مقالات تحليلية

ارتباك الوضع في لبنان بين الأزمة السياسية وجهود إنهاء الحرب

23-Oct-2024

يشهد لبنان أزمة غير مسبوقة تتمثل في تحديات اقتصادية وسياسية مصحوبة باضطرابات اجتماعية وأمنية. ومن الواضح حتى الآن أن الفرقاء السياسيين لا يملكون أي تصور عن احتمال الخروج من هذا المأزق على الرغم من التطورات المتسارعة التي نشهد فصلا جديدا من فصولها المفاجئة، جراء حرب في جنوب البلاد قد تتسع إلى حرب إقليمية وسط تصعيد مستمر بين إسرائيل وإيران.

لقد أدى التباطؤ الاقتصادي الحاد والتضخم المفرط إلى عجز البلاد عن إدارة الأزمة. كما أن عدم الاستقرار السياسي يقوض جهود اختيار رئيس للبلاد، ما يفاقم التهديدات الأمنية الخارجية بشكل كبير، ويزيد من ضعف مكانة لبنان الدولية وعدم قدرتها على وقف الحرب الجارية وإنهاء هذا الوضع المرتبك.

مساعي إنهاء الفراغ الرئاسي

يعيش لبنان في أزمة اقتصادية وسياسية عميقة منذ انهيار النظام المصرفي واستقالة رئيس الوزراء سعد الحريري في أكتوبر 2019، وما أعقب ذلك من فراغ منصب الرئيس في عام 2022، لتصبح لبنان دون قيادة متماسكة يمكنها معالجة التحديات الملحة. كما أدت الصراعات الإقليمية إلى تعقيد الوضع السياسي، مما أعاق انتخاب الرئيس وتشكيل الحكومة لإخراج البلاد من أزماتها.

ومن المعروف أن المشهد السياسي اللبناني مصمم على توزيع السلطة بين مختلف الطوائف الدينية، وعلى الرغم من إيجابيات ذلك، لكنه أدى إلى الجمود السياسي الذي نشهده الآن. ترى سونيا مارتينيز جيرون المديرة التنفيذية للفريق الدولي لدراسة الأمن في فيرونا ITSS أن التأخير المطول في انتخاب رئيس جديد يزيد من الاستقطاب ويعقد الأمر كثيرا. وأنه على الرغم من إنشاء مجموعة الخمس التي تتشكل من المملكة العربية السعودية ومصر وفرنسا وقطر والولايات المتحدة لتسهيل حل الأزمة السياسية في لبنان، ولكن اجتماعاتهم لم تتحقق أي نتائج، ما أدى إلى تفاقم الوضع وتعقيده (ITSS Verona: Accessed 22 October 2024).

وقد أحدثت الحرب التي شنتها إسرائيل على حزب الله، وما تبعها من تداعيات، حراكا مكثفا للخروج من هذا الجمود، حيث تقاطع الحراك الداخلي مع مساعي دولية، تدفع نحو انتخاب رئيس جديد يعيد التوازن لمؤسسات الدولة. وتسعى باريس لانتهاز ما تراه فرصة سانحة لتغير المعادلة السياسية اللبنانية في أعقاب حرب إسرائيل لإضعاف نفوذ حزب الله، الذي طالما حملته أطراف دولية وداخلية مسئولية هذا الجمود السياسي. من وجهة نظر الباحث مصطفي الميري يرى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أهداف أخرى لبنيامين نتنياهو بعد استهدافه لمناطق مدنية لبنانية، وهو ما جعل فرنسا تفكر في إحداث تحول جذري في المشهد يفضي إلى إنهاء الفراغ الرئاسي، باستضافة مؤتمر دولي في 24 من أكتوبر الجاري لحشد الدعم للبنان، مع أن هذه المساعي قد تواجه بعائق الانقسام السياسي الحاد، خاصة مع رفض حزب الله أي خطوات سياسية قبل التوصل إلى وقف لإطلاق النار (الأهرام: 19 أكتوبر 2024).

إضافة إلى ذلك، وفي محاولة لإعادة الحياة للبنان جدد بعض السياسيين اللبنانيين الحديث عن ضرورة إنهاء الفراغ الرئاسي الذي تسبب فيه حزب الله بتمسكه مع حلفائه بأن يذهب المنصب المخصص لمسيحي ماروني إلى حليفهم سليمان فرنجية. وبينما لا يزال الحزب يعاني من صدمته بعد مقتل أمينه العام حسن نصر الله، أبدى حليفه نبيه بري رئيس مجلس النواب مرونة وقال لرئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي إنه يؤيد انتخاب رئيس لا يمثل تحديا لأحد. يبدو أن الحزب فوضه للتفاوض نيابة عنه.

كذلك أكد وائل أبو فاعور النائب عن كتلة وليد جنبلاط أن انتخاب رئيس بإجماع لبناني يعطي رسالة إلى الخارج بأن هناك حكما قويا في البلد يستعد للتفاوض على مستقبل لبنان. كما دعا حزب القوات اللبنانية، وهو أحد الفصائل المسيحية المعارضة لحزب الله، إلى تعجيل انتخاب الرئيس، حتى تتحمل الدولة مسؤولياتها بنفسها، في انتقاد ضمني للفصيل الذي يمتلك ترسانة هائلة من الأسلحة تهدد أمن البلاد (فرانس 24: 3 أكتوبر 2024).

أزمة نازحين وخوف من صراع طائفي

خيم آلاف النازحين من أنصار حزب الله الجنوبيين في الساحات العامة والشواطئ منذ ليلة 27 سبتمبر في أعقاب قتل حسن نصر الله، وبعد تحذير إسرائيل من أنها ستشن المزيد من الهجمات على بيروت، ما أفرغ الضاحية الجنوبية في غضون ساعات. وفي حين تواجه الدولة أكبر أزمة نزوح في تاريخها، لم يقدم حزب الله سوى القليل من الدعم للنازحين، حيث يعتمد أنصاره على حكومة تصريف الأعمال لمساعدتهم.

يقول "كريم بيطار" الأستاذ في جامعة القديس يوسف في بيروت للإيكونيميست، إن العديد من اللبنانيين ينتقدون حزب الله بشدة بسبب تسببه في تدمير منازلهم. ويضيف "لا تقللوا من شأن صدمة الشعب اللبناني. إن إسرائيل تزرع بذور حروب مستقبلية" (Economist: 29 September 2024).

وحسب تقديرات الحكومة اللبنانية والصليب الأحمر هناك ما يقرب من 1.2 مليون نازح في داخل لبنان (اليوم السابع: 4 أكتوبر 2024)، وسط مخاوف من صراع طائفي يلوح في أفق بلد فقير لم يكن مستعدا لمثل هذه الأزمة. هذا الصراع الذي قد يمزق البلاد، فمعظم النازحين من أنصار حزب الله، وعجز الدولة عن توفير ظروف معيشية مناسبة للجميع لن يؤدي إلا إلى تفاقم التوترات بين أنصار الحزب والسلطات.

وقد اندلعت اشتباكات بالفعل بين قوات الأمن والنازحين في شارع الحمرا في بيروت، بعد أن طُلب منهم إخلاء مباني سكنوها دون إذن أصحابها. ورد النازحون بإغلاق الطرقات، مما دفع الجيش إلى التدخل. وقال رئيس بلدية بيروت عبد الله درويش إن هذه البيوت تعدا أملاكا خاصة قدم أصحابها دعوى قانونية لإخلائها. وذكر أنه منذ بدء تدفق سكان الضاحية الجنوبية اقتحم بعضهم أبنية فارغة بحثا عن مكان للنوم، ما أعاد إلى الأذهان ذكريات الحرب الأهلية التي انتشرت خلالها عادة مصادرة المنازل الخالية (الشرق الأوسط: 21 أكتوبر 2024).

وبطبيعة الحال، فإن التفاعلات بين النازحين والمجتمعات المحلية التي تستضيفهم أصبحت محفوفة بالتحديات. وفي حين وجد البعض ملاذا عند الأصدقاء والأقارب، فإن الكثيرين لم يفعلوا ذلك، وقد يحتكوا بالسكان ويتلفظ بعضهم بعبارات طائفية يتطور الموقف بعدها إلى صورة يتجنبها لبنان منذ انتهاء الحرب الأهلية.

إضافة إلى ذلك، فإن وضع الأمن الغذائي في البلاد، بحكم الأزمة الاقتصادية، ضعيف ومعرض لخطر التدهور. وبالتالي فإنه من الضروري معالجة هذه المسألة وحماية النازحين والسكان من ممارسة العنف لتوفير الطعام. هذا العنف بالإضافة إلى عدم اليقين السياسي والاقتصادي، من الممكن أن يعيق كافة الجهود لإنهاء الحرب، ولن يمكن البلاد من التعامل مع أي من ملفاتها المعلقة.

مقترحات وقف إطلاق النار

بالتزامن مع العمليات العسكرية الإسرائيلية، قالت مصادر أميركية إن تل أبيب قدمت لواشنطن شروطها من أجل الوصول إلى حل دبلوماسي لإنهاء الحرب، وذلك في وقت يجري فيه مبعوث الرئيس الأميركي آموس هوكستين زيارة إلى لبنان لبحث الأزمة.

من هذه الشروط، التي نشرها موقع أكسيوس، السماح للجيش الإسرائيلي بالانخراط في عمليات للتأكد من وقف تسليح حزب الله والقضاء على بنيته التحتية العسكرية في المناطق الحدودية، والعمل بحرية في المجال الجوي اللبناني. وتتناقض هذه المطالب مع قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1701، الذي ينص على أن الجيش اللبناني وقوات الأمم المتحدة المؤقتة (يونيفيل)، هي المسؤولة عن تنفيذ وقف إطلاق النار جنوبي لبنان منذ عام 2006. وبالتالي من الصعب أن يقبل لبنان هذه الشروط التي تنتهك سيادته (الحرة: 21 أكتوبر 2024).

ولكن في الوقت نفسه أكد المبعوث الأميركي هوكستين على العمل للتوصل إلى صيغة تنهي هذا الصراع فورا، لكنه قال "إن الالتزام بالقرار 1701 الذي أنهى حرب عام 2006 ليس كافيا لوضع حد للنزاع"، مضيفا أنه "في حين يظل القرار أساسا لإنهاء الصراع، فهناك حاجة إلى اتخاذ تدابير إضافية لضمان تنفيذه بشكل عادل ودقيق وشفاف" (دويتشه فيلا: 21 أكتوبر 2014).

وقد نص القرار 1701 على انسحاب إسرائيل الكامل من لبنان، وتعزيز انتشار قوة يونيفيل، بحيث يكون جنوب لبنان خاليا من أي قوات أو أسلحة غير تلك التابعة للدولة اللبنانية والقوة الدولية، لكن الحزب لم ينه وجوده، على الرغم من تأكيد لبنان تمسكه بتطبيق القرار واستعداده فرض سيادته على كامل أراضيه بعد تخلي الحزب عن ترسانته.

ومن الواضح أن هوكستين يمهد لمسودة مشروع قرار أميركي- فرنسي يسمي "1701 بلاس"، علقت عليه أستاذة القانون الدولي اللبنانية جوديت التيني في حديث لقناة الحرة، بأنه سيأخذ الكثير من الوقت لإعداده وتنفيذه، وبالتالي سيفوت الفرصة على اللبنانيين تطبيق القرار الموجود أصلا. والذي لا مشكلة فيه. المهم أن يبدأ الطرفان بمرحلة تنفيذه وإنهاء الصراع، فهو كامل ومنصف لكلا الطرفين. وأن الحكم بفشله أو نجاحه مرهون بتنفيذه أولا ومن ثم تقييمه لاحقا وإجراء تعديلات لسد ثغراته، لكن تعديل قرار لم يتم تنفيذه هو أمر خارج عن المنطق (الحرة: 21 أكتوبر 2024).

خلاصات 

لم يكن لبنان بحاجة إلى عدوان لتزداد قائمة أزماته الممتدة منذ سنوات، وسط جمود يغلف المشهد على وقع فراغ رئاسي تجاوز العامين، ووجود حكومة تصريف أعمال يحيط بها العديد من التحديات. وهكذا يقف لبنان عند مفترق طرق حرج يتطلب جهودا تعاونية من أجل إنهاء الأزمة والبدء في بناء مستقبل مستدام. لكن الأزمة التي بدأت تتصاعد منذ 7 أكتوبر 2023 لا تساهم في تحسين الأمن الاقتصادي والسياسي للبلاد.

وعلى الرغم من وجود لمحة أمل في المساعي الجارية لفض اشتباك الموقف اللبناني، إلا أنها مرهونة على خطوات جادة لحسم الموقف بشكل نهائي. فإما العمل على حل نهائي واستغلال هذه الفرصة التاريخية لوضع كافة مقدرات لبنان من شمالها إلى جنوبها بيد الدولة وجيشها دون شريك، وإما استمرار الحال وبقاء مصير الدولة اللبنانية أسير قوة ميليشيا مسلحة تهدد أمنها وأمان مواطنيها وتضعهم دائما في مرمى النيران.

إن التطورات اللبنانية المعطوفة على التقلبات الكارثية للأزمة السياسية والاقتصادية والأمنية، وما يسببه ذلك من اضطراب اجتماعي وحياتي، يُفترض أن تكون حافزا للقيادات السياسية كي تتوصل إلى اتفاق ما يملأ الفراغ الرئاسي وحل أزمة الحكم. لكن حتى الآن لا تفيد المعطيات السياسية الداخلية بأن هناك تواصل له مغزى على هذا الصعيد بين الفرقاء المعنيين. وعلى العكس فإن كل الشواهد تشير إلى أن الأزمة ستحتدم في المرحلة المقبلة على الرغم من التهديد العسكري الدائر في جنوب البلاد.

87