باتت صناعة أشباه الموصلات في عالم اليوم أحد أبرز الركائز التي تعزز قوة الدول، بل وتحدد مواقع الدول المختلفة في هرم القوى الدولية، وفي تحديد قدرات تأثيرها في السياسة العالمية، ولذلك ومنذ سنوات قليلة بدأت تتصاعد وبقوة متسارعة ملامح حروب وصراعات جديدة تعرف بحروب وصراعات أشباه الموصلات، التي تسعى فيها الدول، لاسيما الكبرى منها، لتحقيق هدفين استراتيجيين هما:
1. ضمان أكبر قدر ممكن من الاكتفاء الذاتي في مجال إنتاج أشباه الموصلات والرقائق الإلكترونية اللازمة للعملية الصناعية المدنية والعسكرية على حد سواء، وحتى لا تكون هذه الدولة أو تلك تحت رحمة دول أخرى في صناعة أشباه الموصلات لاسيما في لحظات الأزمات الدولية.
2. السعي لتحقيق تفوق في صناعة أشباه الموصلات على دول كبرى أخرى، لتضمن هذه الدولة أو تلك حاجة الدول الأخرى لها بشكل دائم في هذه المجالات، وبالتالي ضمان مستقبل الهيمنة والنفوذ.
مثل تلك الأهداف تستنتج بسهولة من تصريحات وسياسات وتحركات الكثير من الدول الكبرى بشأن أشباه الموصلات، ومن أبرز المؤشرات على ذلك، أن الرئيس الأمريكي جو بايدن اعتبر خلال افتتاحه موقع مصنع لأشباه الموصلات مؤخراً، أن تصنيع هذه المكونات الإلكترونية هو مسألة أمن قومي لاسيما في مواجهة الطموحات الصينية، وفقاً لما نقلته (نيويورك تايمز) الأمريكية في 9 سبتمبر الجاري.
إن أهمية اشباه الموصلات الكبرى تكمن، في أنه لا يمكن تصور وجود الكثير من المنتجات والصناعات بدون أشباه الموصلات، إذ تدخل أشباه الموصلات في صناعة الكثير من الإلكترونيات مثل الهواتف المحمولة والكومبيوترات، وحتى في إنتاج الأنظمة الإلكترونية العامة، وفي صناعة السيارات والسيارات الكهربائية وفي إنتاج أنظمة الطاقة والطاقة النظيفة وغير ذلك كثير.
فضلا عن ذلك يتوقع، أن تكون أشباه الموصلات، محركاً رئيساً وشبه وحيد لإنتاج منظومات تسلح أكثر تقدماً في المستقبل، في عالم يتجه تدريجياً نحو الأتمتة والرقمنة، ولعل أبرز المؤشرات على ذلك، تأكيد الرئيس جو بايدن في 9 سبتمبر 2022، وفقاً لما نقلته (الحرة) الأمريكية، أن الولايات المتحدة "ستحتاج إلى مكونات إلكترونية متقدمة لأنظمة أسلحة المستقبل التي ستعتمد بشكل متزايد على الرقائق الإلكترونية".
لذلك ينظر لأشباه الموصلات في عالم اليوم، كعامل رئيس أو ركيزة رئيسة تعزز قوة الدول بل وتحدد مواقع الدول المختلفة في هرم القوى الدولية، أيضاً تفسر أشباه الموصلات جزءاً كبيراً جداً من تصعيد الصين تجاه تايوان حالياً، والسعي لضمها للبر الصيني بوسيلة أو أخرى، حتى ولو كانت عسكرية كما تتخوف الدوائر الغربية والأمريكية، إذ تتزايد المخاوف من إقرار الصين بعد مؤتمر الحزب الشيوعي الصيني العشرين، والمتوقع عقده في 16 أكتوبر المقبل، لإجراءات أكثر حزماً تجاه تايوان، إذ تسيطر تايبيه على أكبر حصة سوقية على المستوى العالمي في إنتاج أشباه الموصلات، بحصة تصل نسبتها لحدود 63%.
مؤخرا سرعت واشنطن مساعي توطين صناعة أشباه الموصلات على أراضيها، ولعل أبرز المؤشرات الحديثة على ذلك أنه بعد افتتاح الرئيس بايدن موقعاً لأحد مصانع أشباه الموصلات، أقر مجلس الشيوخ في 27 يوليو الماضي مشروعاً لدعم صناعة أشباه الموصلات في الولايات المتحدة، إذ رصد المشروع حزمة دعم لشركات صناعة أشباه الموصلات بقيمة 52 مليار دولار كحزمة أولى، وخصص أيضاً، ما تتجاوز قيمته 100 مليار دعماً لتلك الصناعة على مدى السنوات الخمس المقبلة، إذ تحاول الولايات المتحدة حالياً، أن تعزز موقعها العالمي في مجال إنتاج أشباه الموصلات والرقائق الإلكترونية، أو على الأقل أن تستعيد مكانتها السابقة في هذا المجال.
وفي موازاة المسعى الأمريكي لزيادة حجم الدعم المقدم لصناعة أشباه الموصلات على أراضيها، يتوقع في المراحل الراهنة، أن تعمق الولايات المتحدة من جاذبيتها للشركات التايوانية بشكل خاص، والشركات الآسيوية بشكل عام، المتخصصة في مجالات إنتاج الرقائق الإلكترونية وصناعة أشباه الموصلات، لكي تبني تلك الشركات منشآت جديدة لها على الأراضي الأمريكية، وتبدأ عمليات إنتاجها انطلاقاً من الأراضي الأمريكية، وذلك ضمن سياسة التوطين الأمريكية لتلك الصناعات على أراضيها بشكل عام، وضمن سياق سياسة الاستعداد للسيناريو الصيني الأسوأ.
فسياسة استقطاب الشركات الآسيوية عموماً والتايوانية خصوصاً، بدأ يتزايد الاهتمام الأمريكي بها منذ عهد الإدارة الأمريكية السابقة إدارة الرئيس دونالد ترامب، وبالتزامن مع تصاعد المخاوف الأمريكية من الصين، وسياساتها تجاه تايوان عموماً وتجاه قضية ضمها بالقوة العسكرية، والعمل بشكل أو آخر على استقطاب المواهب التايوانية في مجال أشباه الموصلات خصوصاً، فالولايات المتحدة تنظر حالياً لسياسة جذب الشركات التايوانية والمواهب والقدرات التايوانية في مجال أشباه الموصلات، كأحد الركائز التي يمكن ومن خلالها، إلى جانب ركائز أخرى، تخفيف التداعيات المتوقعة من سيناريو سيطرة الصين على تايوان بالقوة العسكرية أو سيطرة الصين على صناعة أشباه الموصلات في تايوان تكنولوجياً واقتصادياً.
ختاماً، يمكن القول إن الصراع الدولي على أشباه الموصلات بشكل عام، والصراع ما بين الولايات المتحدة والصين بشكل خاص، سيزيد عمقاً في المستقبل، ورغم أن تايوان مسرح رئيس للتنافس ما بين بكين وواشنطن على صناعة أشباه الموصلات حالياً، فإننا لا نستبعد أن تمتد المنافسة لنقاط أخرى، وأبرزها كوريا الجنوبية التي تعد من أبرز الأقطاب الدولية حالياً في صناعة أشباه الموصلات، إضافة لليابان وسنغافورة اللتين لديهما طموحات عريضة، بتعزيز موقعهما في صناعة أشباه الموصلات عالمياً.