
تتجه كل من الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا نحو التمهيد لعملية تطبيع وإعادة العلاقات بين الدولتين، وذلك بعد انطلاق مسار اللقاءات بين مسؤولي وقادة البلدين، بعد نحو ثلاث سنوات من جمود شبه تام في العلاقات، وقبل أيام من حلول الذكرى الثالثة للهجوم العسكري الروسي على أوكرانيا.
والتقى مسؤولون كبار من روسيا
والولايات المتحدة في المملكة العربية السعودية يوم الثلاثاء (18 فبراير) لبدء
محادثات بشأن تحسين العلاقات والتفاوض على إنهاء الحرب في أوكرانيا، وذلك بقيادة
وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو ووزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف.
لقد توالت الأنباء عن ترتيبات أمريكية روسية متعاقبة أولها الاتفاق بين لافروف ونظيره الأمريكي، على "إزالة العوائق أحادية الجانب التي تعرقل التعاون التجاري والاقتصادي والاستثماري المتبادل، التي خلفتها الإدارة السابقة"، في سبيل العمل على استعادة "الحوار القائم على الاحترام المتبادل".
كما أن هذه المساعي والمباحثات تأتي
بعد تطور يتعلق بحل بعض المشكلات الأمنية كبادرة حسن نية، وأبرزها تبادل الأسرى بين
الطرفين مع إمكانية أن تتزايد فرص حل مزيد من المشكلات التي كانت تؤثر في العلاقات
المشتركة بين الدولتين، حيث تم إطلاق سراح الأمريكي مارك فوجل بتاريخ 12 فبراير
الجاري، مقابل ألكسندر فينيك، خبير العملات المشفرة الروسي الذي واجه اتهامات
بالاحتيال على البيتكوين في الولايات المتحدة (مجلة تايم الأمريكية – 17 فبراير
2025).
أما فيما يخص المؤشرات الصادرة عن
مباحثات السعودية وتأثيرها في مسار التطبيع بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا،
هناك رغبة مستمرة من قبل الطرفين في تحقيق تقدم على هذا المسار وتحويل المساعي
والرغبات المشتركة إلى آليات عمل، والأهم من ذلك تغيير الفرق الدبلوماسية القديمة
وإبداء واشنطن وموسكو نوعاً من المرونة في الطروحات وتبادل الآراء.
تقول واشنطن بوست إن مناقشات روبيو مع
لافروف أسفرت، عن اتفاق لتشكيل فرق تفاوضية وطرحت إمكانية وجود "فرص اقتصادية
واستثمارية تاريخية" لروسيا إذا تم إنهاء الصراع بنجاح، وبدا أن المسؤولين
الروس ركزوا في المقام الأول على الخطوات الرامية إلى تحسين العلاقات بين الولايات
المتحدة وروسيا، وإنهاء فترة العزلة التي عاشتها موسكو أثناء الحرب (واشنطن بوست -
19 فبراير 2025).
رغم الاهتمام الروسي والأمريكي بهذه اللقاءات فإن هناك عدة صعوبات وتحديات تواجه هذا المسار. بالدرجة الأولى، هذه المساعي لإطلاق مسار التهدئة بين موسكو وواشنطن هي الأولى من نوعها حيث كانت هناك عدة مساع سابقة إلا أنها فشلت في تحقيق شيء. بل على العكس من ذلك أدى فشل هذه الجهود لزيادة مستوى التوتر في العلاقات الدبلوماسية والأمنية بين البلدين، بالإضافة إلى انعكاس ذلك على التطورات الميدانية في أوكرانيا حيث زاد مستوى التصعيد بعد حالات الفشل تلك.
هناك تحد بارز أمام مسار التطبيع وهو
غياب الجانب الأوكراني عن هذا المسار حتى الآن، ما دفع كييف إلى التشكيك في قدرة
هذه المباحثات على إنهاء الحرب، وبالتالي فإن أي إخفاق في إنهاء التصعيد، يمكن أن
يؤثر في مسار تطبيع العلاقات المشتركة أو يقلل من أهميته.
هناك أيضاً التطورات الميدانية على
الأرض، حيث يصر بوتين على تنازل أوكرانيا عن مناطقَ أربعٍ في الجنوب والشرق، مع
الاعتراف بضم القرم عام 2014، وإلغاء فكرة انضمامها إلى الناتو. وترفض كييف هذه
الشروط ساعية لاستعادة المناطق المفقودة. وفي حين تطالب موسكو بضمانات تمنع أي
دولة سوفيتية سابقة من دخول الحلف، يرفض الغرب هذه المطالب.
يقول معهد دراسة الحرب الأمريكي إن من
الصعوبات التي يمكن أن تواجه مسار التطبيع، إصرار روسيا المتوقع على أن أوكرانيا
ليست دولة ذات سيادة. وربما تحاول موسكو عقد صفقة مباشرة مع واشنطن. كما أن بوتين قد
يُدرج في أي اتفاق بنوداً تهدف إلى المساس بسيادة أوكرانيا وقد بدأ فعلاً وضع شروط
مسبقة لقبول الجلوس على الطاولة، ويطالب بفرض قيود على حرية أوكرانيا في اختيار
شركائها وقدرتها على الدفاع عن نفسها. على سبيل المثال، يطالب بفرض قيود على حجم
جيشها (معهد دراسة الحرب الأمريكي – 11 فبراير 2025).
من الموضوعات التي يمكن أن تشكل عاملَ
اختبارٍ مهماً لنجاح مسار التطبيع، التعامل مع الخلافات والتناقضات التي كانت تصل
إلى مرحلة الصراع في الشرق الأوسط، حيث خسرت روسيا إلى حد كبير نفوذها الإقليمي في
سوريا، كما يتعرض الحليف التقليدي لموسكو وهو إيران لضغوط متزايدة من إسرائيل
والولايات المتحدة ويمكن أن ترى روسيا أن جميع التحركات الأمريكية والغربية في
الشرق الأوسط، بدءاً من سوريا والعراق واليمن ولبنان تهدف إلى إنهاء نفوذها
الإقليمي والدولي. في هذا السياق استبعد لافروف قبل انعقاد المباحثات في السعودية
بشكل قاطع إمكانية تنازل موسكو عن أي من مكاسبها الإقليمية، كجزء من التسوية
المحتملة، قائلاً إنه "لا يوجد حتى تفكير" في ذلك.
مع انطلاق مسار التطبيع بين موسكو وواشنطن من خلال عقد المباحثات في السعودية وجدت أوروبا نفسها مهمشة، وهي التي تحملت تحديات عديدة ناجمة عن الحرب الأوكرانية والصراع الأمريكي الروسي في العالم. بالتالي يرى الأوروبيون أنهم خرجوا من المعادلة وتم حشرهم في الزاوية، خاصة بعد التصريحات الأمريكية والروسية التي تتقارب بشأن عدم وجود أي دور للاتحاد الأوروبي في المباحثات.
هذا الوضع يزيد حدة الضغط على دول
الاتحاد، ويسلط الضوء مجدداً على مسألة تخلي الولايات المتحدة عن حماية أوروبا؛ بالتالي
يجب عليها الذهاب نحو زيادة الإنفاق الدفاعي تجاوباً مع السياسات الأمريكية، وهذا
ما يزيد حجم التحديات الاقتصادية لكثير من دول الاتحاد الأوروبي، كما يزيد هذا
التحدي إمكانيةَ تعرض الاتحاد الأوروبي للانقسام والخلاف حول كيفية التعامل مع
الموقف الأمريكي من جهة، والتعامل مع روسيا من جهة ثانية، والتعامل مع التطورات في
أوكرانيا من جهة ثالثة.
لقد حاول قادة الدول الأوروبية
الرئيسية خلال اجتماع طارئ في باريس تشكيل جبهة موحدة بعدما أثار اتصال الرئيسين
الأمريكي والروسي بشأن أوكرانيا استياءهم، إلا أنهم عبّروا عن انقسامات أيضاً في
شأن إرسال قوات حفظ سلام إلى أوكرانيا (فرانس 24 – 17 فبراير 2025).
وقال نايجل جولد ديفيز، الزميل البارز
في المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية في لندن والسفير البريطاني السابق في
بيلاروسيا: "يبدو أن هذه المفاوضات برمتها منحازة لصالح روسيا منذ البداية.
وحتى أن هناك تساؤلاً حول ما إذا كان ينبغي وصفها بالمفاوضات أو بمعنى ما سلسلة من
الاستسلامات الأمريكية" (أسيوشتيدبرس - 19 فبراير).
يقول فرانك غاردنر، مراسل "بي بي
سي" لشؤون الأمن: تجمع ترامب وبوتين علاقة على المستوى الشخصي، وهذا أمر مثير
للقلق بطريقة ما، لأنه وخلال فترة ولاية ترامب الأولى قال علناً إنه يفضل الاستماع
إلى بوتين، بدلاً من الاستماع إلى وكالات الاستخبارات التابعة له، وهو ما كان
بمثابة صدمة حقيقية لمجتمع الاستخبارات في الولايات المتحدة. لكن هذين الزعيمين
لديهما ما يتحدثان عنه، وهو أمر واعد للغاية باعتقادي، وعليك أن تتذكر ما هي
أولويات ترامب. بالنسبة له، الأمر يتعلق بتأمين الحدود الجنوبية، وبالتجارة،
والصين، وهو ليس مهتماً بأوروبا، ورسالته الكبيرة، تتجلى فيما قاله وزير دفاعه
لشركائه في حلف شمال الأطلسي، في أوروبا "أوكرانيا هي مشكلتكم، هذه هي
أوروبا، عليكم حل المشكلة، وإنفاق مزيد على الدفاع" (بي بي سي – 12 فبراير
2024).
المؤشرات القادمة من المباحثات التي جرت في السعودية، توحي بأن المسار الدبلوماسي سيحقق نوعاً من التقدم على حساب المسار التصعيدي. وهذا ما يتبين من حجم التحركات التي يقوم بها المسؤولين الروس والأمريكيون، وحتى إن كانت هناك عقبات وتحديات، فإنه من المستبعد أن تتأثر العلاقات الروسية الأمريكية كما كان يحدث في السابق.