
في الأيام الأخيرة تصاعد التوتر على الجبهة الشرقية لحلف شمال الأطلسي، بعدما اخترقت طائرات مسيرة روسية أجواء بولندا، أعقبها دخول مقاتلات ميغ-31 لدقائق قليلة في المجال الجوي الإستوني. هذه الحوادث التي تزامنت مع تكثيف موسكو هجماتها على أوكرانيا، لم تُقرأ باعتبارها مجرد تجاوزات عسكرية محدودة أو غير مقصودة، بل بوصفها إشارات سياسية واختبارات استراتيجية تمس جوهر معادلة الردع بين روسيا والناتو. فهي من جهة تكشف استعداد موسكو لاستخدام أدوات الحرب الرمادية لإرباك خصومها وتوسيع هامش الضغط. ومن جهة أخرى تضع الحلف أمام امتحان دقيق لمدى تماسكه وقدرته على الاستجابة الموحدة.
وفقا لبيان وزير الخارجية الإستوني مارغوس تساهكنا، فإن روسيا انتهكت
المجال الجوي لبلاده أربع مرات هذا العام، وهو أمر غير مقبول بالنسبة لحلف الناتو،
ويعد خرقا غير مسبوق. في هذا السياق، هناك أسئلة محورية يجب الإجابة عليها: ماذا
تعني هذه الاختراقات بالنسبة للحلف، وما هي أهداف روسيا الكامنة وراءها، وإلى أي
مدى يمكن أن تتمدد الحرب في أوكرانيا إلى خارج حدودها المباشرة؟
روسيا تنفي
الكرملين وصف اتهام طائرات روسية بانتهاك المجال الجوي لدول في حلف
الشمال الأطلسي بأنه "هستيري"، وذلك بعد أن قال الرئيس الأميركي دونالد
ترامب إنه يتعيّن على التحالف العسكري اسقاطها في حال اخترقت اجواءه. وقال الناطق باسم الكرملين دميتري بيسكوف "ثمة هستيريا حقيقية
حول اتهام طيارينا العسكريين بانتهاك قواعد معينة واختراق أجواء". قال أمام الصحافيين ‘ن هذه الاتهامات "لا أساس لها من الصحة"
مشيرا إلى أن "طيراننا العسكري ملتزم بجميع قواعد ولوائح الطيران".
تفسير الناتو للاختراقات الروسية
إن اختراق الطائرات الروسية من دون طيار لأجواء بولندا، ودخول مقاتلاتها
للأجواء الإستونية، لم يكن مجرد حادث عابر، بل كشف عن هشاشة الوضع الأمني في شرق أوروبا،
وأعاد طرح سؤال قديم حول مصداقية الردع الأطلسي.
يرى ماكس بوت من مجلس العلاقات الخارجية CFR
أنه على الرغم من أن نجاح الحلفاء في إسقاط وصد الطائرات يثبت فعالية أنظمة
الإنذار والدفاع الجوي المشتركة، لكن مثل هذه الحوادث تمثل مع تكرارها اختبارات
متعمدة للردع، تهدف إلى قياس سرعة الاستجابة وقدرة الدفاع الجوي الأطلسي على العمل
المشترك تحت الضغط. بمعنى آخر، ما جرى هو امتحان عملي للبنية الأمنية للحلف، ومن
هنا تأتي خطورته. (CFR: 19 September 2025)
لكن التحدي لا يقف عند الجانب العسكري فحسب، بل يتمدد إلى السياسة الداخلية
للحلف. إن استدعاء مشاورات بموجب المادة الرابعة يعكس قلقا جماعيا، لكنه في الوقت
نفسه يكشف عن تباينات في استعداد الدول الأعضاء للتصعيد. وفقا لموقع الناتو، يمكن
لأي دولة عضو اللجوء رسميا إلى المادة الرابعة من معاهدة شمال الأطلسي إذا تعرض استقلالها
السياسي أو أمنها للتهديد. وتناقش المسألة بمجرد طرح الموضوع، وقد تؤدي إلى اتخاذ
قرار أو إجراء مشترك نيابة عن التحالف. (NATO: 11 September 2025)
في تغطية سياسية لانقسامات الناتو بعد الاختراقات الجوية الروسية، أشارت صحيفة
الغارديان إلى أن ثمة انقسامات حول تكاليف المواجهة جعلت ردود الناتو في هذا
الموقف الحالي وبعض المواقف السابقة، أكثر حذرا وأقل حزما، وهو ما قد تستغله موسكو
لتقويض الثقة بين الحلفاء (The
Guardian: 20 September 2025). هكذا يصبح الحادث اختبارا
مزدوجا: عسكريا للتكنولوجيا والجاهزية، وسياسيا لوحدة الصف.
أهداف روسيا
التحليل الأولي يُظهر أن موسكو لا تبحث عن مواجهة مباشرة مع حلف شمال
الأطلسي، لكنها تسعى لتوسيع هامش المناورة. وفق تقرير معهد الدراسات الحربية ISW،
فإن استراتيجيتها تقوم على مبدأ الحروب الرمادية التي تُبقي الصراع دون عتبة الحرب
الشاملة، عبر هجمات بالطائرات المسيرة وخروقات محدودة، لتشتيت تركيز الحلفاء
وإشغالهم بحماية أجوائهم. هذه التكتيكات تستهلك قدرات الناتو الدفاعية وتفرض عليه
استنزافا ماليا ومعنويا، في حين تمنح روسيا فرصة لتركيز جهودها في الجبهة
الأوكرانية. (ISW: 20 September 2025)
يرى العديد من المعلقين الغربيين أن الاختراقات الروسية كانت بمثابة اختبار
روسي استراتيجي لحلف شمال الأطلسي والولايات المتحدة. في المقابل، يقرأ الخبير
الاستراتيجي أناتول ليفن في تقرير تحليلي عن روسيا في الفترة (8 - 15 سبتمبر 2025)
نشره موقع Russia Matters، هذه التحركات كرسالة سياسية بالدرجة الأولى، الهدف منها إخافة الأوروبيين
وإقناعهم بأن تكلفة استمرار الدعم العسكري لأوكرانيا قد تكون أعلى بكثير مما
يتوقعون. بمعنى آخر، روسيا لا تختبر الرادارات والدفاعات فقط، بل تهدف إلى اختبار الإرادة
السياسية، وتحاول أن تُشعر العواصم الأوروبية أن الحرب قد تمتد إلى بيوتهم ما لم
يتراجعوا عن دعم كييف. وهنا يصبح الهدف أبعد من مجرد تكتيك عسكري، بل أداة ضغط
إستراتيجي. يجادل ليفين أيضا بأنه في حين كان المقصود من التوغل تحذير أوروبا
والولايات المتحدة من التدخل بشكل أعمق في أوكرانيا، لكن الحادث سلط الضوء على
الضعف العسكري للدول الأوروبية واعتمادها على الدعم الأميركي.
حدود تمددات الحرب في أوكرانيا
حدود التمدد ليست عسكرية بحتة، بل سياسية بالأساس. الحوادث الأخيرة تؤكد أن
موسكو والناتو معا يتعاملان بحذر شديد لتجنب الوصول إلى مواجهة مفتوحة. تقدير Atlantic Council
يرى أن الناتو يتعمد ضبط ردوده عند حد إسقاط الطائرات من دون توسعة المواجهة، لأنه
يدرك أن أي تصعيد قد يُدخل الحلف في مواجهة مباشرة لا يريدها. في المقابل، تبقى
روسيا ملتزمة بخط أحمر غير معلن، يتمثل في الاستفزاز دون تجاوز العتبة التي تلزم
الناتو بتفعيل المادة الخامسة، التي تخول الدول الأعضاء بالرد بإجراءات دفاعية عن
النفس، بما في ذلك استخدام القوة المسلحة. هذا التوازن الدقيق هو ما يحدد حدود
التمدد حتى الآن.
لكن الخطر الأكبر يكمن في الانزلاق غير المقصود. وفق تقرير ISW،
فإن تكرار هذه الحوادث يزيد احتمالات وقوع خطأ مأساوي: سقوط حطام على مناطق مدنية،
أو إسقاط طائرة مأهولة بطاقم روسي أو أطلسي، وهو ما قد يفتح الباب أمام تصعيد أوسع
يتجاوز نية الطرفين. وفي الوقت الذي تحاول فيه الدبلوماسية الأوروبية الإبقاء على
قنوات التواصل مفتوحة، يظل هذا التوازن هشا للغاية، ويعتمد على حسابات دقيقة قد
تتغير بلحظة واحدة إذا وقع حادث دموي كبير.
تفاعل مجلس الأمن مع الأزمة
شهد مجلس الأمن في جلسته الأخيرة (الإثنين 22 سبتمبر) حول روسيا وأوكرانيا
مداولات اتسمت بحدة الخطاب وتباين المواقف بين القوى الكبرى، وهو ما يعكس استمرار
حالة الانقسام العميق داخل المنظومة الدولية تجاه الحرب الدائرة. خلال النقاشات،
شددت الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، على تحميل موسكو
المسؤولية المباشرة عن تدهور الوضع الميداني، معتبرة أن ما تقوم به روسيا يمثل
تهديدا صريحا للسلم والأمن الدوليين. وقد تركز خطاب هذه الدول على المطالبة بوقف
الهجمات التي تستهدف البنية التحتية الحيوية والمدنيين، مع التأكيد على ضرورة
التزام موسكو بالقانون الدولي الإنساني وقرارات الأمم المتحدة السابقة.
في المقابل، حاولت روسيا عبر ممثلها قلب الطاولة على خصومها، متهما الغرب
باستخدام المجلس كمنصة لتبرير تسليح أوكرانيا. وقد سعى الوفد الروسي إلى تقديم
نفسه كمدافع عن أمنه القومي ضد ما اعتبره "استفزازات أطلسية"، مشددا على
أن استمرار دعم كييف بالسلاح الغربي لن يؤدي إلا إلى تعقيد فرص التوصل إلى تسوية
سياسية. هذا الخطاب الروسي تلاقى جزئيا مع بعض المداخلات من دول مثل الصين، التي
تمنح موسكو غطاء كاملا، لكنها ركزت على الدعوة إلى الحوار السياسي والابتعاد عن
التصعيد. وانتهت الجلسة إلى جملة من الدعوات لوقف إطلاق النار واستئناف المفاوضات
المباشرة. غير أن هذه التوصيات لم تأت في صورة قرار ملزم، الأمر الذي يعكس محدودية
قدرة المجلس على اتخاذ خطوات عملية في ظل الفيتو الروسي القائم.
وعند تقييم جدوى الجلسة، يظهر بوضوح أنها كانت عبارة عن منصة لإبراز
المواقف السياسية تجاه الاختراقات الروسية وتسجيلها فقط. فبينما يرى البعض أن
استمرار الضغط المعنوي والسياسي على موسكو مهم لعزلها دوليا، فإن آخرين يعتقدون أن
غياب قرارات ملزمة يجعل هذا الاجتماع أقرب إلى إجراء شكلي لا يغير كثيرا في موازين
الحرب.
خاتمة
لقد كشفت التطورات الأخيرة أن الحرب في أوكرانيا تجاوزت طابعها الإقليمي
لتتحول إلى أزمة أمنية أوروبية شاملة، حيث لم تعد المواجهة محصورة في ساحة المعارك
التقليدية بل امتدت إلى الأجواء والمجالات الرمادية المحيطة بحلف الناتو. تكرار
اختراقات الطائرات المسيرة والمقاتلات الروسية يشي بأن موسكو تتعمد توسيع مسرح
الضغط تدريجيا لاختبار صلابة الأطلسي وإرباكه، وإجباره على إعادة النظر في
استراتيجياته الدفاعية والسياسية. هذا التمدد، وإن بقي حتى اللحظة مضبوطا دون عتبة
الحرب الشاملة، إلا أنه يضع الحلف أمام معضلة متصاعدة: كيف يمكن الحفاظ على الردع
والرد دون الانزلاق إلى مواجهة مفتوحة؟
ومن المرجح أن يشهد المستقبل القريب زيادة في وتيرة الاحتكاكات الجوية
والهجمات الهجينة، سواء عبر الفضاء السيبراني أو عبر عمليات تخريبية على البنية
التحتية الحيوية في دول الجوار الأوكراني. وهو ما يعني أن الحرب لن تبقى معركة
أوكرانية بحتة، بل ستأخذ شكل صراع متدرج متعدد الأبعاد يختبر تماسك الجبهة
السياسية الغربية. في هذا السياق، سيظل الحلف مطالبا بإيجاد معادلة دقيقة بين
الصلابة العسكرية والانضباط السياسي، بحيث لا يمنح روسيا شعورا بالإفلات من
العقاب، ولا يفتح في الوقت ذاته الباب لتصعيد غير محسوب.
ومع ذلك، يبقى أخطر ما يواجه المرحلة المقبلة هو احتمال الانزلاق غير
المقصود، الذي قد يقلب موازين الأزمة رأسا على عقب، ويدفع الحلف إلى مراجعة شاملة
لمفهوم الأمن الأوروبي، وربما إلى إعادة صياغة استراتيجيات الردع لعقود مقبلة. بين
خيار بناء ردع أكثر صرامة ضد مغامرات روسيا، واحتمال التورط في تصعيد واسع لا
يريده أي طرف، ستتحدد ملامح النظام الأمني الأوروبي الجديد، وما إذا كان قادرا على
الصمود أمام اختبارات موسكو المتكررة، أم أنه سيتعرض لانكسار يعيد رسم خريطة
التوازنات الإستراتيجية في القارة.