
جلس أباطرة التكنولوجيا في الولايات المتحدة على مقاعد الصف الأول في حفل تنصيب دونالد ترامب. وقد أجمع المحللون على أن هذا المشهد زاد من مخاوف أوروبا من عدم امتثال شركات التكنولوجيا الكبرى لتنظيماتها الرقمية، وازدياد الخطر على الديمقراطية الغربية بعد أن ألغت شركة ميتا ميزة التحقق من المعلومات والبيانات في الولايات المتحدة، وفعلت جوجل الشيء نفسه في أوروبا، واستخدام إيلون ماسك منصته إكس كصوت سياسي متحيز. وأصبح من الصعب قياس العواقب السياسية المحتملة بعد انخراطهم في حملة ترامب الانتخابية.
وفكر الاتحاد الأوروبي منذ عام 2020 في فرض قوانين صارمة ضد شركات
التكنولوجيا الأميركية العملاقة، حيث سعى للحصول على أدلة للحد من دورهم كحراس للإنترنت.
ولم يعد السجال بين الأوروبيين والأميركيين محصورا على المستويات الرسمية فقط، بل
انتقل إلى آفاق أرحب على المستوى الرقمي.
تحفظات أوروبية
اعتبر الاتحاد الأوروبي أن سياسات شركات التكنولوجيا في الانتخابات
الأميركية كانت فوضوية، حيث انقسم وادي السيليكون بين الديمقراطيين والجمهوريين.
وإلى جانب العديد من الشركات التي اصطفت إلى جوار ترامب مثل ميتا وإكس وأوبن آي
وغيرها، كانت لينكد إن من أكبر المانحين لهاريس، كما كان صهرها توني ويست كبير
المسؤولين القانونيين في أوبر مستشارها المقرب (Wired: 30 October 2024).
لقد تناولت هينا فيركونين، مفوضة الاتحاد الأوروبي المسؤولة عن ثلاثية
التكنولوجيا والأمن والديمقراطية، المخاوف التي أثارها المشرعون في جلسة عامة في
ستراسبورغ، بعنوان "الحاجة إلى فرض قانون خدمات رقمية لحماية الديمقراطية على
منصات التواصل". وسعى أعضاء البرلمان الأوروبي إلى مناقشة فرضه بعد ما فعلته ميتا
بإلغاء التحقق من المعلومات في الولايات المتحدة لصالح ترامب.
وصرح النائب الألماني أكسل فوس ليورو نيوز أنه خلال الحملة الانتخابية الأميركية،
رأى الجميع تدخلا مزعجا من إكس التي دفعت الخوارزميات دفعا بمعتقدات ماسك الخاصة،
وذكر أنه طالب الاتحاد الأوروبي بالوقوف في وجه أصحاب المنصات الذين يتدخلون في الانتخابات
الحرة بإشاعة الأخبار المزيفة، وجعلوا منصات التواصل فراغا قانونيا (Euronews: 20 January 2025).
وهكذا ترى أوروبا ضرورة محاسبة شركات التكنولوجيا ومنعها من استخدام نجاح ترامب
ذريعة للتأثير السياسي عبر الإنترنت في العالم، فلا يجب أن يؤثر بضعة مليارديرات
على ملايين الأصوات.
ضغوط سياسية وقانونية متبادلة
يحاول مشرعو الاتحاد الأوروبي مقاومة ضغوط أميركية تهدف إلى عدم تنفيذ القوانين
التي تحد من صلاحيات الشركات. وفي الوقت ذاته يشعر أعضاء مؤثرون في البرلمان
الأوروبي بالقلق من أن المفوضية الأوروبية قد تتراجع عن فرض قواعد صارمة تنظم
وسائل التواصل والمنافسة الرقمية والذكاء الاصطناعي خوفا من انتقام الرئيس الأميركي.
وقد حث كل من رئيس ميتا مارك زوكربيرج ، ورئيس آبل تيم كوك، مؤخرا إدارة
ترامب على الدفاع عن شركاتهم ضد قوانين الاتحاد الأوروبي، لكن هل تقبل أوروبا الخضوع
لتلك الضغوط؟ من المرجح حتى الآن أنها لن تقبل بها، حيث صرحت كريستيل شالديموز،
عضو البرلمان الدنماركي، لبوليتكو بأن المفوضية يجب أن تقف بقوة ضد هذا الضغط، وإذا
أراد أي شخص ممارسة الأعمال التجارية في أوروبا، فعليه الامتثال للقواعد، وأضافت
"لا أحد يجبر زوكربيرج على تقديم خدمات ميتا في أوروبا. وإذا كان لا يرغب في
دفع الغرامات، فيمكنه البدء في التأكد من امتثال ميتا للقواعد الأوروبية".
إن نفوذ الشركات الأميركية امتد ليلعب دورا سياسيا في أوروبا، حيث أكد
تقرير بوليتكو تأييد ماسك للحزب اليميني الألماني المتطرف عن طريق منصته، مما أوجب
المزيد من التدقيق بشأن إكس من قبل قانون الخدمات الرقمية، فقام 38 مشرعا بالتحقيق
في هذا التدخل الذي احتوى على كثير من التضليل (Politico: 20 January 2025).
وعلى الرغم من حالة الاستنكار، لكن الاتحاد الأوروبي لم يتخذ إجراءات قاسية
ضد الشركات بعد، واقتصرت جهوده على محاولة استخلاص تغييرات في السلوك الذي يؤثر
على مواطنيها. على سبيل المثال، تم دفع ميتا لتقديم خيار للمستخدمين الأوروبيين
لاستخدام فيسبوك دون إعلانات مستهدفة. وبدأت الشركة مؤخرا في تقديم هذا الخيار
برسوم اشتراك شهرية. لكن لجنة مكافحة الاحتكار لم تجد ذلك كافيا وطالبتها بأن يكون
هناك إصدار يحمي البيانات الشخصية بشكل أفضل ويكون مجانيا، لكنها اكتفت بخفض سعر
الاشتراك بنسبة 40% (Economic Times: 17 January 2025).
وفي مواجهة التحديات الاقتصادية التي تفرضها العولمة الرقمية، دعت ألمانيا
إلى اتخاذ موقف أوروبي حازم تجاه شركات التكنولوجيا التي تستفيد من البيانات
الأوروبية دون تقديم مقابل عادل. ووصف وزير الاقتصاد الألماني البيانات بأنها
النفط الجديد، مشيرا إلى أن الوقت قد حان لوضع حد لاستغلال الموارد الرقمية دون
تحمل مسئوليات ضريبية متوازنة.
ومن الواضح أن نفوذ الرئيس ترامب يمتد إلى أوروبا، وربما يمارس بدوره ضغوطا
سياسية لتخفيف إنفاذ قوانين مكافحة الاحتكار الإلكتروني بموجب قانون الأسواق
الرقمية الجديد في الاتحاد الأوروبي. حتى أنه هدد بفرض رسوم جمركية.
هل تنقذ هيمنة التكنولوجيا حرية التعبير؟
بعد أربع سنوات من حظر الرئيسين التنفيذيين لشركتي ميتا وإكس لترامب من
وسائل التواصل، فوجئ العالم بتبرع أكبر شركات التكنولوجيا الأميركية بمليون دولار
لصندوق التنصيب. وإذا كانت التبرعات للرئيس المنتخب أمرا شائعا، فإن حفل تنصيبه نال
أكبر دعم لرئيس أميركي على الإطلاق، حيث ضاعفت شركة مايكروسوفت تبرعها المعتاد،
بينما ضاعفت جوجل تبرعها ثلاث مرات. كما تبرعت أمازون وحدها لحملته بمبلغ مليون
دولار، وبثت حفل التنصيب على الهواء مباشرة عبر منصة برايم (Euronews: 21 January 2025).
ويعتقد ترامب أن شراء ماسك لتويتر أعاد حرية التعبير وأنقذ الديمقراطية
الأميركية، ما شجع الأخير لمحاولة تكرار ما فعله في الولايات المتحدة على مستوى
العالم بالتدخل في السياسات عبر منصته، مما يمهد لمواجهة حتمية بين أوروبا وواشنطن.
كما ضاعف زوكربيرج هذا التحدي عندما انضم إلى ماسك في حث ترامب على حماية الشركات من
إجراءات أوروبا، متهما إياها بممارسة الرقابة المؤسسية مثلها مثل الصين.
خلال الانتخابات الأميركية، حذر جيه دي فانس، نائب الرئيس فيما بعد، الاتحاد
الأوروبي من أن أي تدخل في سياسة إكس سيُنظر إليه على أنه هجوم على حرية التعبير بما
يتعارض مع القيم الديمقراطية لحلف الأطلسي. ونشرت إندبندنت أن فانس هدد بأن مثل
هذه الإجراءات من شأنها أن تدفع واشنطن إلى إسقاط دعمها للحلف (Independent:
17 September 2024).
وبطبيعة الحال، فإن هذا الوضع يرقى إلى مستوى الابتزاز، ويضع أوروبا أمام
خيارين، إما تجاهل القوانين المنظمة للخدمة الرقمية، والسماح للمنصات بحرية نشر
المعلومات المضللة وخطاب الكراهية والتدخل السياسي والحصول على البيانات دون مقابل،
أو تحمل عواقب اقتصادية كبيرة ومخاطر أمنية. والغريب أن رد فعل الأوروبيين حتى
الآن لا يوازي مستوى الخطر، وهو استعداد مثير للقلق للاستسلام. حتى أنهم انتقدوا
ترامب لكنهم ترددوا في مواجهة عمالقة التكنولوجيا علنا، فهم لا يخشون التداعيات
الاقتصادية والأمنية فحسب، بل أيضا انتقام منصات التواصل، وقد استخدم ماسك بالفعل
موقع إكس للتنديد بالجمهوريين فما الذي يمنعه من تكرار الأمر في أوروبا.
ويتبين من تقرير المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية أن هذا القلق يتزايد
لأن مجموعة حزب الشعب القوة السياسية المهيمنة في البرلمان الأوروبي من يمين
الوسط، تتبنى جزئيا رواية الثلاثي ترامب ماسك زوكربيرج بأن التقدميين يحدون من
حرية التعبير. وذهب زعماء اليمين المتطرف إلى أبعد من ذلك، عندما انحازت جورجيا
ميلوني ومعها فيكتور أوربان بشكل كامل إلى ماسك وزوكربيرج، وزعما أن إكس وميتا
يدعمان حرية التعبير بشكل أفضل من المفوضية الأوروبية (ECFR: 20 January 2025).
من المفهوم أن قادة أوروبا لا يريدون مواجهة مع واشنطن خوفا من تكاليف أكبر
من الفوائد، وأن مقدار هذا التدخل سيتحول بالفعل إلى أصوات لليمين المتطرف. لكن
البعض يفترض أن تأثيره الانتخابي سيكون ضئيلا، وأنه سيأتي بنتائج عكسية إذا تم حشد
الناخبين المناهضين لليمين المتطرف من خلال تصور أن الديمقراطية في خطر. ومع ذلك،
فإن استرضاء ترامب قد يأتي بتكلفة كبيرة، لأن التدخل التكنولوجي غير المقيد قد
يستقطب السياسة ويسمم الخطاب العام.
خاتمة
إن التوترات بين واشنطن وأوروبا ليست جديدة، لكنها تتصاعد مع تهديدات ترامب
بفرض تعريفات جمركية على سلع القارة التي وجدت نفسها أمام ضرورة صياغة رد اقتصادي
مناسب. وهذا الجدل لا يتعلق بالضرائب فقط، بل يعكس معركة أوسع حول السيادة
الاقتصادية والعدالة الرقمية، يحاولون خلالها تجنب صدام قد يضعف موقف أوروبا على
الساحة الدولية، وإعادة صياغة القواعد التي تحكم الاقتصاد الرقمي بما يضمن توزيعا
أكثر عدالة للثروة الناتجة عن هذا المجال.
من ناحية أخرى ترغب شركات التكنولوجيا في
الهيمنة على السياسة الدولية وتحريك دفة الرأي العام العالمي، فضلا عن تحقيق استفادة
اقتصادية. لقد أدى فوز ترامب، إلى ارتفاع أسهمها في وول
ستريت، حيث ارتفع سهم إنفيديا وألفابت بنسبة 4٪ بعد إعلان النتيجة، واستمتعت
مايكروسوف أوبن آي أيضا بالمكاسب (Raconteur: 13 November 2024). كما أن تعهدات ترامب "بالحفر"
إشارة إلى تجاهله للتحول الأخضر، هي علامة ترحيب بالنسبة لمقدمي الذكاء الاصطناعي
التي تتطلب كميات كبيرة من الطاقة التقليدية والمياه لتشغيل أنظمتها.
وبطبيعة الحال، لا تعاني أوروبا من مشكلة حرية التعبير التي تستلزم تدخل ماسك أو زوكربيرج.
وهكذا تتمثل المخاوف الأساسية في ما إذا كانت القوة السياسية غير المقيدة التي
يتمتع بها مليارديرات التكنولوجيا سوف تقوض الديمقراطيات، فدعم ماسك لحزب البديل
اليميني المتطرف في ألمانيا على منصة إكس كان في الواقع تمويلا غير مباشر
للانتخابات، وهو ما لم تقبله أوروبا. ولكن في الوقت نفسه يجب أن تعترف قوانين
الانتخابات الأوروبية بتأثير التضخيم الخوارزمي كشكل من أشكال النشاط السياسي
وضمان نزاهة المنافسة الانتخابية.
ويتعين على أوروبا فصل المناقشات حول تنظيم المنصات الرقمية عن سياسة
التجارة والمخاوف الأمنية. وإذا فرضت واشنطن تعريفات جمركية، فإن أوروبا لديها أدواتها
الدفاعية. فعلى سبيل المثال إذا ربطت واشنطن دعمها لأوكرانيا بسياسات المنصات
الرقمية، يتعين على أوروبا في المقابل التأكيد على المخاطر الاستراتيجية المشتركة
المترتبة على ضعف أوكرانيا، والذي يقوي بدوره روسيا ويدعم الصين مما يهدد
الاستقرار العالمي.
وأخيرا، ومهما تباينت وجهات النظر، فإن التقاعس عن تحجيم تدخلات شركات التكنولوجيا في السياسة من شأنه أن يشكل
سابقة خطيرة. فإذا قامت واشنطن بحماية أو تشجيع شركاتها على تحدي القوانين
الأوروبية، فإنها بذلك تنتهك سيادة الكتلة وتخاطر بتقليص أوروبا إلى مستعمرة رقمية
تحكمها إملاءات أميركية.