مقالات تحليلية

التعنت والإخوان وراء اجهاض مبادرات وقف الحرب في السودان

16-Jun-2023

في التاسع من يونيو الجاري بدأ الأمل يدب في نفوس السودانيين بإمكانية الوصول لتسوية تُوقف مد الحرب العبثية التي ظلت تدور رحاها منذ 15 أبريل الماضي، إذ أعلنت الوساطة (السعودية ــ الأميركية)، عن توصل الجيش وقوات الدعم السريع إلى اتفاق وقف إطلاق النار لمدة 24 ساعة، وقالت إنها مبادرة أخيرة.

 هذه الهدنة اختلفت عن سابقاتها كونها جاءت في أعقاب تعليق الوساطة للتفاوض احتجاجاً على عدم إلتزام طرفي القتال باتفاق وقف إطلاق النار السابق، والذي كانت مدته 7 أيام جرى تمديدها لـ 5 أيام أخرى.

  ما أن انتهت الـ 24 ساعة حتى أفاق سكان الخرطوم وبقية ولايات السودان على تجدد الواقع الصعب الذي يعيشونه منذ قرابة شهرين، فقد استؤنفت المعارك بعيد انتهاء الهدنة بثلاث دقائق، الأمر الذي جعل سؤالاً يرفع عقيرته كل مرة ماثلاً، ما هي أسباب فشل الهدن ولماذا طريقها لا يؤدي إلى وقف النار؟


إتفاق على رفض المبادرات

لا يحتاج الباحث في الأزمة السودانية لسبر أغوار ليصل إلى أن هذه الحرب نتيجتها تدمير السودان، والسؤال المطروح هو ما الذي يفسر عدم رغبة قادة الجيش والدعم السريع في الوصول لحل يوقف الأحداث المتوالية عاصفة، والتي تفاقم الكارثية الإنسانية صباح كل يوم جديد؟ 

لقد بدت ملامح الإتفاق بادية وتحدث لأول مرة بين قائدي الجيش والدعم السريع، بشأن رفض غير معلن لمبادرة “إيقاد” بعقد لقاء مباشر بينهما، حيث طرحت قمة رؤساء دول وحكومات الهيئة الحكومية للتنمية في شرق إفريقيا “إيقاد” التي عقدت في جيبوتي الاثنين 12 يونيو الجاري، مبادرة تتضمن لقاء مباشرا بين قائد الجيش عبد الفتاح البرهان وقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو “حميدتي” في دولة أخرى.

 فور الإعلان، نقلت وسائل إعلام عن مصادر عسكرية قولها إن البرهان لم يوافق على عقد لقاء مع نائبه السابق، في المقابل، أعلن نائب رئيس مجلس السيادة المعين حديثاً مالك عقار، الاتفاق مع الوسطاء على لقاء بين قائدي الجيش، وقائد قوات الدعم السريع خلال أسبوعين.

في المقابل توقع مصدر دبلوماسي صرح لموقع” سودان تربيون”، طالباً حجب اسمه، توقع أن يوافق الجيش على عقد اللقاء بمستوى تمثيل أقل من القائد البرهان ربما يكون نائبه الفريق أول شمس الدين كباشي. وأكد على أن قيادة الجيش لا تمانع في التعامل مع المبادرات أو الوساطات التي تقود إلى إنهاء الحرب ودمج قوات الدعم السريع في الجيش دون قيد أو شروط، وفق قوله.

الحسم العسكري 

   من خلال البيانات والتصريحات التي يصدرها ويدلي بها قادة الطرفين ، يبدو أن العقلية المتحكمة حتى الآن هي التي تريد للمعركة أن تستمر، فعقيرة الطموح ترتفع عند كل طرف بإمكانية حسم المعركة عسكرياً وتحقيق الانتصار الماحق بأعجل ما تيسر ، فقيادات الجيش ترى أنها حصرت المعركة في الخرطوم واستطاعت في فترة وجيزة إحكام السيطرة على معظم الولايات ودك معسكرات خصمها قوات الدعم السريع ،  كما أنها تحظى بتأييد وحشد شعبي غير مسبوق في تاريخها يوفر لها الغطاء السياسي والدعم اللوجستي وبالتالي تستطيع الصمود لأطول فترة زمنية ممكنة، فهي لم تحرك قوات الاحتياط بعد ، ولديها المقدرة في استنفار الشعب لصالح معركتها.

كل هذه الأمور بحسب نظر الخبراء الموالين للجيش، تمثل فرصاً لفرض أجندته ما يجعله قادراً على ترتيب البيت الداخلي السوداني بعد حسم معركة الخرطوم وفقاً لأهدافه ومطامع البرهان بالانفراد بالحكم، فضلاً عن أن الدعم الروسي والصيني في المحافل الدولية سيكون حاضراً ورهن الإشارة ما يعزز صمود الدولة في وجه أي محاولات لتغييرها.

نتيجة لكل هذه المعطيات يصر قادة الجيش على المناورة بقبول الوساطات لكسب ود المجتمع الدولي شكلياً، والسير في الاتجاه المعاكس للمقترحات التي لا تتماشى مع هدفهم ومبتغاهم.

   بالنسبة لقوات الدعم السريع فهي لا تختلف عن الجيش كثيراً من حيث طموحها في حسم المعركة بالضربة القاضية وإن طال السفر. ترى قيادتها بأنها تمكنت من السيطرة على مناطق استراتيجية في وسط الخرطوم وتمثل رمزاً للسيادة كالقصر الجمهوري والقيادة العامة، فضلاً عن أنها تسيطر على ما يصل إلى 70% من العاصمة الخرطوم وتتحدث بسلن حامي حمى الديمقراطية والانتقال المدني في السودان.

 بيد أن هدف (حميدتي) البعيد هو حكم السودان، لذلك تجده حريص كل الحرص على تغيير (كابينة) قيادة الجيش ممثلة في البرهان وأعضاء المجلس السيادي الآخرين اللذين ينتمون للقوات المسلحة. وبتحقيق هذا التغيير يكون (حميدتي) حقق أهدافه بأن يتم دمج قواته وفقاً لشروطه ومقترحاته لآجال الدمج في الجيش ويحسن صورته وسط المجتمع الدولي بأنه صاحب الفضل في عودة الأمور إلى نصابها وترتيب الأولويات بعيداً عن شوكة الإسلاميين داخل أروقة المؤسسة العسكرية باعتبارهم العقبة الكؤود والمعرقل للعملية السياسية التي تنقل السودان إلى رحاب الدولة المدنية.


الإخوان وراء تعنت الجيش

  منذ اندلاع الأزمة التي تدخل شهرها الثالث ظل الإتهام يوجه لـ(الإخوان أنصار النظام البائد نظام البشير الذي سقط بثورة شعبية 2019) بأنهم هم من أشعل نيران الحرب وكانوا يظنون أنها ستحسم في ساعات، لذلك تجدهم مصرون على استمرارها خاصة وأن قوات الدعم السريع قامت باعتقال قيادات إخوانية أقرت بضلوع الحركة الإسلامية في المخطط.

  لم يكتف الإخوان بدعمهم للجيش إعلامياً، بل كانوا في كل مرة يخرقون الهدنة عن طريق عناصرهم بسلاح الطيران والمدفعية حتى يضعوا البرهان أمام الأمر الواقع. وبحسب مراقبين زرعت الحركة الإسلامية السودانية (إخوان السودان) الكثيرين من عناصرها وسط الجيش، ما جعلها قادرة على تحريك وجهته العملياتية.

  في المقابل لم يكترث الإخوان حتى لبيان واجهتهم السياسية، حزب المؤتمر الوطني المحلول، الذي رحب باتفاق جدة مع تحفظات على بعض بنوده، وعملوا على تأليب الرأي العام ضد الهدنة، وظلوا يطالبون الجيش بعدم الإلتزام بها.  يظهر ذلك جلياً في مقال كتبه الصحفي المقرب من النظام السابق الهندي عزالدين نشره على صفحته بفيسبوك، عشية التوقيع على اتفاق وقف اطلاق النار القصير، قال:  (إن  هذا الاتفاق يؤكد خضوع قيادة الجيش لضغوط الولايات المتحدة الأمريكية، مفارقةً لاستراتيجية الجيش الرامية لحسم التمرد وإنهاء جرائم مليشيا الدعم السريع (الجنجويد) وعدم السماح بتعدد الجيوش ، مخالفةً للتوجه العام للشارع السوداني الرافض بشدة رغم ويلات الحرب، لأي شرعنة لمليشيا الدعم السريع بعد كل تلك الفظاعات غير المسبوقة في تاريخ السودان التي ارتكبتها خلال شهر واحد من الحرب).

 من الواضح أن الحملة التحريضية التي يقودها الإخوان المسلمون الذين يناصرون الجيش ضد قوات الدعم السريع تجد قبولاً وسط قطاع من المجتمع، ونجحت لحد كبير في تأليب بعض المواطنين على قوات الدعم السريع مقدمة شواهد على بعض المخالفات التي ارتكبتها، سواءً في نهب المصارف أو سيارات المواطنين، فضلاً عن احتلال منازلهم ووقوع حالات اغتصاب. بذلك استطاع عناصر النظام البائد حصر الرأي العام في هذه الزاوية حتى ينظر للأزمة برمتها من زاوية عاطفية بعيداً عن الكليات.

خلاصات:

نرى أن احد أهم المداخل السليمة لنجاح مساهمات الخارج، إقليمياً أو دولياً، لوقف الحرب وتحقيق عملية سياسية في السودان، هو التفاوض في إطار المنبر الواحد، الذي يمكن أن يتحقق عبر التنسيق ثم الدمج بين المبادرات. يرى المحلل السياسي الدكتور الشفيع خضر في مقال نشره في موقع (سودان نايل) مايو الماضي: إن تعدد المنابر لن يخدم قضية السودان، بل حتماً يضر بها والحل يتحقق عبر التنسيق ثم الدمج بين المبادرات، وفق آلية عملية ملموسة وترتيبات محددة.

  من جانب آخر يشكك مراقبون في أن تؤسس الهدنات المتوالية لمسار مختلف طالما الظروف هي ذاتها خاصة وأن الصراع هذه المرة بينيوي حيث يرى الأستاذ محمد جميل في مقال نشرته في اندبندنت عربية في الثامن من يوليو الحالي بعنوان (ماذا بقي من جمهورية 56 في السودان؟) أن هذه الحرب الدائرة اليوم في الخرطوم، وبوصفها حرباً في قلب العاصمة المركزية للبلاد، هي المؤشر الأكبر لبلوغ صراع البنيات طوراً مفصلياً.

أي إن الصراع الذي كانت  تعكسه من قبل حروب الجنوب ودارفور والنيل الأزرق وجبال النوبة وشرق السودان كان يمثل أطواراً محدودة للحرب بالنسبة إلى المركز في الخرطوم ويمكن التغلب عليها، لكن الحرب التي تشهدها الخرطوم اليوم بين الجيش والدعم السريع تؤكد رؤية الكاتب السوداني المعروف أبكر آدم إسماعيل في عدم قدرة صراع البنية البينية للمركز، أي صراع المركز مع المركز على السلطة، على احتواء الصراع الأكبر، أي صراع البنيات الذي يجسد تناقضات المصالح بين غالبية المهمشين والنخبة المناطقية المحتكرة للقرار السياسي.

لقد بدا واضحاً أن الطرفين إلتزما بالهدنة بعد أن الضغوط المتكاثفة عليهما من قبل الوساطة ولولا تعليقها للتفاوض لما استجابا للهدنة وفي ذلك إشارة واضحة بأن مثل هذه الضغوط ناجحة لتكسير المواقف المتصلبة التي ما باتت تفضل الحل العسكرى على السياسي ولو بتدمير كل السودان.

أخيرا يضعف عدم وجود فرق للرقابة على الأرض من الهدن، كما أن القصيرة منها غير كافية، ولا تمكن المواطنين من أخذ احتياجاتهم وتوفير معابر آمنة لهم.



305