قامت القوات الأوكرانية بتوغل لأكثر من ثلاثين كيلو مترا بمقاطعة كورسك الروسية منذ 6 أغسطس الجاري، واستولت على القرى المتاخمة للحدود الأوكرانية، وأخذت مئات الأسرى، وأجبرت عشرات الآلاف من المدنيين على الإجلاء، وتطور الأمر في 23 أغسطس إلى مهاجمة المحطات النووية في المقاطعة بالمسيرات التي اعترضتها الدفاعات الروسية.
الهدف الأولي
الظاهر أن روسيا
لم تكن تتوقع هذا الهجوم، حيث كانت معركتها في دونيتسك على أشدها، ويبدو أن الهدف
الأولي من تحركات "زيلينسكي" كان جذب انتباه القوات الروسية بعيدا عن
جبهة دونيتسك، وإدخالها في معارك ثانوية لأطول فترة ممكنة. خاصة وأن كورسك تحتل
أهمية لدى روسيا كونها إحدى المقاطعات التي تحتوي على منشآت نووية. ولكن على العكس
من ذلك تمكنت القوات الروسية من مواصلة تقدمها في دونيتسك، واقتربت من السيطرة الكاملة
على الإقليم.
ومن المعروف أن
"بوتين" يتمتع بتاريخ من الاستجابة البطيئة للأزمات المختلفة منذ بداية
الحرب، حتى أنه قلل من أهمية الهجوم على كورسك ولم يعطه أولوية قصوى حتى الآن. وبعد
عامين ونصف من شن حرب تهدف إلى إزالة ما وصفه بأنه تهديد لبلاده، فإن المشهد
الروسي أصبح الأكثر اضطرابا، فهل يمكن أن
يصبح التوغل الأوكراني في كورسك نقطة تحول في هذه الحرب التي أرقت العالم؟
معادلة القوة
إن إرسال
الجنود الأوكرانيين إلى أراضي روسية في حد ذاته أمر مخالف للبديهة في نظر البعض، وهو
ما أثار الدهشة في جميع أنحاء العالم، حيث ظل الهدف الحقيقي غامضا إلى حد ما. ولكن من الواضح أن هذه الخطوة الجريئة جزء من خطة
محددة الأهداف. فروسيا على الرغم من تفوقها في ساحة المعركة، لكنها اضطرت إلى إعادة
ترتيب وتموضع قواتها في شرق أوكرانيا، ولو كان الأمر عرضيا ما كانت لتفعل ذلك
واكتفت فقط بضربات صاروخية أو جوية ضد القوات الأوكرانية داخل الإقليم المحتل.
وعلى العكس من ذلك تم إجبار روسيا على سحب جزء من الذين يقاتلون في دونيتسك
وإرسالهم إلى كورسك، وهو أمر يحسب لزيلنسكي.
من وجهة نظر المحلل
العسكري الأوكراني "ميخايلو جيروخوف"، في تصريحه لبي بي سي، فإنه نظرا
للمخاوف الغربية المستمرة من تصاعد الحرب، فمن المحتمل أنه تم منح نوع من الإذن لتنفيذ
عملية بهذا الحجم على الأراضي الروسية. وبالرغم من حدوث توغلات مماثلة من قبل، إلا
أن هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها استخدام القوات الأوكرانية النظامية بهذه
الطريقة، ما أجبر وزارة الدفاع الروسية على الاعتراف بإعادة انتشار القوات في
اتجاه بلدة سودجا في كورسك. لقد قال "زيلينسكي"
في خطابه عشية الهجوم "كلما زاد الضغط على المعتدي الذي جلب الحرب إلينا،
أصبح السلام أقرب. سلام عادل من خلال قوة متعادلة" (BBC: 7 August 2024). إذن
فقد يكون الهدف الحقيقي رغبة أوكرانية في معادلة القوة.
ما يرجح هذه الفكرة هو أن روسيا تكافح من أجل
إيجاد قوات مناسبة لصد الهجوم الأوكراني. إن فكرة معادلة القوة تؤكدها موسكو التي
وعدت من قبل بعدم إرسال المجندين إلى الجبهة، إلا أنها تنشرهم الآن في كورسك دون
تدريب كاف. صرح بعض المحللين لأسوشيتد برس، بعد أيام قليلة من بدء معركة كورسك، أنه يجري استدعاء
الاحتياط، حتى تتمكن روسيا من تجنب سحب كامل قواتها من منطقة دونباس الأوكرانية، التي
تحرز فيها بعض التقدم. كما أدى النقص في
القوات إلى محاولة السلطات إغراء الروس للخدمة من خلال تقديم رواتب كبيرة (AP News: 12
August 2024).
السياسة تتدخل في سير المعركة
يعتقد بعض
الخبراء أن كييف وضعت الانتخابات الأميركية المقبلة أمامها عندما شنت الهجوم. قال "جوني
أسكولا"، المحلل العسكري الفنلندي ليورو نيوز، إن أحد تفسيرات هذه العملية هو
كسب النفوذ على الأرض لأن الانتخابات في الولايات المتحدة قادمة. ومع بدء الكثير
من شركاء وحلفاء زيلينسكي في الدفع بفكرة المفاوضات، فإن كييف تريد الاحتفاظ
بالسيطرة على هذه العملية مما يقلل من احتمال إجبارهم على الدخول في أي مفاوضات. سوف تتجه كل الأنظار نحو الانتخابات الرئاسية الأميركية في الأشهر
المقبلة، وسوف يكون لنتائجها تأثير مباشر على الدور الذي يلعبه الغرب في الحرب
التي تخوضها روسيا ضد أوكرانيا (Euronews: 20 August 2024).
ويؤكد ذلك أنه غداة
الهجوم الأوكراني على كورسك، أشار البيت الأبيض إلى أنه يريد معرفة المزيد عن
أهداف كييف لكي يحدد طبيعة رد الفعل. وكان
رد "ميخائيلو بودولياك" مستشار الرئاسة الأوكرانية، إن أوكرانيا
لا تريد احتلال الأرضي الروسية، لكنها تريد التفاوض بشروطها "إذا كنا نتحدث
عن مفاوضات محتملة، فسيتعين علينا جلب الروس إلى الجانب الآخر من الطاولة
بشروطنا". كما وصف "بيير
رازو" المدير الأكاديمي لمؤسسة البحر المتوسط للدراسات الاستراتيجية، الأمر
بمقامرة من أجل تبادل محتمل للأراضي التي تسيطر عليها أوكرانيا مقابل المناطق
المحتلة من قبل روسيا. لكن ذلك يتنافى
مع الهدف الذي صرح به "زيلينسكي" وهو إنشاء منطقة عازلة داخل الأراضي
الروسية (إندبندنت عربية: 20 أغسطس 2024).
ولكن على الرغم
من تمكن الجيش الأوكراني من التوغل في الأراضي الروسية بمثل هذا القدر، لكنه لن
يستطيع في كل الأحوال فرض الأمر الواقع على موسكو، خاصة وأن الخصومة الروسية ليست
مع كييف فقط، لكنها مع عواصم معظم الدول الأوروبية، فضلا عن واشنطن. ومن المعروف
أن "المنطقة العازلة" اصطلاحا هي مساحة محددة من الأرض في مناطق الصراع
بتم الاتفاق عليها بين أطرافه، ولا يفرضها طرف على طرف، وغالبا ما تكون منزوعة
السلاح، وتكون تحت سيطرة قوة دولية تمنع القتال بين الأطراف المتحاربة، وغالبا ما
يكون ذلك بقرار أممي صادر عن مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة. وهكذا سيمنع الخلاف السياسي بين موسكو والغرب ذلك في كافة الأحوال،
خاصة وأن لدى روسيا حق الاعتراض على القرارات الأممية.
مقامرة محفوفة
بالمخاطر
صرح "زيلينسكي"
بأن التوغل في كورسك أثبت أن خطوط الكرملين الحمراء للانتقام هي خدعة، وأن
أوكرانيا لم تكن لتحتاج إلى غزو أي أرض فعليا لو لم يمنعها حلفاؤها من استخدام أسلحتهم
لضرب أهداف روسية من داخل أوكرانيا (Euronews: 20 August 2024). كما شدد على أن كورسك أظهرت لشركائه في الناتو أنهم لا ينبغي أن
يخافوا من تهديدات "بوتين" بالتصعيد، قائلا "إننا نشهد الآن تحولا
أيديولوجيا كبيرا".
وهكذا إلى جانب أهدافه المعلنة، يبدو أنه يقامر بجيشه لتشجيع الغرب
على تقديم المزيد لأوكرانيا، وهي مقامرة حقيقية في الوقت الذي خفضت فيه
ألمانيا الدعم العسكري لأوكرانيا في ميزانيتها هذا العام، ومواجهة احتمالية فوز
"دونالد ترامب" في الانتخابات الأميركية، والمعروف بتأييده وقف
المساعدات لكييف. وفي ظل هذه الأمور، يريد "زيلينسكي" تسريع المفاوضات
المستقبلية مع روسيا، والتي تعتمد في الوقت الحالي، من وجهة نظره، على شروطه. وبالتالي يمكن اعتبار كورسك دفعة أخيرة محفوفة بالمخاطر
لأخذ زمام المبادرة في الحرب والوصول إلى طاولة مفاوضات افتراضية بمزيد من النفوذ
الأوكراني.
يرى "كريستيان
سيجورا" المحرر السياسي
لصحيفة "إل باييس" الإسبانية، أن هناك ثلاثة سيناريوهات مختلفة لتلك
المقامرة يمكن فيها للعملية الأوكرانية في كورسك أن تأتي بنتائج عكسية. أولا، يمكن
لموسكو أن تتمكن من إجبار القوات الأوكرانية على العودة من خلال تدمير عدد كبير من
المركبات المدرعة وقطع المدفعية. فكلما تقدمت قوات كييف داخل روسيا، كلما أصبحت
إمداداتها أكثر عرضة للخطر ويسهل استهدافها. ثانيا، قد لا يكون احتلال الأراضي
الروسية بمثابة رصيد للتفاوض مع الكرملين على أساس "السلام العادل"، فمن
المستحيل أن يقبل "بوتين" أي حوار طالما أن جزءا من روسيا يقع تحت
الاحتلال الأوكراني. وثالثا، أنقد لا يوقف التوغل في كورسك تقدم روسيا في جبهة
دونيتسك، وهو بالفعل ما يحدث، فقد حققت موسكو انتصارات ملموسة في هذه الجبهة خلال
الأيام القليلة الماضية، وأصبحت قواتها على بعد ستة أميال فقط من مدينة بوكروفسك (Elpais: 20 August 2024).
تحليل الموقف
في الواقع
يقاتل الروس والأوكرانيين في بعدين متوازيين، فكل من الجيشين المتنافسين يدعي
نجاحه العسكري في منطقتين مختلفتين. وبينما توسع أوكرانيا
سيطرتها في الأراضي الروسية، فإنها تخسر الأرض في دونباس. وقد يلعب التوغل في إقليم
كورسك دورا سياسيا مهما في حسم نتيجة الحرب، أو أن يصبح كابوسا عسكريا لكلا
الجانبين إذا أرادت روسيا ردع كييف.
على أية حال، تؤدي الأهداف المختلفة للجانبين إلى مقاييس متباينة
للنجاح، المسؤولون في كييف يراقبون عن كثب عدد الكيلومترات التي يسيطر عليها الجيش
الأوكراني في الأراضي الروسية، في حين تهدف القوات الروسية إلى تفكيك التحصينات
الأوكرانية التي تم بناؤها في دونباس منذ عام 2014. ويحدث كلا الهجومين أيضا
بسرعات مختلفة، فالتقدم الأوكراني في منطقة كورسك أسرع حاليا من التقدم الروسي في
دونباس، وحتى إذا اضطرت أوكرانيا إلى الانسحاب، فإن البنية التحتية للنقل والإمداد
قد تضررت بالفعل في هذه الجبهة.
إن عملية كورسك تضع مستقبل الحرب على المحك، ومع مواصلة
أوكرانيا هجومها، فقد يصبح من الصعب على الكرملين أن يتجاهل العواقب العديدة التي
قد تترتب على ذلك. وكلما طال أمد الهجوم الأوكراني، زادت التحديات العسكرية
والسياسية عند الطرفين.
استطاع "زيلينسكي" بجرأة أن يهز صورة الرئيس الروسي داخل بلاده،
والحقيقة أنه خلال السنوات الأربع والعشرين التي قضاها في السلطة، صور "بوتين"
نفسه باعتباره الشخص الوحيد القادر على ضمان أمن روسيا واستقرارها، ولكن هذه
الصورة تضررت منذ بداية الحرب وانتهاء بمعركة كورسك، حيث تعرضت المدن الروسية
لهجمات أوكرانية بطائرات دون طيار. وشن زعيم مرتزقة فاغنر "يفغيني بريغوزين"
انتفاضة قصيرة لمحاولة الإطاحة بقادته العسكريين، واخترق إرهابيون أمن روسيا
واقتحموا قاعة للحفلات الموسيقية في موسكو، وأخيرا اجتاحت قوات أوكرانية جزء من
الأراضي الروسية، والتي صورها الإعلام الروسي على أنها كارثة إنسانية، وليست أكبر
هجوم عسكري على روسيا منذ الحرب العالمية الثانية، وأنها المرة الأولى منذ عام 1941 التي ينتهك فيها جيش أجنبي أراضي
الدولة، وهو ما يمكن أن يكون له تأثير دائم في أذهان حلفاء أوكرانيا، والشعب
الروسي نفسه.