ما يرافقها من استخدام للقوة من قِبل الشرطة وأجهزة الأمن في تفريق التجمعات السلمية والاعتداء على الشخصيات الوطنية والقيادية الحزبية، وتنفيذ حملات استدعاءات واعتقالات بحقهم.

 

التعامل مع الجماعات المسلحة

كان التوتر هو الصفة السائدة في العلاقات بين "حماس" و"الجماعات المسلحة" في القطاع، وذلك رغم محاولات "حماس" تعميم سياسة التوازن والتهدئة مع هذه الجماعات التي تمتلك القذائف الصاروخية، والتي قد تستخدمها في مواجهة إسرائيل مع ما يترتب على ذلك من زعزعة حكم الحركة في القطاع بعد سنوات من التهدئة الأمنية مع إسرائيل.

فمن جهة، شهدت هذه المرحلة خلافات حادّة مع "حركة الجهاد الإسلامي" رغم أن الحركتين تنبثقان من خلفية واحدة أساسها "جماعة الإخوان المسلمين"، حيث كانت قضايا العلاقة مع إيران وطبيعة الارتباطات الخارجية للحركتين، والموقف من الأزمة السورية، وطريقة إدارة ملف الصراع مع إسرائيل، ومستوى المشاركة في السلطة الفلسطينية وغيرها من القضايا قد أسست لتباينات واضحة بين الحركتين، انعكست حُكماً على مستوى العلاقة بينهما ميدانياً، والتي مهدت بدورها إلى صدامات مسلحة بين أعضاء وأنصار الحركتين لمراتٍ عديدة، أدّت إلى مقتل واعتقال أفراد وقيادات من "الجهاد الإسلامي".

 

منطق القوة والملاحقة

ومن جهة ثانية، تعاملت "حماس" مع الجماعات ذات الانتماء السلفي بمنطق القوة والملاحقة الأمنية؛ فاعتقلت السلفيين وضيقت عليهم، ونزعت سلاحهم ومنعتهم من تأسيس حزب سياسي. ووقعت المواجهة الأقوى بين الطرفين في صيف 2009، عندما تحدّى "عبد اللطيف موسى"، زعيم "جند أنصار الله" وإمام مسجد ابن تيمية في رفح، "حكومة حماس"، وأعلن إنشاء "الإمارة الإسلامية" في رفح، ما أدّى إلى مواجهات مع أنصاره السلفيين، أسفرت عن مقتل قادة التنظيم وانهياره.

وفي إطار ملاحقة قيادة وأنصار "حركة الصابرين"، كانت الأجهزة الأمنية قد شنت في ديسمبر 2016، حملة  اعتقالات ضد قادة "حركة الصابرين"، التي تُعد ذراع إيران في غزة، بعد سنوات من العلاقة المتوترة بين الحركتين، فيما استمرت بملاحقة أمين عام الحركة، هشام سالم، الذي سبق أن تعرض إلى محاولات اغتيال، بعد اتهامه بنشر التشيع في القطاع. (جريدة الشرق الأوسط، 15 ديسمبر 2016)         

 

قمع الاحتجاجات الشعبية

استمرت سياسة فرض القيود المشدّدة على حرية الرأي والتعبير في غزة بعد عام 2007، وشهد القطاع على إثر هذه السياسات عشرات حوادث التصدي للمظاهرات والاحتجاجات الشعبية المطالبة بتحسين الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، والمطالبة بتخلي "حماس" عن الحكم والانصياع للإرادة الشعبية الجمعية؛ بالعودة إلى مسار المصالحة الداخلية وإجراء الانتخابات العامة، فضلاً عن المطالبة بالعودة إلى مسار التسوية السياسية مع إسرائيل بديلاً عن نهج المقاومة الذي فشل في تحقيق التطلعات الفلسطينية.

 

تصدير أزمة غزة

ورغم محاولات "حماس" توظيف العوامل الخارجية من أجل تهدئة حالة الاحتقان الداخلي وإفشال امكانية تشكيل قيادة جماهيرية مستقلة ضدها، وذلك عبر تصدير أزمة غزة ومسبباتها إلى السلطات الإسرائيلية المحتلة والسلطة الفلسطينية، وادعاء المسؤولية الحصرية لهذين الطرفين  في انتاج الأزمات والتسبب في تردي الأوضاع المعيشية وارتفاع معدلات الفقر والبطالة في القطاع، إلا أن محاولاتها لم تنجح في إحباط الاحتجاجات الشعبية المطلبية في الأعوام (2011 و2012  و2016 و2018 و2019 و2022 و2023 و2025)، التي وُوجهت بالعنف وبالقبضة الحديدية. فقد تعرضت الاحتجاجات المعروفة بالحِراك الشعبي "حراك بدنا نعيش" للقمع واتُهم المشاركين فيها بأنهم يعملون لأجندات سياسية إما مرتبطة بحركة فتح أو إسرائيل، وجرى اعتقال مَن يقف خلفها في مراتٍ عدة. (الشرق الأوسط، 25   مارس 2025).

 أما الاحتجاجات الشعبية المتصاعدة في العامين الأخيرين والممتدة من جباليا وبيت لاهيا والشجاعية وخان يونس والنصيرات، والتي طالبت بوقف الحرب، وأطلقت شعارات تُهاجم "حماس" وقادتها، خاصة زعيمها الراحل يحيى السنوار، ورفعت شعارات "كفى دماراً" و"(حماس) برا برا" و "هي هي (حماس) إرهابية"، فقد جوبهت باعتداءات مباشرة عليها، أدّت إلى مقتل عدد من المشاركين فيها، واعتقال بعض المشاركين،  فضلاً عن عمليات المطاردة المستمرة لقادة الاحتجاجات الشعبية.

 

تراجع واضح في شعبية حماس

وسجّلت هذه السنوات تراجعاً واضحاً في شعبية "حماس" لدى الرأي العام الفلسطيني، كان هذا التراجع دافعاً إلى تصاعد الاحتجاجات الشعبية ضدها. فأظهر استطلاع للرأي العام جرى في شهر أغسطس 2007، تراجعاً في شعبية "حماس". (مركز القدس للإعلام والاتصال، 25 سبتمبر 2007). كما أظهر استطلاع للرأي العام في مارس 2019، تراجعاً في شعبية "حماس"، أرجعه تحليل الجهة المُنفذة للاستطلاع إلى استخدام "حماس" القوة وقمع المظاهرات الجماهيرية في قطاع غزة. (المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، 19 مارس 2019). وكشف استطلاع ثالث للرأي العام في شهر سبتمبر 2023، وقبل عملية "طوفان الأقصى"، أن 44% من سكان غزة لا يثقون في الحكومة التي تقودها "حماس". (البارومتر العربي، 25 أكتوبر 2023).

وحول مستوى التأييد الشعبي لقرار عملية "طوفان الأقصى"، أظهر استطلاع للرأي أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية أن أغلبية سكان قطاع غزة يعتقدون أن قرار "حماس" بشن الهجوم في 7 أكتوبر كان خاطئاً. وبحسب الاستطلاع نفسه، قال ما نسبتهم 75% من المشاركين فيه من سكان قطاع غزة: إن قرار شن الهجوم كان قراراً غير صائب. (RT، 19  سبتمبر 2024)  

ويقول الناشط السياسي الفلسطيني جميل عبد النبي، وكان قيادياً سابقاً في "حركة الجهاد الإسلامي": "إن المقاومة حق لكل الشعوب التي تتعرض للاحتلال، ولكنني ما زلت أرى أن قرار 7 أكتوبر 2023، كان خطيئة استراتيجية ارتكبتها حركة (حماس)، التي لم تكن تَعي معطيات الواقع السياسي، وأصبحت غير مؤهلة لقيادة قضية بحجم القضية الفلسطينية". (موقع قناة الغد، 15 أغسطس 2025).

 

الخلاصة:

يمكن القول ختاماً، إن حركة "حماس" التي خالفت نصوص أدبياتها الاجتماعية والسياسية، كان من السهل عليها أن تُغامر في علاقاتها الداخلية، وأن تتمادى إلى حد الخصومة مع منتقدي سياساتها وإجراءاتها الميدانية. غير أن هذه الخصومة لم تكن تتوقف عند حدود الانكفاء على الذات، وبالتالي عدم الاستجابة للمطالب الشعبية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بل تطورت إلى المواجهة الفعلية وباستخدام أدوات القوة والعنف كافة  كما فعلت مع قطاعات واسعة في غزة، وعلى امتداد سنوات سيطرتها على القطاع، حتى فقدت الحركة شعبيتها ومبررات وجودها واستمرارها في الحكم.

223