عاد التوتر الأمريكي – الصيني إلى الواجهة من بوابة التكنولوجيا، حيث جددت واشنطن مساعيَها لحظر ومحاصرة برنامج تيك توك، الذي تقول إنه أداة استخباراتية لصالح الحكومة الصينية تهدد الأمن القومي الأمريكي، وهذا ما تنفيه الشركة المالكة للبرنامج، كما تَعد الصينُ هذه التحركاتِ الأمريكيةَ محاولاتٍ لإعاقة تطورها. وفي وقت يرى فيه بعضُ الخبراء أن الاتهاماتِ الأمريكيةَ تعكس بعضاً من الواقع، هناك آخرون يرون أنها تأتي في إطار التنافس والصراع على الهيمنة.
أقرت لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس الأمريكي، مشروع قانون من شأنه أن يسهل على مجلس النواب حظر تطبيق تيك توك الذي تملكه شركة صينية، وسط انتقادات بأن الاقتراح يهدد حرية التعبير. وقال رئيس اللجنة مايكل ماكول إن "مشروع القانون يفرض على الإدارة حظر أية تطبيقات برمجية تهدد الأمن القومي للولايات المتحدة"، فيما علق مسؤول في تيك توك بأن الشركة شعرت بـ"خيبة أمل لرؤية هذا النص التشريعي المتسرع يمضي قدماً" في الكونغرس، (فرانس 24 – 2 مارس).
ومع كل توتر في العلاقات وتصاعد حدة الصراع بين واشنطن وبكين، يعود الحديث عن التجسس كما يحدث في هذه الفترة، فمن الحديث عن تجسس صيني بواسطة شركة هواوي على المواقع والموانئ الأمريكية، ثم الحديث عن تجسس تيك توك على الشعب الأمريكي، وصولاً إلى حادثة المنطاد الصيني.
وفتحت الولايات المتحدة الأمريكية تحقيقاً يبحث في تجسس شركة هواوي على القواعد العسكرية داخل أمريكا، ويشمل التحقيق الأمريكي بحث استخدام أبراج هواوي داخل أمريكا كنظام إنذار مبكر للصين، (رويترز – 21 يوليو 2022).
وفي سياق متصل، نشرت وزارة الدفاع الأمريكية صورة التقطها طيار مقاتل أثناء تحليقه فوق منطاد صيني أسقطته الولايات المتحدة في وقت سابق من هذا الشهر. والتقط الطيار الصورة الشخصية (سيلفي) من قمرة القيادة لطائرة تجسس أمريكية من طراز يو-2، أثناء تتبع قيادات عسكرية تَقدم المنطاد الصيني على ارتفاعات عالية فوق أراضي الولايات المتحدة، وأكدت بكين أن المنطاد كان عبارة عن مركبة لتتبع الطقس وأنها خرجت عن مسارها، لكن واشنطن تقول إن المنطاد كان جزءاً من برنامج جمع معلومات استخبارية صيني في مناطق كثيرة من العالم، (بي بي سي- 23 فبراير الماضي).
اتهامات أميركية وغربية
تصر الولايات المتحدة الأمريكية على أن برنامجَ تيك توك أداةٌ تستخدمها الصين للتجسس على الأمريكيين، وأن ذلك يهدد أمن بلادهم القومي. وبدأ الجدل حول تطبيق تيك توك في فترة إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وتواصل ذلك بعد وصول جو بايدن إلى البيت الأبيض، وفي وقت تم حظر التطبيق في معظم مؤسسات الحكومة الأمريكية، حظرت أيضاً 27 ولاية استخدام البرنامج، ووصل ذلك إلى تقديم الحزبين في الكونغرس الأمريكي قانوناً ينص على فرض حظر على استخدام أي أحد التطبيقَ داخل حدود الولايات المتحدة، ليمتد ذلك إلى الدول الأوروبية والتي سارت على النهج الأمريكي من خلال اتهام تيك توك بتهديد أمنها القومي.
وقال السيناتور وورنر في بيان إنّ "التهديد الذي يتحدّث عنه الجميع حالياً هو تيك توك، وقدرته على تعزيز (قدرات) الحزب الشيوعي الصيني على المراقبة، أو تسهيل نشر حملات تأثير خبيثة في الولايات المتّحدة"، وأضاف "قبل تيك توك كانت هواوي وزد تي اي تشكلان خطراً على شبكات الاتصالات في بلادنا. وقبل ذلك كانت كاسبرسكاي لاب الروسية تشكل خطراً على أمن أجهزة الحكومة والشركات"، (الحرة – 8 مارس).
وقرر البرلمان الأوروبي، حظر تطبيق تيك توك الصيني على هواتف موظفيه لأسباب أمنية، ليصبح بذلك أحدثَ مؤسسة في التكتل تتخذ هذه الخطوة، وأوضح مسؤول بالاتحاد أن الحظر سينطبق أيضاً على الأجهزة الخاصة المتصلة بالبريد الإلكتروني للبرلمان الأوروبي وشبكاته الأخرى، مضيفاً أنه من المتوقع الإعلان عن القرار قريباً، وحظرت المفوضية الأوروبية ومجلس الاتحاد الأوروبي تيك توك أيضاً على هواتف الموظفين، ما يؤكد المخاوف المتزايدة إزاء الشركة المملوكة لشركة "بايت دانس" الصينية وما إذا كان بإمكان الحكومة الصينية استغلال التطبيق لجمع بيانات المستخدمين أو خدمة مصالحها، (روسيا اليوم – 28 فبراير الماضي).
طبيعة التخوفات الأمريكية من "تيك توك"
*الوصول إلى بيانات المستخدمين: تقول الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية إن برنامج تيك توك قادر على الوصول إلى بيانات دقيقة للمستخدمين لا تدخل في إطار عمل البرنامج كتطبيق للتواصل الاجتماعي، إنما قد يستخدم لأغراض أخرى.
وبحسب تحقيق أجرته شركة يديرها مسؤولون سابقون في أمريكا وأستراليا، فإن تصميم التطبيق مركب بحيث يكون بمقدوره جمع أكبر قدر من المعلومات الشخصية، عبر أدوات تتبع أكثر من حاجة تطبيق تواصل اجتماعي، إذ تحتوي منصة مشاركة الفيديو الشهيرة على ضعف عدد أدوات التتبع لـ"كود المصدر" مقارنة مع متوسط الصناعة، وفقاً لشركة "إنترنت 2.0" المتخصصة في الأمن السيبراني. واتهمت الشركة الأمنية تيك توك بجمع معلومات من المستخدمين بواسطة "أدوات مفرطة التطفل، وليست ضرورية لكي يعمل التطبيق"، وقالت إن التطبيق المملوك لشركة "ByteDance" الصينية، بإمكانه الوصول إلى معلومات حول شبكة الـ"واي فاي" وشريحة الاتصال، ونوع الهاتف، ويطلب من المستخدم باستمرار الوصول إلى جهات الاتصال الخاصة به وهو خيار يمكن رفضه إلا أن عدد مرات التكرار ترقى إلى "المضايقات المستمرة التي لا نهاية لها" والتي من شأنها إقناع المستخدم بفتح الوصول، على حد قول شركة الأمن السيبراني، (اندبندنت عربية -15 فبراير الماضي).
كما أكد أحد أعضاء فريق إدارة الثقة والسلامة في التطبيق أن "كل شيء يُرى في الصين"، بينما قال موظف آخر: "إن مهندساً مقيماً في الصين لديه إمكانية الوصول إلى كل شيء". وعليه، أعلن التطبيق عن توجيه بيانات المستخدمين الأمريكيين إلى خوادم مملوكة لشركة "أوراكل" في الداخل الأمريكي، في محاولة لتهدئة المخاوف الأمريكية، (إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية – 27 يونيو 2022).
*وسيلة صينية للتجسس: تزايد الحديث في الأوساط الأمريكية بأنه وبالإضافة إلى أن تيك توك ينتهك خصوصية المستخدمين، فإنه يقوم بجمع بيانات الأمريكيين الشخصية ويرسلها إلى خوادم صينية، وخاصة خوادم تابعة للجيش الصيني والحزب الشيوعي الصيني، ما يقوي مصداقية المزاعم التي تتحدث عن استخدام التطبيق لأغراض الرقابة والتجسس.
وأثار التطبيق انتباه إدارة ترامب وجِهاتٍ أخرى من الحكومة الأمريكية، بسبب المخاوف من أن تيك توك يجمع معلومات عن الأمريكيين يمكن تسليمها إلى الحكومة الصينية التي قد تستخدمها للتجسس على مواطني الولايات المتحدة، وكان وزير الخارجية مايك بومبيو قد قال في مقابلة مع شبكة فوكس نيوز، إن من يحمّلون التطبيق على أجهزتهم يضعون "معلوماتهم الخاصة في يد الحزب الشيوعي الصيني"، وكان مسؤولون ومشرعون أمريكيون آخرون، قد عبروا عن قلقهم من استخدام بكين للمنصة لغايات سيئة تجاه الولايات المتحدة، وقد منع الجيش والبحرية الأمريكيان المنتسبين إليهما من تحميل التطبيق على الهواتف المملوكة للحكومة، (الحرة – 1 أغسطس 2020).
وفي هذا السياق، قالت إستيل ماس التي تعمل في منظمة "أكسس ناو" غير الربحية والمتخصصة في مجال الدفاع عن الحقوق الرقمية، إن هناك مخاوفَ مشروعةً بشأن قيام السلطات الصينية "بمراقبة محتملة" للتطبيق، وأضافت أن التطبيق يستحق الاهتمام الكبير لأنه "أصبح منصة التواصل الاجتماعي الأسرع نمواً في العالم فيما يعد صغار السن الأكثر استخداماً له"، (دويتشه فيله -11 فبراير الماضي).
سلاح قوي في حرب المعلومات: مع تزايد انتشار تطبيق تيك توك في العالم وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية، فإن هذا التطبيق تمكن الاستفادة منه في حرب المعلومات والترويج للسياسات داخل المجتمعات حتى المعادية، ومع مرور الوقت ونتيجة لضخ المعلومات والرسائل بشكل متكرر يمكن أن يُحدِث تأثيراً، بداية من تأليب الشارع والمواطنين على حكوماتهم، وصولاً إلى إمكانية أن يتحول بعض المواطنين إلى موالين لسياسات الدولة العدوة، وتوضحت هذه السياسة خلال الحرب الأوكرانية.
وبيّنت دراسة جديدة أن خوارزميات المنصة الاجتماعية تيك توك تقدم محتوى مضللاً حول الحرب الروسية على أوكرانيا، ومن المحتوى الكاذب الذي اكتشفه فريق الدراسة، أكاذيب لصالح روسيا منها محاولة التشكيك في أن مقاطع حقيقية من الحرب في أوكرانيا هي غير ذلك، واتهام الحكومة الأوكرانية بأنها نازية وتم تنصيبها من الغرب في "مسرحية" انتخابات، وتصديق الدعاية الروسية بوجود أسلحة بيولوجية أمريكية في أوكرانيا، ونشر دعاية بوتين بأنه لا يغزو أراضيَ دولة أخرى، ويوجد كذلك محتوى كاذب ينشره متعاطفون مع أوكرانيا، ومن ذلك نشر مقطع من لعبة فيديو على أنه عملية إسقاط مقاتلات روسية في كييف، وادعاء فيديو أنه يوثق لإطلاق نار على وحدات روسية في هذه الحرب، بينما يعود لعام 2015 في مواجهات بين قوات أوكرانية وأخرى انفصالية في دونباس، وحققت عدد من هذه المقاطع المضللة أرقاماً كبيرة تجاوزت مليون مشاهدة في ظرف قياسي، وتكمن خطورتها في خلطها عند إظهارها في نتائج البحث مع معلومات أخرى صحيحة ما يخلق خلطاً كبيراً بين الصحيح والمضلل، (دويتشه فيله – 22 مارس 2022).
تأثير قوي على الرأي العام: يمثل انتشار تيك توك الواسع في الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية وسيلة مهمة للتأثير على مواطني هذه الدول وتوجيههم وخاصة فيما يتعلق بالتأثير على التطورات السياسية والانتخابات.
إضافة إلى احتمال تعديل المحتوى ذي التوجه السياسي، يثير المراقبون احتمال استخدام تيك توك للتأثير في الرأي وتعطيل العملية الديمقراطية في الولايات المتحدة، على غرار الحملة التي قادتها روسيا قبل الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2016، وأظهرت دراسة أجرتها منظمة "Global Witness" ومركز الأمن السيبراني للديمقراطية التابع لـ"جامعة نيويورك"، بالفعل أن تيك توك سرب العديد من مقاطع الفيديو التي تحوي معلومات مضللة أثناء الحملة الأخيرة للانتخابات التشريعية الأمريكية، (اندبندنت عربية - 21 ديسمبر 2022).
الصين تنفي الاتهامات الأمريكية والغربية
وعلى الرغم من كل هذه الاتهامات والمعلومات فإن الصين تنفي ذلك وتعتبره مؤامرة أمريكية ضد مصالحها. واتهمت الصين الولايات المتحدة بالمبالغة في رد فعلها، بعدما أصدرت الحكومة الأمريكية أوامر للموظفين الفيدراليين بإزالة تطبيق الفيديو تيك توك من الهواتف والأجهزة التابعة للحكومة، واتهمت متحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية الولايات المتحدة بإساءة استخدام سلطة الدولة لقمع الشركات الأجنبية، وقالت المتحدثة، ماو نينغ: "يجب على حكومة الولايات المتحدة احترام مبادئ اقتصاد السوق والمنافسة العادلة"، (بي بي سي- 28 فبراير 2023).
وفي مواجهة عدم ثقة السلطات العامة الأوروبية، أعلنت منصة تيك توك أنها تعمل مع "شريك" أوروبي لضمان عدم نقل بيانات مستخدميها إلى الصين، على غرار الإجراءات المتخذة في الولايات المتحدة، وقال ثيو بيرترام نائب الرئيس المسؤول عن السياسات العامة في أوروبا: "لدى الحكومات الغربية مخاوف حقيقية بشأن الصين، وبالتالي، كوننا شركة أسسها صينيون، فإننا نتحمل مسؤولية إظهار كيف نضمن حماية بيانات مستخدمينا"، (يورونيوز- 4 مارس الجاري).
وعلى الرغم من الاتهامات الأمريكية والغربية لتطبيق تيك توك الصيني بأنه لا يحمي خصوصية المستخدمين، وبأنه يمكن أن يكون أداة للتجسس والمراقبة، إلا أن هذه الاتهامات في الحقيقة ليست محصورة في هذا التطبيق، فمعظم تطبيقات التواصل الاجتماعي وغيرها يمكن أن تكون عرضه للاختراق والتجسس والاطلاع على خصوصية المستخدمين.
بعض الخبراء يعتبرون هذه المخاوفَ مبالغاً فيها، مشيرين إلى أن عدداً من الجهات الخبيثة يمكنها الوصول إلى هذه البيانات بغض النظر عمن يملك المنصة، الباحث في كلية السياسة العامة بـ"جامعة ديوك" جاستن شيرمان قال: "إذا كنا نتحدث عن البيانات المتعلقة بالمواطنين الأمريكيين فلا توجد قوانين تنظمها، وهناك القليل جداً من اللوائح التنظيمية، وتقوم الشركات باستمرار بجمع كميات هائلة من البيانات، سواء كانت شركاتٍ أمريكيةً أم أجنبية"، ومثل جميع التطبيقات فمن المحتمل أن يؤمن تيك توك الوصول إلى البيانات والميزات الأخرى على هاتف المستخدم، لكن تيك توك قالت هذا العام إنها ستخزن في الولايات المتحدة جميع المعلومات المتعلقة بالمستخدمين الأمريكيين، (اندبندنت عربية- 21 ديسمبر 2022).
خلاصات
يعود موضوع التجسس بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين إلى عقود من الزمن، لكن الحديث والاتهامات بشأن هذا الموضوع تزايدت خلال الأعوام الأخيرة، ومن خلال مسار هذا الموضوع يتبين أن الصين هي الأكثر اهتماماً بهذا الجانب؛ وعملت خلال السنوات الماضية على تطوير أساليبها لجلب المعلومات الاستخباراتية من الولايات المتحدة الأمريكية.
هذا الحديث حول حرب الجاسوسية والاستخبارات بين الطرفين والتركيز على الوسائل التكنولوجية، يندرج بشكل كبير ضمن الصراع بين الولايات المتحدة والصين من أجل الهيمنة العالمية، وإثبات التفوق والكفاءة، وخصوصاً السيطرة على سوق التكنولوجيا الواعدة، حيث بات تطبيق "تيك توك" الصيني ينافس تطبيقات أمريكية مثل فيسبوك وانستغرام.
تعود أهمية هذه التطبيقات إلى ما تجلبه من أرباح مالية هائلة، بالإضافة إلى أنها تعتبر وسيلة مهمة لتوجيه الرأي العام والشعوب، إلى جانب دورها البارز في الحرب الاستخباراتية.