منذ اندلاع الحرب في السودان في أبريل 2023، اتفق المجتمع الدولي والإقليمي على أن السبيل الوحيد لإنقاذ البلاد هو وقف فوري لإطلاق النار يمهد لعودة الحكم المدني. وقد تجسدت هذه الإرادة في مبادرات دولية عديدة، أبرزها جهود اللجنة الرباعية الدولية (الولايات المتحدة، الإمارات، السعودية، ومصر).
وبينما أبدت "قوات الدعم السريع" قبولًا لهذه الجهود، جاء الرفض الصريح والمتكرر من جانب حكومة بورتسودان التي يسيطر عليها نفوذ جماعة الإخوان المسلمين. هذا الرفض ليس مجرد مناورة عسكرية، بل يكشف عن "حسابات خاصة" عميقة تشكل استراتيجية بقاء لهذا التنظيم الذي حكم السودان ثلاثين عامًا قبل أن تطيح به ثورة ديسمبر. تدرك هذه القوى أن القبول بالسلام يعني نهايتهم السياسية والقانونية، في حين يمثل استمرار الحرب - بما تحمله من دمار وموت - "جسراً للعودة" إلى السلطة والتمكين.
إن الأسباب الجوهرية التي تدفع إخوان السودان إلى رفض مبادرة الرباعية وإطالة أمد الصراع، هي دوافع تتراوح بين: الحاجة الملحة لـ "إعادة تعويم" حكمهم السياسي، والخوف الوجودي من تمكين التيار المدني، وصولاً إلى الهروب من الملاحقة الجنائية والمحافظة على إمبراطوريتهم الاقتصادية. وهي استراتيجية تعتمد على التضليل الإعلامي وابتزاز القيادة العسكرية لضمان استمرار "العودة عبر الدم".
ويرتكز رفض حكومة بورتسودان، التي يسيطر عليها "إخوان السودان" ، للمبادرات الإقليمية والدولية لوقف الحرب، على خمسة أسباب رئيسية تُشكل استراتيجية بقاء هذا التنظيم. فالقبول بالسلام في نظرهم يعني نهايتهم السياسية والقانونية، بينما يمثل استمرار الحرب "جسراً للعودة" إلى السلطة التي فقدوها بثورة ديسمبر 2019.
العودة للسلطة عبر "بوابة الحرب" :
الكاتب محمد جميل في مقال نشر بـ(إندبندنت عربية) في فبراير 2024 يشير إلى أن حرب السودان هي إلتفاف على الاتفاق الإطاري وأن السبب الرئيس لاندلاع الحرب يكمن في اختلاف موقفي الجيش و"الدعم السريع" من "الاتفاق الإطاري"، مشيراً إلى أن قادة النظام القديم (الإخوان) كانوا قد أعلنوا صراحة تهديدهم بالحرب إذا ما تم التوقيع النهائي على هذا الاتفاق الذي كان يهدف إلى تسليم السلطة للمدنيين ، وبما أن تنظيم الإخوان رأى أن الحرب هي الفرصة الوحيدة لإعادة تأسيس حكمهم بعد الإطاحة بهم، وأن أي مسار سلمي يُنهي وجودهم حيث تقوم حسابات الإخوان على أن الاستمرار في الحرب هو السبيل الوحيد "لإعادة تعويم" حكمهم جاءات مشاركتهم في القتال عبر "الكتائب الإخوانية"(مثل كتيبة البراء، البنيان المرصوص، البرق الخاطف ، قوات العمل الخاص) ضمن "قوات البرهان" لتمنحهم وسيلة للسيطرة على مفاصل القرار والعودة للحكم.
وفي السياق ذاته تؤكد الكاتبة المصرية أماني الطويل في مقال نشرته (أثير نيوز) في يونيو 2024 أن لدى الجيش "قطاعات من النظام القديم، رأس الرمح فيها الفصائل المسلحة لـ 'الجبهة القومية الإسلامية'"، بما في ذلك فصائل من حزب "المؤتمر الوطني" وفصائل أخرى تقوم بـ "وظائف سياسية" داخل تحالفات الجيش.
في المقابل تدعو المبادرة الرباعية إلى هدنة إنسانية (3 أشهر) تليها مرحلة "انتقال سياسي سلمي للسلطة" (9 أشهر) ينتهي بقيام حكومة مدنية شرعية. هذا المسار يعني عمليًا "خروج الإخوان والكتائب الإخوانية من المعادلة" بشكل كامل، وهو ما يفسر رفض البرهان، بتحريض إخواني، لأكثر من 20 مبادرة إقليمية ودولية لوقف إطلاق النار ، ويكشف بجلاء سعي التنظيم إلى "خلط أوراق الحرب" بهدف مسح مسار القوى المدنية والثورة السودانية، وإجبار الدول الإقليمية والدولية على "إعادة تعويمهم" والاعتراف بهم كطرف أساسي في أي مقاربة سياسية جديدة.
تصفية التيار المدني والقضاء على "الخطر الوجودي":
ينظر "إخوان السودان" إلى المبادرة الرباعية كأداة لتمكين خصمهم اللدود، وهو التيار المدني وتعتبر جماعات الإخوان أن التيار المدني السوداني، الذي استطاع خلع نظام حكمهم عام 2019، يمثل "خطراً وجودياً" على نفوذهم وأن القبول بمسار يقود إلى حكومة مدنية يعني نهاية الإخوان وسيطرة قوى الثورة على المشهد ، ولذلك يستميت المتنفذين في حكومة بورتسودان في البحث عن ضمان لشراكة سياسية مع الجيش على حساب إبعاد قوى الثورة والقوى السياسية المدنية.
الهروب من المحاسبة والملاحقة الجنائية:
يشكل وقف الحرب تهديداً قانونيًا مباشراً لقيادات التيار الإخواني، التي تُتهم بجرائم خطيرة ومن المؤكد أن وقفها سيحرك ملف محاكمة كل من وقف وراء اندلاعها الذي تسببت في خسائر كارثية.
وفي سياق متصل المحكمة الجنائية الدولية تلاحق قيادات بارزة في حزب المؤتمر الوطني - الجناح السياسي للإخوان - مثل أحمد هارون، الذي هرب من السجن وطالب أعضاء حزبه علناً بدعم الجيش. وقف الحرب قد يكون مقدمة لتسليم هذه القيادات إلى المحكمة الدولية.
وقد جاء طرد مديرة مكتب برنامج الغذاء العالمي وزميلتها بالتزامن مع إشارتهن إلى تلوث الغذاء بأسلحة كيماوية في مناطق سيطرة مجموعات البرهان، مما يشير إلى محاولة التخلص من الشهود المستقلين ومحاولات لتجهيز ملفات حول استخدام كتائب الإخوان للأسلحة الكيماوية في الحرب.
يقول الكاتب صلاح شعيب في مقال نشر بموقع (سودانايل) الإلكتروني : "يُعد الهروب من تسليم قيادات بارزة مطلوبة للمحكمة الجنائية الدولية، مثل أحمد هارون الذي فرّ من السجن ودعا علناً لدعم الجيش، دافعاً أساسياً لإطالة أمد الحرب كذلك القيادي الإسلامي علي كرتي هو الآخر يستخدم كل "أحابيل الإسلام السياسي لتشويه الحقائق المعلومة عن الحرب"، بينما فرضت عليه الولايات المتحدة عقوبات لدوره في إعاقة الانتقال الديمقراطي.
الحفاظ على الإمبراطورية الاقتصادية :
تُستخدم الحرب كدرع لحماية المصالح الاقتصادية الهائلة التي اكتسبها التنظيم الإخواني خلال 30 عامًا من الحكم حيث يخشى الإخوان أن يؤدي وقف الحرب وقيام دولة مدنية ديمقراطية إلى عودة "لجنة تفكيك التمكين والفساد" ، التي كانت تستهدف استرداد شبكة واسعة من المصالح الاقتصادية والاستثمارات التي بنتها الجماعة.
هناك ارتباط بين المصالح الاقتصادية لإخوان السودان، خاصة في مجال الأراضي الزراعية، وبين أطراف خارجية تدعم بقاء الإخوان في قلب المعادلة الأمنية والعسكرية. وفي هذا السياق، يشير محمد جميل أحمد إلى أن توجه الجيش نحو إعادة العلاقات مع إيران هو مؤشر على طبيعة حلفاء الجيش الجدد، مما يعزز الاستراتيجية الأيديولوجية والاقتصادية للإسلاميين.
ابتزاز القيادة العسكرية:
لتعزيز رفضهم، استخدم الإخوان آلة دعائية ضخمة لتعزيز سردية الحرب وتشويه دعاة السلام حيث اطلقوا حملات تحريض إخوانية مكثفة اعتمدت على "توليد صور ومشاهد وفيديوهات مفبركة لتشويه خصومهم (ومنهم دول الرباعية) بهدف "بناء حاضنة سياسية ترفض وقف إطلاق النار".
يوضح صلاح شعيب أن الإسلاميين استغلوا الأحداث العسكرية، مثل سقوط الفاشر، ليس لامتصاص الهزيمة فحسب، بل لابتزاز البرهان للانسحاب من المفاوضات السرية التي كانت تجري تحت رعاية الرباعية (كالمفاوضات التي كُشف عنها لاحقاً في المنامة)، لإبقاء استراتيجيتهم في إطالة أمد الحرب حية.
وفيما أشارت الكاتبة رشا عوض رئيس تحرير صحيفة التغيير في إفادة صحفية إلى أن هذه الحرب "كارثة يدفع الشعب السوداني فاتورتها مرغم لأجل جماعة إيديولوجية مجرمة تتفوق في الكذب والخداع وتهيج الناس وتغسل أدمغتهم"، مؤكدة أن "ملايين السودانيين لا يريدون هذه الحرب"،كشف الكاتب مرتضى الغالي في مقال نشر بموقع (سودانايل) 13 نوفمبر 2025 عن حادثة "الفضيحة" في سفارة السودان برواندا، حيث تم تقديم شخص من "أبناء الإخوان المدللين" هدد البرهان بشكل مباشر بـ "قطع رأسه بالسيف" إذا تراجع عن الحرب. هذه الواقعة تعكس مدى سيطرة الفصائل الإسلامية على البعثات الدبلوماسية ومدى جرأتها في ابتزاز قائد الجيش لإجباره على مواصلة "خطهم الحربي".
خلاصات:
1. بناءً على الأسباب الخمسة الجوهرية لرفض إخوان السودان لجهود الرباعية، والمتمحورة حول استراتيجيتهم للبقاء والعودة للسلطة عبر إطالة أمد الحرب، السيناريو الرئيس المحتمل للمسار المستقبلي للصراع في السودان يعتمد على مدى نجاح الإخوان في ابتزاز البرهان والاستمرار في خلط الأوراق، مقابل مدى فاعلية الضغط الدولي والإقليمي في تفكيك تحالف الجيش مع الإسلاميين.
2. من الواضح أن الإخوان في السودان يسعون إلى تعميق الرفض لأي سلام مدني ويتمسكون بالرفض التام لمبادرة الرباعية لأنها تضمن انتقالاً مدنياً كاملاً ينهي وجودهم السياسي والقانوني وبالتالي تظل الحرب مستمرة في مختلف الجبهات، مع محاولاتهم المستميتة لزيادة السيطرة على قرار الجيش وقد ينجح الإخوان في ابتزاز البرهان (كما حدث في حادثة رواندا وتهديد قطع رأسه) وإجباره على التراجع عن أي مفاوضات سرية مع "الدعم السريع".
3. سيعمل (الإخوان) على تقوية نفوذ الكتائب الإسلامية لتصبح هي القوة الدافعة والمنظمة الرئيسية داخل معسكر الجيش، مما يجعلها الطرف الفعلي المسيطر على مفاصل الدولة في بورتسودان، وخير شاهد عدل على ذلك الخطاب المسرب الذي وجه من خلاله قائد كتيبة (البراء) المصباح طلحة، والي الخرطوم باستنفار الموظفين ما يؤكد استغلال الإخوان لجهاز الدولة الإداري لخدمة أجندتهم، فوالي الخرطوم من نشطاء الإخوان وكان مسؤولاً بالتنظيم عن قطاع أمدرمان. على ذات النسق سيوسع الإخوان الحواضن الخارجية وسيعملون عل تعزيز التحالفات الخارجية البديلة ، لضمان الإمدادات العسكرية والمالية التي تعوض الضغط الغربي.
4. إن رفض إخوان السودان للمبادرة الرباعية هو قرار أيديولوجي يهدف إلى تأجيل أو منع نهايتهم السياسية والقانونية. فالسلام يعني حكمًا مدنيًا ومحاسبة جنائية وضياعًا للمصالح الاقتصادية. في المقابل، يجد قائد الجيش عبد الفتاح البرهان نفسه في مأزق، إذ أن الزمن ليس في صالحه إلا إذا أسرع في إنهاء علاقته بالحركة والاستجابة لمطالب الرباعية الجادة في إنهاء الحرب. والسؤال المُلِح هنا هو: ما هي الضمانات التي تبعده عن تآمر الإسلاميين لو اتفق مع الدعم السريع على تسوية للسلام تضمنت تسليم المتهمين للجنائية؟
5. تؤكد رؤى الكتاب أن الإسلام السياسي هو "سرطان" في جسد البلاد، قام بتفجير التناقضات والمظالم التاريخية، ويعتمد على الحرب كوسيلة للانتقام من هزيمته في ثورة 2019. واليوم، تظل الحرب هي ورقة المساومة الأخيرة التي يملكونها لـ"العودة عبر الدم" إلى المشهد السياسي.