النفوذ الفرنسي في أفريقيا، تتساقط حجارته الواحدة تلو الأخرى، بعد مُطالبات رسمية بخروج قواتها العسكرية من الدول التي كانت تخضع لهذا النفوذ، وكان آخرها، يوم السبت الماضي 21 يناير، إذ تقدمت "بوركينا فاسو" بطلب انسحاب لجميع القوات الفرنسية من أراضيها، في غضون شهر.
وخلال مؤتمر صحفي لمح الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون"، في حديث مع المستشار الألماني "ألوف شولتز"، يُشير فيه بأصابع الاتهام لما حدث إلى روسيا، قال: "هناك تخصص للبعض في المنطقة ممن شاركوا فيما نعيشه بأوكرانيا وأعني أصدقاءنا الروس".
سبق مطالب بوركينا فاسو الرسمية ، مظاهرات، كان آخرها الجمعة 20 يناير، في العاصمة "واغادوغو"، تُطالب بانسحاب فرنسا، التي لديها كتيبة من قرابة 400 من القوات الخاصة الفرنسية. ولم تأت هذه الخطوة ، قبل تحضير البديل، الذي أكده رئيس وزراء "بوركينا فاسو"، "ابراهيم تراوري" خلال لقائه يوم الجمعة (أي قبل يوم من الإعلان)، بالسفير الروسي، قائلاً " إن روسيا هي خيار المنطق في الدينامية التي تمر بها البلاد والمنطقة. وأضاف جازما "أعتقد أن شراكتنا مع روسيا يجب أن تتعزز".
في نفس الوقت، لدى بوركينا فاسو ، العديد من المُبررات، التي دفعتها للرهان على روسيا كبديل أمني، في مواجهة النشاط الإرهابي، أهمها، أنها تواجه إلى جانب "مالي"، تمرداً جهادياُ منذ زمن ، وسط ما يراه المسئولون وجانب من الشارع (تواطؤ فرنسي مع الإرهابيين)، و(تبادل مصالح مع الجماعات المُسلحة).
وتُبرر السلطات بأن خطوتها، لا يقصد منها قطع العلاقات مع فرنسا، وإنما، رغبة منها في تنويع الشراكات والتعاون الدولي، بعيداً عن التدخلات والتقييمات الفرنسية. فعلى سبيل المثال، اعتبر المجلس العسكري أن التقرير الذي نشره السفير الفرنسي عن تدهور الوضع الأمني في "بوركينا فاسو"، إحدى ظواهر التدخلات، لذا، طالبوا باستبدال السفير "لوك هالادي"، إلا أن الفرنسيين ينكرون ذلك جملة وتفصيلاً.
يمكن قراءة النفوذ الروسي في أفريقيا، في ثلاثة عوامل استراتيجية، أولها، اعتماد موسكو على عدم قدرة الفرنسيين في مواجهة الجماعات الإرهابية، في دول المنطقة. يتخللها العامل الثاني، المُتمثل في ترسيخ ميليشيا "فاغنر" المًسلحة، والمُدربة روسياً، بصفتها البديل الحاضر، والمتخصص في مواجهة أي تمرد يواجه السلطات المدعومة روسياً، علاوة على العلاقات الودية والشخصية مع صانع القرار الروسي. وهذا يتداخل مع العامل الثالث، وهو تبادل المصالح بين الطرفين، وقد أظهرت هذه العوامل، مدى نجاح النفوذ الروسي، في ترسيخ تواجده، إذ سبق وأن انسحبت القوات الفرنسية من مالي بعد أن ظلت متواجدة فيها لتسع أعوام. يتطابق هذ السيناريو مع أحداث "بوركينا فاسو"، التي استولى فيها المجلس العسكري بقيادة " النقيب "إبراهيم تراوري" على السلطة في سبتمبر 2022 ، وقد دعا علانية، بأنه يسعى إلى "إحياء العلاقات مع روسيا"، منذ انقلابه.
على الرغم من أن جميع المراقبين يربطون التحولات في بوركينا فاسو بأنها محاولة للتقارب مع روسيا التي تعمل فعلياً على توسيع وجودها في أفريقيا، إلا أن أحد الشركاء الجدد الذين تطمح لهم حكومة بوركينا فاسو ، هو تركيا التي تعمل على تعميق بصمتها العسكرية في البلاد، حيث سلمت أنقرة الدفعة الأولى من أربع مركبات قتالية مصفحة من طراز نورول إلى جيش بوركينا فاسو، التي سيتم استخدامها على الخطوط الأولى في إطار مكافحة الإرهاب وفق ما أفاد به موقع الدفاع الأفريقي في 18 يناير 2023، وهذا ليس التعاون العسكري الوحيد، ففي العام الماضي بدأ جيش بوركينا فاسو بتشغيل خمس طائرات مسيرة هجومية تركية.
الاحتمال الأقرب، فيكمن في زيادة النفوذ الروسي في أفريقيا، عسكرياً، مما يُشكل تهديدا لأمن أوروبا، سواء بشكل مباشر، من خلال استهداف مصالحها هناك، أو عن طريق الهجرة غير الشرعية، مما سيشكل أيضاً مزيداً من الأعباء الاقتصادية، والأمنية. بالتالي، استمرار المشهد الحالي. وهذا قد يدفع بالفرنسيين إلى تشكيل ميليشيات مدعومة لها، تحمي مصالحها، وتُهيء لعودتها مرة أخرى للدول الأفريقية التي خرجت منها مؤخراً. على جميع الأصعدة، ستشكل التطورات في بوركينا فاسو وجواراها المنعتق من النفوذ الفرنسي ، العديد من التحديات الأمنية على باقي الدول الأفريقية.