
بعد الضربات الأميركية ضد المنشآت النووية الإيرانية صباح الأحد 22 يونيو، واستمرار العمليات العسكرية بين إسرائيل وإيران، تلاشت احتمالات التوصل إلى حل دبلوماسي سريع. حيث نجح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في عرقلة الزخم الدبلوماسي بين واشنطن وطهران بشأن البرنامج النووي الإيراني، محولا التركيز الأميركي إلى حملة عسكرية تتسع معها رقعة الاحتمالات.
لقد حددت إسرائيل أهداف الحرب بشكل معلن بعد عمليتها العسكرية ضد إيران في 13 يونيو، فشملت تدمير البرنامج النووي الإيراني، وتفكيك ترسانة الصواريخ الإيرانية، وإسقاط النظام، كجزء من إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط. ولتحقيق ذلك صعدت إسرائيل ضرباتها، مستهدفة مواقع الصواريخ، والبنية التحتية، وحقول الغاز، والمراكز المدنية، وحتى مقر التلفزيون الرسمي الإيراني. ما جعل طهران تصمم على رد عسكري لم تتوقع إسرائيل فداحة تأثيره. فما بدأ كمحاولة لوقف البرنامج النووي الإيراني تحول إلى حرب أوسع نطاقا يهدف كل طرف فيها إلى إضعاف البنية التحتية الأمنية والاقتصادية والسياسية للآخر.
خفض التصعيد
من الناحية النظرية، لا يزال من الممكن التوصل إلى خفض التصعيد عن طريق التفاوض. لكن التكاليف السياسية والاستراتيجية لطهران ستكون باهظة خاصة بعد الضربات الأميركية، التي هدفت إلى إنهاء عمليات تخصيب اليورانيوم ووصوله إلى الصفر، والتفكيك الكامل للبنية النووية، بما في ذلك فوردو ونطنز وأصفهان.
في المؤتمر الصحفي لوزير الخارجية الإيرانية، الأحد 22 يونيو، أجاب على سؤال مراسل أسوشيتد برس عما إذا كان الحل الدبلوماسي لا يزال متاحا، قائلا إن بلاده تعرضت للعدوان، وبعيدا عن الحلول الدبلوماسية، لكن عليها الرد. في الوقت ذاته دعا الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إلى ضرورة العودة إلى مسار التفاوض والدبلوماسية لوقف الحرب بين إسرائيل وإيران. بالرغم من أن إيران لم تترك المفاوضات، وكانت تستعد بالفعل إلى جولة جديدة من التفاوض مع واشنطن بوساطة خليجية قبل الهجوم الإسرائيلي عليها.
وبالرغم من تصريح ترامب بأن الخطر النووي الإيراني زال للأبد، وما يشوبه حديثه من أسلوب دعائي، لكن قد يكون الهدف الأهم من تدخله هو استغلال ضعف إيران ودفعها للدخول في مفاوضات تتعهد خلالها مستسلمة بتخفيض حاد في ترسانتها من الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة وقدرات تصنيعها.
ولكن بالنسبة لإيران، ستكون هذه التنازلات، التي يمكن أن تتم بنسبة ضئيلة تحت وطأة القصف الذي يحتمل استمراره لأسابيع وربما لشهور، بمثابة استسلام. بموجبه ستُجرد من قدرات الردع والنفوذ الجيوسياسي. وستترك النظام عرضة لردود فعل عنيفة من المتشددين، ولشعب ساخط محبط منذ عقود من سوء الإدارة والعزلة الدولية. ومن غير المرجح بعد التدخل العسكري الأميركي أن تميل واشنطن الآن إلى رمي طوق دبلوماسي ينقذ نظام من الممكن أن ينهار تحت الضغط.
لقد أكدت وقائع جلسة مجلس الأمن التي نقلتها وسائل الإعلام يوم 20 يونيو، انغماس إيران في الدفاع عن نفسها دون رؤية واضحة لمستقبل الحرب، خاصة وأن الجلسة كانت محايدة شكليا، لكنها منحازة عمليا لإسرائيل، وكشفت تحيزات سياسية واضحة تنذر بخطر جسيم، ربما يهدد أمن الشرق الأوسط كله، ويعيق أي مسارات تفاوضية محتملة.
وهكذا، بعد أن عبرت واشنطن بوضوح عن دعمها لإسرائيل، وأكدت استعدادها للتصعيد أو التدخل العسكري لإنقاذها إذا لزم الأمر، فإن الفرصة الدبلوماسية القصيرة في بداية الحرب، تلاشت الآن حين أخطأت طهران قراءة اللحظة، وضيق نتنياهو نافذة الوقت، فدخلت واشنطن على خط الصراع.
الموقف الأميركي
كانت الضربة الأميركية محكمة للغاية، استخدمت واشنطن فيها ثلاث طائرات من طراز B-2 لتنفيذ الهجوم على منشأة فوردو النووية وحدها، والمحصنة تحت جبل بعمق يقارب 300 قدم. كل طائرة كانت مجهزة بقنبلتين خارقتين للتحصينات من طرازGBU-57 وهي من أثقل القنابل غير النووية في الترسانة الأميركية. وتبلغ تكلفة ضرب فوردو وحده حوالي سبعة مليارات دولار (جريدة الشروق: 22 يونيو 2025). تم ذلك بالرغم من كشف صور الأقمار الصناعية نقل محتويات المفاعلات النووية الإيرانية على سيارات نقل عسكرية منذ يومين، أي أن الضربات وجهت لتحييد مواقع بعينها وليس البرنامج النووي ككل. (Washington Post: 22 June 2025) ما يثبت أن واشنطن أرادت إحداث شلل جزئي للضغط دون السقوط في فخ حرب استنزاف، بالإضافة إلى بعث رسالة إلى الداخل الأميركي بأن هيبة الردع قد عادت دون جر الجيش إلى حرب جديدة.
يبدو أن ترامب وجد نفسه مجبرا على القيام بعمليته العسكرية، التي ربما تتطور وفقا لطبيعة الرد الإيراني، بالرغم من أنه كان يتهم بنيامين نتنياهو بالسعي إلى جر الولايات المتحدة للحرب. ربما كان مستعدا لذلك رغم إظهاره العكس. يقول محللون عسكريون لبي بي سي إن واشنطن وحدها هي التي تمتلك القاذفات والقنابل القادرة على اختراق أعمق المنشآت النووية الإيرانية، وخاصة منشأة فوردو، ولم تكن إسرائيل قادرة على فعل ذلك أبدا دون مساعدة أميركية. (BBC: 22 June 2025)
على أية حال، إذا تورطت أميركا أكثر في تلك الحرب، فسيمثل ذلك تصعيدا هائلا، له عواقب وخيمة. ولو ظلت القوى الإقليمية والعالمية (الصين وروسيا) على الحياد، فقد تفقد إيران قدرتها على الاستمرار وتجبر على الاستسلام، ما يؤدي إلى إعادة رسم مشهد سياسي إقليمي يرسخ بشكل هش وضعا جديدا تحتفظ فيه إسرائيل والولايات المتحدة بالتفوق الاستراتيجي، وسط توترات طويلة الأمد.
سيناريوهات عالية المخاطر
بعد أن فقد الخيار الدبلوماسي صلاحيته، يبدو أن التصعيد هو أكثر البدائل المحتملة بعد دخول واشنطن حلبة الصراع. وإذا لم تكتف بعمل عسكري رمزي على شاكلة ردها بعد قتل قاسم سليماني، فمن المرجح أن تقوم طهران بشن هجمات على القواعد الأميركية في الخليج، وتعطيل حركة الملاحة في مضيق هرمز بعد أن وافق البرلمان الإيراني على إغلاقه بالفعل (صحيفة اليوم السعودية: 22 يونيو 2025). يمكنها أيضا شن هجمات على البنية التحتية للطاقة في دول مجلس التعاون الخليج، لكن ذلك سيكون قرارا انتحاريا لنظام لم يثبت ميله للانتحار في الماضي. بالرغم من ذلك تدرك طهران أن انتقامها بهذا الشكل سيؤدي ببساطة إلى استخدام الجيش الأميركي قوته الضاربة كاملة ضدها، وبدعم إقليمي وأوروبي قوي، وربما حتى صيني، لأن الصين لا تستطيع تحمل ارتفاع أسعار النفط على المدى الطويل.
كان لبول سالم الرئيس السابق لمعهد الشرق الأوسط بواشنطن، رأيا يحتمل استيعاب إيران لأي ضربات عسكرية صعبة، ومن ثم التحول إلى استراتيجية مواجهة العاصفة. قد تختار تقبل الخسائر، والحفاظ على هياكل النظام الأساسية، وإعادة تنظيم صفوفها بمرور الوقت، واتباع استراتيجيات طويلة المدى. (موقع معهد الشرق الأوسط بواشنطن: 18 يونيو 2025)
يجب أن نكون على قناعة بأنه على الرغم من القدرات الصاروخية الهائلة لدى النظام الإيراني، لكنه هش للغاية. وحتى من دون ضربات أميركية، يكفي لإسقاطه أن تفقد الدولة السيطرة على محافظات ذات أقليات سكانية كبيرة، مثل سيستان وبلوشستان وخوزستان. وانتفاضات مسلحة في المناطق النائية، بدعم من جهات خارجية، واندماج هذه المقاومات المحلية مع حركات المعارضة الحضرية في طهران وأصفهان وشيراز. وعلى مدى سنوات، قد يؤدي هذا إلى انهيار النظام وتغييره بشكل ما دون الحاجة لحرب تحرق المنطقة بأكملها.
ولكن إذا استطاعت إيران خوض حرب طويلة، فقد تصبح شبكاتها الإقليمية، التي أسستها على مدى عقود من خلال فيلق القدس وأجهزة الاستخبارات والميليشيات التابعة لها، أدوات رئيسية للمقاومة بهجمات على مصالح إسرائيلية أو أميركية، وهجمات إلكترونية على البنية التحتية والأنظمة المالية، واغتيالات، وزعزعة الاستقرار الإقليمي في لبنان وسوريا واليمن وفلسطين والعراق. ولن يعيد هذا الهيمنة الإقليمية لإيران فحسب، لكنه قد يفرض تكاليف مستمرة على خصومها.
موقف دول الخليج
إن الموقف الخليجي الموحد الذي استنكر الضربات الإسرائيلية والأميركية لإيران، يشير إلى رغبة دول المنطقة في ألا ينتقل الصراع من ضربات محددة بدقة يمكن السيطرة عليها إلى حرب مفتوحة. ومن مصلحة بلدان الخليج تفادي الحرب قبل أن تتطور لصدامات أكثر شراسة.
يعد الموقف الإماراتي الأكثر انضباطا ودبلوماسية وتروي حتى الآن، وقد لخصه المستشار الدبلوماسي لرئيس الدولة أنور قرقاش، خلال لقائه بالصحافيين يوم الجمعة 20 يونيو، بأنه كلما طال أمد الحرب، أصبحت أكثر خطورة. وأن أي مواجهة ممتدة ستجلب فقط عواقب وخيمة للغاية للمنطقة. وقال إن الإمارات لازالت تشعر أن هناك طريقا للعودة إلى المفاوضات. (خليج تايمز: 21 يونيو 2025)
وبعد الضربة الأميركية لإيران أعربت الإمارات في بيان لوزارة الخارجية عن قلقها البالغ من استمرار التوتر في المنطقة واستهداف المنشآت النووية الإيرانية، وطالبت بضرورة الوقف الفوري للتصعيد لتجنب التداعيات الخطيرة والانزلاق إلى مستويات جديدة من عدم الاستقرار. وأكدت على ضرورة تغليب الدبلوماسية والحوار لحل الخلافات، ضمن مقاربات شاملة تحقق الاستقرار والعدالة. (وكالة وام: 22 يونيو 2025)
إن هذه الحرب من وجهة نظر الإمارات تتعارض مع النظام الإقليمي الذي ترغب دول الخليج في بنائه، والذي يركز على الازدهار والتنمية وخفض التصعيد. أبوظبي تسعى لتحقيق توازن دقيق، يجمع بين الاحتفاظ بعلاقات طيبة مع جميع الأطراف، وتفادي الوقوع في مأزق الحرب، خاصة بعد دخول الولايات المتحدة على خط الصراع. في الوقت نفسه، قامت بإجراءات استباقية لتأمين الإيرانيين العالقين في الإمارات بإعلان إعفائهم من أي مخالفات على إقامتهم لحين انتهاء الأزمة، كتحرك إنساني يعكس حرصها على شعبية التواصل الإنساني بينها وبين جارتها. (Times of India: 18 June 2025)
مآلات الأزمة
تضع هذه المواجهة المتطورة إيران عند منعطف حرج. فهي تواجه خيارات تتراوح بين الاستسلام وضبط النفس الاستراتيجي، والتصعيد والانهيار في نهاية المطاف. تحت وقع الضربات الأميركية والإسرائيلية، فقدت ما تبقى من قدراتها على تخصيب اليورانيوم، أو على الأقل أحالتها لأجل بعيد. كما لم يعد لديها خيار الإسراع في امتلاك قنبلة نووية، وهو خيار ربما كان متاحا لها قبل أشهر، عندما كانت لا تزال تسيطر على مجالها الجوي.
إذا رفضت إيران الاستسلام، وانخرطت الولايات المتحدة أكثر في حرب مباشرة، فمن المرجح أن تتجه المنطقة نحو صراع إقليمي شامل. وستكون التداعيات وخيمة، يمكننا تخيل انهيارات أمنية في العراق وسوريا ولبنان والأردن واليمن ودول الخليج. وتهديد 30% من صادرات النفط العالمية و25% من صادرات الغاز العالمية، إذا أغلق هرمز بشكل كامل. إضافة إلى صدمات اقتصادية عالمية، مع ارتفاع حاد في أسعار الوقود وتأخير في الشحن، وكوارث إنسانية غير مسبوقة.
إن الحرب الإقليمية هو السيناريو الأكثر تفجرا. يمكننا استبعاده في الوقت الراهن، فالأمور لا تزال تحت السيطرة. لكن تطوير العمليات الأميركية من الممكن أن يحول الحرب الإيرانية الإسرائيلية إلى حرب شرق أوسطية أوسع، خاصة إذا صمدت إيران واعتبرت الصراع وجوديا. ربما يفتح حزب الله الجبهة الشمالية مع إسرائيل مرة أخرى. وقد تدخل جماعة أنصار الله في اليمن الحرب بشكل أكثر ضراوة. كذلك قوات الحشد الشعبي العراقية التي تمتلك آلاف المقاتلين، الذين يمكنهم الانضمام إلى القتال من الجناح الغربي الضعيف لإيران. ومن جانب آخر يمكن أن تستغل روسيا والصين التدخل الأميركي لاستنزاف القوة الأميركية، وتعزيز مكانتهما العالمية، بزيادة نفوذهما في أوكرانيا وتايوان.