مع اشتعال المشهد الأمني في مختلف بقاع العالم، تبقى الحرب الروسية الأوكرانية إحدى أهم ساحات الصراع العسكري والجيوسياسي بين القوى الكبرى. وعلى الرغم من انخفاض مستوى التغطية الإعلامية، لا تزال التطورات تتواتر على الأرض، وأغلبها ينذر بمستقبل قاتم لأوكرانيا مع امتداد الحرب خلال العام الجاري. تنعكس مصداقية المؤشرات الخطيرة بالنسبة لكييف في تصريحات المسؤولين الأوكرانيين وداعميها في واشنطن حول الحرب، اللذين بدأوا في التحذير من إمكانية انهيار القدرات العسكرية الأوكرانية خلال العام الجاري، في حال جفت المساعدات الغربية، وبالخصوص الأميركية.
تأتي نظرة التشاؤم الأوكرانية والغربية لحيثيات المعركة، بعد فشل الهجوم المضاد الأوكراني في تحقيق أهدافه الطموحة في تحرير المناطق الواقعة تحت سيطرة روسيا. فمع بداية الهجوم المضاد، تعهدت كييف باستعادة شبه جزيرة القرم التي تسيطر عليها روسيا منذ عام 2014، إذ كانت تتطلع إلى استهداف "الجسر البري" الذي يربط موسكو بشبه جزيرة القرم. اليوم، لا يزال هذا الممر الاستراتيجي سليما، حيث لا تزال مدن ميليتوبول وبيرديانسك وماريوبول تحت السيطرة الروسية، وما زالت شبه جزيرة القرم بعيدة عن الخطوط الأمامية.
كان كبير مستشاري الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، ميخايلو بودولياك، أكد أن نتائج الهجوم المضاد للجيش الأوكراني "لم تكن كما توقعنا"، لكنه أضاف أن روسيا "لم تحرز تقدما كبيرا"، وهو ما قد يعتبره البعض إنجازا عسكريا للقوات الأوكرانية. غير أن ذلك لا يغير من حقيقة فشل الهجوم المضاد في تحقيق هدفه المعلن، وهو إلحاق هزيمة مذلة بالقوات الروسية. ومع دخول الحرب فصل الشتاء، تبدو الكفة الروسية على أرض أكثر ثقلا، مع تعديل موسكو استراتيجياتها، وصمود اقتصادها في وجه العقوبات الغربية، وتعزيز طاقتها الإنتاجية العسكرية.
في الوقت نفسه، لا يزال الخلاف ضمن النخب السياسية في واشنطن، الحليف الأهم لكييف، مشتعلا حول تقديم مساعدات مقدرة بعشرات المليارات، مما يضع مستقبل التزام الولايات المتحدة تجاه أوكرانيا موضع تساؤل. يظهر ذلك في ما كشفه تقرير لشبكة إن بي سي نيوز عن اجتماع في البيت الأبيض، 17 يناير 2024، أخبر خلاله الرئيس الأميركي جو بايدن كبار الجمهوريين أن روسيا قد تهزم أوكرانيا في غضون أسابيع إذا لم يدعموا المساعدات. وقال مسؤولون مطلعون على الاجتماع إن كبار المسؤولين الأميركيين يتوقعون تقدما روسيا هائلا وانهيار كامل لقدرة أوكرانيا على الرد إذا جفت المساعدات الأمريكية. مع ذلك، لم تظهر بعد أي مؤشرات تعكس تحولات في الأوساط الجمهورية فيما يتعلق بهذا الملف.
تحليل التحولات على أرض المعركة منذ بدايتها، يكشف تصاعد القدرات الروسية وتكيفها مع التحديات المتمثلة في التسليح الغربي لأوكرانيا. في الأشهر الأولى من الحرب، نجحت القوات الأوكرانية إلى حد كبير في صد الهجوم الروسي وإبطاء تقدمه، بل ودفعه إلى الوراء في بعض المناطق. وكان لأوكرانيا اليد العليا في حرب المسيرات، وتكييف التقنيات التجارية وإدخال أسلحة جديدة لإبقاء القوات الروسية في وضع الدفاع، ولكن مع مرور الوقت، تراجعت قدرة الجيش الأوكراني على تحقيق إنجازات ملحوظة، دون أن تتلاشى بالكامل، وهو ما انعكس في توجيه القوات الأوكرانية هجمات دقيقة على أسطول البحر الأسود الروسي وعلى أهداف في عمق الأراضي الروسية.
في المقابل، وبعد أن عدلت استراتيجيتها، بات من الواضح أن كفة روسيا العسكرية أكثر ثقلا، فقد حولت موسكو صناعتها الدفاعية إلى حالة حرب، ورفعت الإنفاق العسكري نحو أكثر من ضعف مستويات ما قبل الحرب، كما أطلقت الآلاف من المسيرات، بما في ذلك نموذج شاهد الإيراني التصميم الذي يتم تجميعه الآن في كل من إيران وروسيا، مع تطوير قدرات جديدة لاستهداف الدفاعات باهظة الثمن التي يوفرها الغرب لكييف.
تعكس هذه التحولات التي تصب في مصلحة روسيا، ضعف فعالية الاستراتيجية الغربية القائمة على استنزاف قدرة موسكو على الاستمرار في الحرب من خلال العقوبات الاقتصادية الصارمة وتوفير العتاد اللازم للقوات الأوكرانية، بل وتبرز نجاحا ملحوظا للاستراتيجية الروسية المضادة، التي تهدف إلى استنزاف القدرات العسكرية الأوكرانية، والتزام القوى الغربية بتوفير الدعم المالي والعسكري لكييف.
في تقديرنا، تحمل المؤشرات الحالية، صورة قاتمة بالنسبة لأوكرانيا وقدرتها على الاستمرار في الحرب وردع التقدم الروسي. وينذر ذلك بدخول الصراع مرحلته الختامية، التي قد تشهد انفتاحا أوكرانيا على التفاوض مع روسيا من موقف ضعف، تداركا لسيناريو الهزيمة الشاملة، أو تصعيدا خطيرا بين روسيا وحلف الناتو، في حال رفض داعمي كييف في واشنطن قبول هزيمة استراتيجية بهذا الحجم. ومن المؤكد أن تلعب نتيجة الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة الدور الأهم في ترجيح كفة إحدى الاحتمالين.