
تعبر الاشتباكات الأخيرة في ليبيا عن حالة مستمرة من التنافس بين مجموعة من الفصائل المسلحة ، استطاعت خلال الفترة الماضية تثبيت نوع من التفاهم والتشارك الميداني الهش ليهدد ذلك بعودة الصراع على السلطة في البلاد التي تتقاسمها أطراف عديدة.
فمن جهة هناك
حكومة برئاسة عبد الحميد الدبيبة وتسيطر على غرب البلاد في طرابلس، ومن جهة ثانية
هناك حكومة يترأسها أسامة حماد وتسيطر على شرق البلاد في مدينة بنغازي وتحظى بدعم
البرلمان والجيش الوطني بقيادة الجنرال خليفة حفتر.
مجريات الأحداث
تصاعدت الأحداث الأخيرة في أعقاب مقتل عبد الغني
الككلي، المعروف على نطاق واسع باسم "غنيوة"، والهزيمة المفاجئة التي
لحقت بمجموعته في جهاز دعم الاستقرار. حتى تلك اللحظة، كانت قوات هذا الجهاز تسيطر
على واحدة من المناطق الست الرئيسية التي تسيطر عليها الميليشيات المحيطة بميناء
طرابلس.
يوصف الككلي بـ "عمدة طرابلس"، نظرًا لسلطته
الواسعة في العاصمة، وبصفته رسميًا قائد جهاز دعم الاستقرار، وهو قوة تابعة للدولة
ومدعومة من المجلس الرئاسي برئاسة محمد المنفي، كان الككلي يقود قوة انبثقت من
سيطرته على منطقة أبو سليم في طرابلس، والتي أسس منها قوته المسلحة المتمردة في
عام 2011.
ووفق دويتشة فيلا ، غنيوة كان يُعد أحد أبرز قادة
المجموعات المسلحة التي فرضت نفوذها على طرابلس في السنوات الأخيرة، وأدى مقتله
إلى حالة من الذعر والارتباك في الشارع، مع تداعيات محتملة قد تطال البنية الأمنية
والسياسية في غرب ليبيا. على إثر ذلك، سارعت البعثة الأممية إلى التحذير من خطورة
الوضع، ودعت إلى وقف فوري لإطلاق النار، مشيرة إلى أن استهداف المدنيين قد يُصنّف
كجرائم حرب. تحركات ميدانية شملت رفع حالة التأهب الأمني وتحويل الرحلات من مطار
معيتيقة إلى مطار مصراتة أكدت أن العاصمة على شفا انفجار أكبر.
وبحسب مصادر محلية تحدثت إلى "الحرة"، فإن
المواجهة سبقتها، بأيام، حادثة أثارت غضب الحكومة تمثلت في اقتحام عناصر من جهاز
"دعم الاستقرار" لشركة الاتصالات القابضة، وهي مؤسسة مملوكة للدولة،
واختطاف رئيس مجلس إدارتها ونائبه، في محاولة للهيمنة على المؤسسة. وكان هذا
التصرف، كما يبدو، القشة التي قصمت ظهر التحالف بين غنيوة وحكومة الدبيبة.
الدبيبة وصف مقتل غنيوة بأنه "خطوة حاسمة نحو
القضاء على الجماعات غير النظامية وترسيخ أن مؤسسات الدولة هي الجهة الوحيدة
الشرعية في البلاد". وفي أول تعليق له على هجوم أبو سليم، قال "إن ما
تحقق اليوم يُشكل خطوة حاسمة نحو إنهاء المجموعات غير النظامية"، مؤكدًا أن
لا مكان في ليبيا إلا لمؤسسات الدولة. وحيا رئيس، "وزارتي الداخلية والدفاع،
وجميع منتسبي الجيش والشرطة، على ما حققوه من إنجاز كبير في بسط الأمن وفرض سلطة
الدولة في العاصمة".
وقال الدبيبة في تدوينة على حسابه بمنصة
"إكس"، "إن ما تحقق اليوم يؤكد أن المؤسسات النظامية قادرة على
حماية الوطن وحفظ كرامة المواطنين، ويُشكل خطوة حاسمة نحو إنهاء المجموعات غير
النظامية، وترسيخ مبدأ ألاّ مكان في ليبيا إلا لمؤسسات الدولة، ولا سلطة إلا
للقانون".
انتشار الفصائل وتحالفاتها
عدد التشكيلات والتحالفات المسلحة في العاصمة نحو 50
تشكيلا. التحالف الأول يقوده الدبيبة ويضم اللواء 444 قتال، ويقوده محمود حمزة،
والذي يتولى أيضاً منصب رئيس المخابرات العسكرية، بالإضافة إلى اللواء 111 مجحفل،
ويقوده عبد السلام زوبي وكيل وزارة الدفاع في حكومة الوحدة الوطنية.
كان يسمى سابقاً كتيبة 301، ويتخذ من منطقة النجيلة
وطريق المطار في طرابلس، مقراً له بالإضافة إلى
القوة المشتركة في مصراتة، بقيادة عمر بغداده، إلى
جانب قوة الإسناد الأولي بمدينة الزاوية، التي يقودها محمد بحرون المعروف بـ
"الفار"، فضلا عن مجموعة من الزنتان بقيادة عبد الله الطرابلسي، وهو
رئيس جهاز الأمن العام بوزارة الداخلية، وشقيق وزير الداخلية المكلف عماد
الطرابلسي.
أما التحالف الثاني بقيادة جهاز الردع، ويتبع اسمياً
للمجلس الرئاسي، ويتخذ من قاعدة معيتيقة مقراً له، ويقوده عبد الرؤوف كارة،
المعروف بانتمائه للتيار السلفي، بالإضافة إلى جهاز دعم الاستقرار، وكان يترأسه
الككلي كما أشرنا، ويتبع المجلس الرئاسي، ويسيطر على منطقة بوسليم والهضبة وأجزاء
من طريق المطار. أما جهاز المخابرات العامة، ويقوده حسين العائب، ويحظى بدعم
وحماية قوة الردع، علاوة على قوات أسامة الجويلي في الجبل الغربي ومنطقة الحمادة الحمراء.
البحث عن حكومة جديدة
لقد شجع حدوث هذه الاشتباكات خصوم الدبيبة على العودة
للحديث مجدداً عن ضرورة تشكيل حكومة جديدة. وشهدت العاصمة طرابلس ومدن أخرى
احتجاجات شعبية تطالب بإقالة حكومة الدبيبة، على خلفية تردي الأوضاع الاقتصادية
والخدمية، ما فتح المجال أمام البرلمان والمجلس الأعلى للدولة لمحاولة استثمار هذا
الغضب الشعبي لدفع نحو مسار سياسي جديد يهدف لتشكيل حكومة بديلة تحظى بغطاء
"مؤسساتي" وما زاد الضغط على حكومة الدبيبة هو تقديم عدد من الوزراء
استقالاتهم وهو ما حاول رئيس حكومة الوحدة نفيه.
ويهدد هذا الانقسام بانفجار الصراع الليبي مجدداً
وانزلاق البلاد إلى موجة جديدة من العنف وخاصة وأن العاصمة طرابلس تشهد نوعا من
الانفلات الأمني ، وسط الحديث عن إمكانية حدوث انشقاق في صفوف القوات الداعمة
لحكومة الدبيبة التي فقدت أحد أبرز الأذرع الأمنية التي كانت تعتمد عليها لضبط
الأوضاع في طرابلس.
وفي خطوة تعكس تصاعد الجهود لعزل حكومة الوحدة الوطنية
، أعلن مجلس النواب الليبي، مباشرة لجنة كلفها بالتنسيق مع المجلس الأعلى للدولة
فرز ملفات المرشحين لرئاسة حكومة جديدة، في وقت تتفاقم فيه التوترات السياسية والعسكرية
في العاصمة طرابلس.
مآلات الأحداث
لا يزال الوضع في العاصمة الليبية، طرابلس، متوترًا
وقد يتصاعد بسهولة في أي وقت، خاصةً إذا بقيت الجماعات المسلحة من مصراتة، مسقط
رأس الدبيبة، في طرابلس، وهو أمر لا يروق لمعظم سكان المدينة. وبالمثل، لدى حفتر
حلفاء في غرب ليبيا في مدن مثل الزنتان، في المنطقة الجبلية وفي الزاوية، الأقرب
إلى طرابلس.
وإذا تصاعدت الأمور مرة أخرى ورأت تلك الجماعات فرصة
لإخراج حكومة الوحدة الوطنية من طرابلس، فمن غير المرجح أن تتردد. الآن وقد تم
تنبيههم لما هو مخطط لهم، يمكن لقوات الردع الاسترخاء لبعض الوقت ومواصلة أعمالهم
كالمعتاد في طرابلس، مع الحفاظ على السيطرة على المواقع الحساسة بما في ذلك مطار
طرابلس الوحيد الذي يعمل. ومع ذلك، كجزء من وقف إطلاق النار، من المرجح أن يغادروا
المناطق الواقعة غرب وجنوب طرابلس (ميدل إيست مونيتور – 17 مايو).
نتيجة لهذه التطورات ربما تبقى حكومة الدبيبة ضعيفة
إلى حد ما من الناحية الأمنية في ظل عدم وجود قوة أمنية تأخذ دور جهاز دعم
الاستقرار، كما أنه من المتوقع أن يستمر الانقسام السياسي سواء بين الحلفاء ، الدبيبة
والمنفي أو بين الخصوم ، الدبيبة وحفتر.
كما تسلط هذه
الأحداث الضوء على القوة التي تحظى بها الميليشيات والفصائل في العاصمة وقدرتها
على تجاوز صلاحيات ونفوذ مؤسسات الدولة وهذا ما يعرقل بناء هذه المؤسسات الأمنية
والعسكرية.
وفي ظل استمرار هذا الانقسام السياسي والتوتر بين
الفصائل يستمر خطر الانزلاق إلى تصعيد عسكري قائماً إلى حد كبير، خاصة في ظل تراجع
الاهتمام الإقليمي والدولي بالأوضاع الليبية وعدم إطلاق المبادرات الجادة لإنهاء
الصراع في البلاد ومحاولة إنهاء دول الفصائل والميليشيات.
على أية حال يقول المحلل السياسي الليبي رمضان معيتيق،
في تصريح لـ"الحرة"، إن الدبيبة يعمل على إثبات قدرته في السيطرة على
زمام الأمور الأمنية والسياسية في غرب البلاد، ويضيف بأن ما حدث "تغيير مهم
جدا وأعطى لحكومة الوحدة الوطنية رصيدا كبير جدا، مع سقوط أبرز المنافسين
للحكومة".